بسبب غياب المحكمة الدستورية : تونس تعيش أزمة دستورية خانقة هي الأخطر منذ 2011
بقلم محمد عبد المؤمن
وفق ما أقر في الدستور الذي تمت المصادقة عليه سنة 2014 فان ارساء المحكمة الدستورية لا يجب أن يتجاوز السنة ، أي كان من المفروض أن يكون هذا الجهاز قد بدأ عمله منذ سنة 2015 ، لكن هذا لم يتم في تلك السنة ولا بعد ذلك حيث بقي اجراء مؤجلا حتى وصلنا الى مرحلة لا تفصلنا عن الانتخابات التشريعية الا أسابيع قليلة.
هذا التعطيل لم يكن الا “وزرا” يتحمله مجلس نواب الشعب الذي لم يولي الأمر أهمية في البداية ، لكنه حين استفاق من غيبوبته أو بالأصح حين قرر من لهم واعز وطني من النواب تحريك الملف كان الوقت قد فات عمليا وان كان انتخاب أعضائها ممكن نظريا مادام المجلس قائما ولم يحل بعد ليحل مكانه مجلس جديد.
هذا التحرك “الماراطوني” الذي شهدناه في الأسابيع القليلة من قبل الائتلاف الحاكم وبعض أحزاب المعارضة ذات التأثير الضعيف قوبل بعراقيل مضادة خاصة من قبل كتلة حزب نداء تونس وكتل أخرى والسبب الظاهر للتعطيل كان رفض شخصية يسارية كعضو في هذه المحكمة وهي رجل القانون والمناضل اليساري العياشي الهمامي باعتباره مصنفا كونه محسوبا على الرئيس السابق المنصف المرزوقي خاصة وأنه دعمه في الانتخابات الرئاسية سنة 2014 ضد الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي.
هذا السبب المعلن ما هو الا الجزء الظاهر من جبل الجليد ، لان المعضلة أبعد وأعقد من هذا وتتمثل أساسا في كون الأحزاب تنظر للمحكمة الدستورية كما نظرت من قبل للهيئات الدستورية المستقلة كونها أدوات تريد التحكم فيها من خلال ترشيح شخصيات محسوبة عليها ولو في الخفاء او على الأقل رفض شخصيات ترى أنها قد تكون موالية لأحزاب أخرى تختلف معها ايديولوجيا وسياسيا.
لو عدنا الى شخصية العياشي الهمامي وهو محل احترام وثقة ، لوجدنا أن حركة النهضة وافقت عليه رغم أنه يساري التوجه بل انه مرشح الجبهة الشعبية اليسارية وهي الخصم اللدود لها .
السؤال هنا: كيف تفهم هذه المعادلة الغريبة؟
الجواب قد لا يكون معقدا بل واضحا وهو أن هذه الشخصية وان كانت يسارية فهي من أشد المعادين للنظام السابق ورموزه ، لكن هذا لا يشمل الا من تعلقت بهم اتهامات أو تجاوزات ، أي أن النهضة تطمئن له كونه حتى وان لم يكن معها أو محسوبا عليها فانه لن يكون ضدها ، بمعنى أن شرط النزاهة والحيادية متوفران فيه .
نعود هنا الى مسألة تعطل ارساء المحكمة الدستورية بغض النظرعن التفاصيل أي ان الاشكال الجوهري هو في تعطل عملها بل وتجاوز الدستور بعدم ارسائها لنجد أن الاهتمام الذي ظهر فجأة كان له قادح وهو الوعكة الصحية الحادة التي تعرض لها رئيس الجمهورية وانتشار اشاعة وفاته حيث كانت البلاد مقبلة على أزمة دستورية فالانتخابات الرئاسية من المفترض أن تجري في أكتوبر القادم أي بعد أشهر قليلة لكن خلو منصب رئيس الجمهورية بسبب الوفاة أو العجز أظهر معضلة وهي : هل تجرى حينها انتخابات مبكرة وان كان هذا فكيف ستتعامل الهيئة المستقلة للانتخابات مع هذا الوضع الذي “حشرت” فيه في غياب جهاز رقابي دستوري ؟
من هنا ظهر جليا كون عدم ارساء المحكمة الدستورية كان خطأ جسيما قد تدفع ثمنه البلاد من استقرارها .
المعضلة الثانية تتعلق بآليات انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية في حد ذاته وفق ما فرضه الدستور ، حيث أن الشروط المفروضة خاصة التي تتعلق بالانتخاب المباشر في مجلس نواب الشعب صارمة جدا فكل عضو يجب أن يحصل على ثلثي الأصوات كاملة أي 145 صوتا من جملة 217 وهذا يتطلب شبه اجماع عن كل مرشح وهو أمر صعب ان لم نقل مستحيل في مجلس تحكمه الخلافات والصراعات بما فيها الإيديولوجية .
لكن بعد تجاوز أزمة تعكر الحالة الصحية للرئيس الباجي قائد السبسي والذي عرف فيما بعد كونه تجاوز مؤقت لا غير ، ظهرت معضلة أخرى لكنها هذه المرة أشد وطأة وأكثر خطورة تتعلق بتنقيح القانون الانتخابي فالدستور يلزم مجلس النواب بتمرير نص القانون المعدل الى رئيس الجمهورية للنظر فيه مع صلاحية رفضه وبالتالي تمريره للاستفتاء الشعبي أو اعادته الى مجلس النواب لإعادة تعديله وفق تعليلات دقيقة وبعدها يمرر مجددا للتصويت وعندها لا يقدم مرة أخرى لرئيس الجمهورية لختمه بل ينشر مباشرة في الرائد الرسمي وسيأخذ حينها صبغة الالزام في تفعيله . لكن ما حصل خرج عن كل هذه الاحتمالات أي أن أمرا آخر حصل لم يتعرض له الدستور وهو أن رئيس الجمهورية لم يرفضه ويطلب تمريره للاستفتاء الشعبي كما أنه لم يرجعه لمجلس نواب الشعب لإعادة مراجعته وفق ملاحظات تقدم بل انتظر نهاية الأجل الدستوري ثم أعلن من قبل مستشاره السياسي كونه يرفض ختمه .
هذه الوضعية أحدثت بلبلة كبيرة لدى الرأي العام واختلافات لدى النخب و المختصين في القانون الدستوري ، فمنهم من اعتبر ما قام به رئيس الجمهورية خرقا للدستور يستوجب عزله على غرار ما ذهب اليه الأستاذ جوهر بن مبارك والقاضي السابق أحمد صواب وهناك من يرى أن رفض ختم القانون الانتخابي المعدل يعني العمل بالقانون القديم والغاء كل التنقيحات والتعديلات التي حصلت.
هنا بالضبط تظهر خطورة الأمر، أي أن المختصين في القانون الدستور اختلفوا بل كثير منهم بات يفسر الوضعية وفق قناعاته وتوجهاته السياسية ، ليتبين مجددا كون غياب أو تغييب المحكمة الدستورية أدخل البلاد في أزمة دستورية هي الاخطر منذ 2011.
بالتالي فان الأزمة الحاصلة تتجاوز كونها اختلاف حول قانون أو تنقيح قانون لتكون أزمة نخبة سياسية دخلت في حسابات مصلحية وهمشت ارساء أهم وأعلى سلطة دستورية بإمكانها الفصل في الخلافات وهي المحكمة الدستورية فالتنقيح لقانون الانتخابات أو حتى غيره ليس المعضلة في حد ذاتها ولا المشكل الجوهري بل تعطيل آليات المسار الديمقراطي هو الخطأ الفادح .
Comments