ترامب ” رئيس للأبد ” .. شر لابد منه!!
بقلم محمد بشير ساسي
قيل قبل أربع سنوات أنّه لم يكن يخطر ببال أيّ من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أنه سيحكم بلادهم رئيس بمواصفات دونالد ترامب.
ورغم أنّ التاريخ السياسي للولايات المتحدة الأمريكية قدّم لنا نماذج فريدة من نوعها سكنت البيت الأبيض على غرار رونالد ريغان القادم من هوليود، وجون كيندي أول كاثوليكي يشغل المنصب، والديمقراطي باراك أوباما أول رئيس “أسمر البشرة”، فإنّ ترامب “رجل المال والأعمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــال” الذي تخلو سيرته من سطر واحد في عالم السياسة، كشفت ولايته الرئاسيّة الأولى صورة أميركا في طبعتها الجديدة سياسة وإعلاما واقتصادا ونفوذا وإن كانت – وفق مراقبين للشأن الأمريكي – لها طبعة وطبيعة خاصة تتعلّق بفجاجة الخطاب واستعداء المعارضين في الداخل والخارج، في مشهد يختزل صورة راعي البقر في أفلام الغرب الأميركي الذي وصل به الأمر إلى تجاهل رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي التي مدت يدها لمصافحته.
الرئيس الخامس والأربعون في تاريخ الولايات المتحدة والذي تعهّد لمواطنيه قبل سنوات ببدء عهد جديد “لا يشبه ما عرفوه من قبل أعتبره البعض تجسيدا لمرحلة “الجنون السياسي” حافلة بالأزمات والصدمات أوصلته مؤخّرا إلى محاكمة برلمانية في لحظة فارقة من التّاريخ الأميركي الحديث بتهمتي استغلال السلطة وعرقلة عمل الكونغرس في ما بات يُعرف بقضية أوكرانيا وعلاقتها بمنافسه في الانتخابات الرئاسية القادمة الديمقراطي جو بايدن والتي انتهت ببرائته رغم كلّ الأدلة الدامغة التي قدّمها معارضوه الديمقراطيون وحتى من بين فريقه الحكومي المقالين من مناصبهم مثل اللفتنانت كولونيل ألكسندر فيندمان – كبير خبراء البيت الأبيض في الشأن الأوكراني والسفير الأمريكي لدى الاتحاد الأوربي غوردون سوندلاند في خطوة وضعها خصوم الرئيس الجمهوري في خانة الإنتقام.
الرئيس “المهووس” بالتغريد على تويتر، أعطى إنطباعا منذ توليه مهامه في البيت الأبيض أنه مخالف للتقاليد والبروتوكولات المتعارف عليها، حيث شن هجوما حادا على وسائل الإعلام الأميركية على خلفية خلاف حول تقديرات أعداد من حضر ومن شاهد حفل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، ومقارنة ذلك بأعداد من حضروا حفل تنصيب سلفه باراك أوباما.
ومنذ تلك الحادثة استعرض ترامب بمعارك لا تتوقّف وأبرزها ما ارتبطت بالتّحقيقات حول التدخّل الرّوسي في الانتخابات التي أوصلته إلى البيت الأبيضْ، قبل أنْ يُـــــبـــرّأه تقرير المحقّق المستقل روبرت مولر من تُهمة التواطؤ مع موسكو..
وثمّة من الملاحظين من ذهب إلى حدّ وصف وصول ترامب إلى سدّة الحُكم بمثابة “السّقطة الأخلاقيّة” التي تتغافل عنها البراغماتية الأمريكية في ظل الإتهامات التي لاحقته خصوصا حول تباهيه بالتحرش بالنساء والتهجم على أعضاء في الكونغرس وقادة دول أجانب.
كما باحت الفترة الرئاسية الأولى التي شهدت هزيمة حزب ترامب في انتخابات الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وانتقال الأغلبية للديمقراطيين في مجلس النواب، باحت بسرّ نفسي ينطوي على عداء وعنصرية شديدين يحمله ترامب ضد المسلمين عبر إصدار مراسيم معادية للهجرة إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى بناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك لمنع تدفق المهاجرين ووقف إعطاء الجنسية لأطفالهم الذين يولدون في الأراضي الأميركية.
رغم كل هذه الكومة من “العُقد السياسية” و”التهور الديبلوماسي” التي طبعت الفترة الرئاسية الأولى لترامب بنظر منتقديه، إلا أنّ الأخير الذي اختار التواصل مع العالم من حوله، عبر تغريداته التي يتابعها أكثر من 71 مليون شخص، عرف كيف يستميل “براغماتية الأميركي” الذي يدغدغه حديث المنافع والخدمات والمصالح وتحصيل الأموال دون إكتراث بما يحدث من فضاعات عسكرية وكوارث إنسانية حول العالم.
ترامب الذي اختار الحرب على الحقيقة – كما اتهمه الديمقراطيون -، أظهرت استطلاعات للرأي أنه يحظى بشعبية كبيرة في الداخل قد تفتح أمامه الطريق للفوز بولاية رئاسية ثانية أوحكم للأبد كما سخر في إحدى تغريداته بعد تبرأته من المحاكمة البرلمانية.
