بورتريه/ عبير موسي: المعارضة “الشرسة” .. والتحديات التي لا تنتهي
المهدي عبد الجواد
فرضت عبير موسي نفسها لاعبا سياسيا مؤثرا في الساحة السياسية والحزبية في تونس. بل ونجحت في افتكاك المبادرة السياسية، بشكل جعلها في التمثّلات السياسية “المنافس” الأبرز والأوحد لحركة النهضة الإسلامية. شقّت عبير موسي طريقا صعبا، منذ 2011، حتى تجد نفسها زعيمة لحزب مُثّل بكتلة برلمانية وازنة(17 نائبا) في برلمان مشتّت، الهيمنة فيه ميّالة للإسلاميين وتحالفاتهم. فقد شكّلت عبير ظاهرة سياسية لم يتم الاهتمام بها كثيرا، قبل ان تتحوّل الى حقيقة سياسية فعليّة لها تأثيرها، ونجحت في خلق حالة استقطاب ثنائي حاد مع الإسلاميين، استقطاب قد يمحو كل قدرة لدى الأحزاب المعارضة للنهضة، على خلق خطاب أكثر دقة ووضوحا من خطاب عبير.
المقاومة في القاع
لم يكن اغلب التونسيين والتونسيات يعرفون عبير موسي قبل 2011، بعض المحامين يتذكرون مواقفها المساندة للتجمع وبن علي، وتصرفاتها في الانتخابات القطاعية بفرع تونس أو انتخابات العمادة، وكذلك مجاهرتها بالعداء لكل من يعارض حزبها ورئيسه. وحتى بعض التجمعيين الكبار، لم يكونوا على بيّنة من تاريخ هذه الشابة التي يبدو ان “الأقدار” دفعت بها للتقاطع مع بن علي وتاريخ حزبه في نهاياته. أمينة عامة مساعدة في التجمع، ومحامية شابة ناشطة في خلية المحامين التجمعيين، كانت هذه “الباجية” في فلك السلطة و “نعيمها”.
ولكن سنة2011، ستكون لحظة انكسار كبيرة، إذ سيتحطم هذا النظام على رؤوس أبنائه. وفي اللحظة التي كان الكثير من التجمعيين يبحثون ”على سلامة الرأس” اندفعت هذه الشابة الشرسة، والعنيدة والشجاعة في أجواء مشحونة بالعدوانية، ودون حماية لتُدافع على التجمع في باحات المحاكم وتواجه “المحامين الثوريين” بوجه مكشوف، تنهال عليها الشتائم و”البُزاق” وحتى الصفع والركل…. لكن ذلك لم يزدها الا صلابة.
سنوات طويلة من “الظلمة” تتحيّن فيها الفرص لتخرج للإعلام، مثيرة النقاش والجدل. ثم لتنخرط في الحزب الدستوري الحرّ مع المرحوم حامد القروي، حزب يحمل في اسمه ومن خلال قياداته حُلم الحزب القديم، في الوقت الذي سارعت فيه الكثير من الوجوه التجمعية والدستورية الى الالتحاق بحزب نداء تونس الذي ضم في صفوفه كل من “هب ودب” من التيارات الوطنية. اختارت عبير حزبا “دستوريا خالصا” بل إنها بعد أن ورثت “الباتينده” عملت على تصفية كل خصومها في الحزب، ليُصبح حزبها، تنظيميا وسياسيا وحتى إعلاميا.
نهاية المرحلة المظلمة
أثبتت نتائج انتخابات 2019، سلامة اختيارات عبير موسي. فقد تلاشت كل الأحزاب ذات المرجعية الدستورية وحتى الأحزاب الشبيهة، التي رامت ملء الفراغ الذي تركه “التجمع”، فلا نداء تونس ولا تفريعاته ولا الأحزاب المعارضة تاريخيا استطاعت ان تحصّل مقاعد تسمح لها بتشكيل قوة توازن مع حركة النهضة. ورغم كل محاولات “التجميع” فان عبير موسي رفضت الاقتراب من “الأحزاب الوسطية” بل إنها تجعلها أحيانا في نفس الموقع مع “الإسلام السياسي” ولا تبخل عليها بنيرانها.
حصّلت عبير كتلة مهمة، ودخلت هي نفسها البرلمان، لتكون صوتا نشازا رافضا لكامل المنظومة السياسية التي أتت بها “الثورة” من داخل أعلى شرعياتها مجلس نواب الشعب. هذا الموقع الجديد فتح للحزب الدستوري الحر و لعبير موسي أفقا ارحب للتواصل مع التونسيين ومع وسائل الاعلام الداخلية والخارجية، وهو ما سمح لعموم المواطنين بالتعرف اكثر على هذه “الزعيمة الجديدة” وباكتشاف المهارات الخطابية والسياسية لها، ولم تترك عبير موسي الفرصة تمرّ، لتفرض في كل مناسبة صوتها ورأيها بشراسة على الجميع.