فلا عتاب على حاكم – وإن تجاوزت أخطاءه حدود الأعراف السياسية والديبلوماسية – وهو الذي تقف وراءه قوّة يمينية محافظة تمنحه ما يريد وخاصة على المستوى القضائي بعد أن أصبحت كفة المحكمة العليا – المكونة من تسعة قضاة – تميل لصالح القوى المحافظة، وهو ما قد يهدّد قوانين أميركية أخرى مثل حق الإجهاض وحمل السلاح.
فكثيرا ما يروّج في الفترة الأخيرة أن هناك رضا عاما في الأوساط الأمريكية عن سياسات ترامب الاقتصادية، حيث يتحدّث الأبيض عن نجاحه في خلق أكثر من 7 ملايين وظيفة للمرّة الأولى في التاريخ إضافة إلى تخطي متوسط الدخل السنوي للعائلة الأميركية 63 ألف دولار في العام 2018.
وفي الوقت ذاته، تشير الأرقام أن سياسات ترامب الاقتصادية حافظت على نسبة بطالة منخفضة شبه ثابتة ناهزت 3.5%، وهي من أقل النسب في تاريخ البلاد في الوقت الذي ارتطبت فيه تلك السياسات بخوض حرب تجارية ضد الصين وغيرها من القوى العالمية روج لها الرئيس الأمريكي كحروب ضرورية لحماية العامل والمُصنّع والمستهلك الأميركي.
وفي خطاب حالة الاتحاد” السنوي استغل ترامب المناسبة لاستعراض إنجازاته مشيرا إلى أنه بفضل سياسات إدارته أصبحت الولايات المتحدة مستقلة في قطاع الطاقة، وباتت المنتج الأول للنفط والغاز الطبيعي في العالم، كما أشار ترامب إلى استبدال الاتفاق التجاري مع كندا والمكسيك، وهو ما لم يستطع فعله رؤساء من قبله، وفق تعبيره مضيفا أن الرسوم الجمركية نجحت في دفع الصين لتوقيع اتفاق مع الولايات المتحدة يحمي العمال الأميركيين.
ترامب الذي صرّح بأنه جعل أميركا أقوى وأكثر فخرا وأعظم عما كانت عليه من قبل عبر تخصيص ميزانيات ضخمة للقوات المسلحة ناهزت 2.2 تريليون دولار. كما تحدث عن تدشين الفرع الجديد في الجيش الأميركي، وهي قوات الفضاء، ووعد بأن تكون بلاده الدولة الأولى التي تضع علمها على كوكب المريخ.
كما رُفع خلال عهدة ترامب الأولى شعار إنهاء حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأفغانستان وإعادة القوات إلى الوطن بعد تحقيق الإستقرار. فسيّد الأبيض الذي يدافع بقوة عن الأمن القومي الأمريكي ظل كثيرا ما يتفاخر بنجاح حملته في مكافحة الإرهاب والقضاء على أكبر رؤوسه في إشارة إلى زعيم تنظيم داعش ومؤسسه أبو بكر البغدادي و قاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني.
كما عملت الإدارة الأمريكية طوال السنوات الأولى من حكم ترامب على كبح جماح إيران لحيازة السلاح النووي بتطبيق كل صنوف الضغوط حتى وصل الأمر إلى ضرب أهدافها العسكرية في سوريا والعراق ومحاولة تحجيم نفوذها في اليمن ولبنان المتاخمة لحدود الحليفة إسرائيل.
أما بخصوص ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فقد نفّذ ترامب وعده بإعلان “صفقة القرن” بعد طول انتظار، وهي الخطة التي تقدم “طريقا واقعيا” لتحقيق سلام دائم في المنطقة على حد وصفه، غير أنها في الواقع لاقت تنديدا ومعارضة واسعين لأنها برأي الأغلبية الساحقة بمثابة خطوة لتصفية القضية الفلسطينية بكلّ أبعادها السياسية والتاريخية والإنسانية.
وبعيدا عن منطقة الشرق الأوسط الملغّمة، حاول دونالد ترامب بعث رسالة تهدئة وسلام إلى الجزيرة شبه الكورية حين بات أول رئيس أميركي تطأ قدماه كوريا الشمالية، بعد ثوان من لقاء زعيمها كيم جونغ أون في المنطقة المنزوعة السلاح، بين الكوريتين، وفي تلك اللحظة التاريخية التي صافح فيها خصمه أكد على طي صفحة الماضي والمضي نحو المستقبل في مشهد لن ينساه العالم.
إذن، لو أُعتبر كما يعتقد كثيرون، جلوس ترامب على كرسي رئاسة البيت الأبيض قد كشف عن مغالطات وأوهام كثيرة أوصلته إلى محاكمة تاريخية كادت تعصف بمنصبه السياسي
فإنه على عكس ذلك هناك من المعجبين بآداء ترامب، أعطاهم إنطباعا أن هذا الرجل قادر على حماية مصالح بلاده الاستراتيجية حول العالم وأن سنوات التراجع قد ولّت إلى الأبد في ظل حكم رئيس للأبد .. ترامب شرّ لابد منه !!
كاتب وإعلامي تونسي
Comments