خطاب بسيط وواضح
اختارت عبير موسي منذ البداية خطابها السياسي، لغة ومصطلحات و محتوى. ترفض اي اشارة الى لغة الثورة، فلا انتقال ديمقراطي ولا حريات ولا دستور ولا عدالة انتقالية… ترفض كل ما تم انجازه بعد 2011، بل إنها افتتحت حملتها المعارضة لكامل المنظومة برفض الدستور وتقدمت بمشروع دستور بديل.
واختارت عبير موسي خصمها بوضوح. حركة النهضة، وعندما كان الجميع يتحدث على التوافق وعلى مجهودات الإسلاميين في القيام بمراجعات نظرية وتنظيمية للانخراط في التاريخ الإصلاحي الوطني التونسي، أحيت عبير التسمية القديمة ” الاخوانجية” تسمية لم تتخل أبدا على استعمالها. ومثلما حملت القوى الثورية النظام السابق والتجمع كل مآسي البلاد، حملت عبير موسي الإخوان كل ما حصل في تونس منذ “الثورة” ساعدها في ذلك ضعف المنجزات الاقتصادية والاجتماعية، واهتزاز المنظومات التربوية والصحية في تونس بعد الثورة.
هذا الوضوح قرّب من عبير الكثير من أنصار التجمع الذين صاروا يرون فيها “المخلّص” من كل ما تعرضوا له من إهانة بعد الثورة، خاصة وان الكثير من منتسبي الحزب القديم في الأرياف والمناطق الداخلية، لم يفهموا سبب التحامل عليهم، لان اغلبهم كان يعتقد –صادقا- انه كان منخرطا في حزب الدولة وان خدمته كانت في باب الانتماء الوطني. إعادة الاعتبار لهؤلاء، ينضاف إليهم انضمام كل من تضرر من الثورة، الفقراء الذين فقدوا مساعدات الدولة والحزب الاجتماعية و الفلاحين الذين تم نسيانهم و صغار الملاك والتجار و نساء الأرياف الذين كانت تحيط بهم “أمهات تونس” و ذوي الاحتياجات الخصوصية الذين تركوا لسبيلهم….كل من تضرر من الثورة، ومن حكم النهضة صارت عبير صوته.
عبير .. و التحدي الكبير
ما حققته عبير الى حد اللحظة مهم جدا، لكنه في اعتقادنا غير كاف. فالحجم البرلماني والسياسي الذي تتحوّز عليه لا يسمح لها بالحكم أو بالمشاركة فيه. و اختيارها للعمل الفردي دون تنسيق مع الكتل البرلمانية الشبيهة بكتلتها يعوق أية نتائج عملية لجهودها، واختيار حزبها التموقع بعيدا عن كل الأحزاب ذات المرجعيات الإصلاحية يضعها في عزلة. لذلك فان التحديات أمام عبير وحزبها كبيرة.
اول التحديات هو القدرة على العمل المشترك مع غيرها من الكتل والأحزاب. فذلك هو السبيل الوحيد لفرض مشاريع قوانين يمكنها تغيير حال الناس من جهة،وفرض الإصلاحات الدستورية الضرورية لتعديل الميزان السياسي في البلاد.
وثاني هذه التحديات هو مدى نجاح عبير في الارتقاء بخطابها من “الخطاب الاحتجاجي النقدي الصرف” الذي لا يرى في الخصوم إلا أعداء، ولا يرى في المختلفين إلا خصوما. انه تحدي مهم، يكفل لعبير وحزبها الخروج النهائي من ذهنية “الآحاد” للتشاركية.
لقد انتهى الحزب الواحد والزعيم الواحد والرأي الواحد ولن تُحكم تونس ابدا خارج المنظومة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. ولذلك فان التحدي الحقيقي هو مدى قدرة عبير موسي على الانخراط في الزمن التاريخي الجديد لتونس، زمن الديمقراطية.
ان الجميع اليوم صار مؤمنا بالدور الهائل الذي قامت به زعامات الحركة الوطنية التونسية في النضال ضد الاستعمار وفي بناء الدولة، وصار لزاما على عبير ان تؤمن أيضا بان المسألة الديمقراطية كانت عائقا حقيقيا “يُفسد” الصورة الرائعة للدولة التونسية.
ديمقراطية أنجزتها أجيال من النخب التونسية التي رفعت مدرسة دولة الاستقلال من وعيها بأهمية الحرية وقيم التسامح ودولة القانون.
تحديات كبيرة مطروحة على عبير موسي وعلى خصومها وأنصارها في نفس الوقت. واحسبني غير مخطئ إذا قلت إنها تحديات أمام كل النخب السياسية والحزبية التونسية، كيف يُمكن ان نبني تونس معا؟ وأي مشروع وطني تحرري اجتماعي يمكننا ان نتفق عليه؟.
ما زال الماضي يحكُم سلوكنا وردود أفعالنا،ويخاف الجميع ما يسكن في ظلماته، وعلينا بناء الثقة مهما كان الطريق نحوها صعبا.
Comments