تصاعد خطابات القطيعة .. أي ملامح للمستقبل؟
المهدي عبد الجوادعاشت تونس لحظة سياسية مهمة ومزدوجة. فبقدر ما كان الانتقال السياسي بالمصادقة على حكومة المشيشي وحفلات التسليم والتسلّم، علامة فارقة في ترسخ التجربة الديمقراطية و تكريس التداول السلمي على السلطة في إطار قانوني وشرعي دستوري، فإن الخطابات التي رافقت هذه العملية “الرائعة” كانت مخيبة للآمال. بل أنا نعتقد أن ما أتاه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المستقيل و تصريحات محمد عبو في ندوته الصحفية، كانت ضد التيار تماما وعكس طبيعة المرحلة، فقد شُحنت خطبهم بمخزون عنيف بدا حاصا على القطيعة مُغذّيا للصراع مُلوّحا بمستقبل سيقوم على “صراع الملفات” و كشف “المؤامرت”، وهو ما ذهب بالفرح والاستبشار الذي خلقه صعود هشام المشيشي والكفاءات المستقلّة للحكم مع ما يعنيه ذلك من قطع مع مناويل “حوكمة” السياسيين الهواة. وحلّ بديلا له أسئلة جدية حول مستقبل هذه اللحظة السياسية وعلاقة مكوناتها، بل نعتقد أن هذه التصريحات زادت في منسوب الحيرة والتشاؤم لدى فئات واسعة من الراي العام خاصة منها “المهتمة” بالحياة السياسية، وخلقت مناخات صراعات وفرقة لن تكون إلا عراقيل أخرى أمام حكومة المشيشي. خطاب رئيس الجمهورية… الانفعالكان خطاب رئيس الجمهورية انفعاليا هجوميا صداميا، لم يكن مناسبا للمقام ولا المناسبة – أداء اليمين للحكومة الجديدة- . فالخطاب كان مشحونا بمعاجم سلبية مرت من الشتم إلى التخوين….اتهامات بالتٱمر وغرف مظلمة وصهوينة واستعمار مع التهديد بجعل الشعب “شاهدا” بل و”حكما” وهو ما يُعدّ تهديدا مباشرا بالزحف الشعبي، وليس ذلك إلا التعريف الأبسط لمعنى الشعبوية. إن هذا الخطاب كان دالا على شعور بالتوتر والانزعاج، وقد يكون ردّة فعل تُجاه ما تعرّض له رئيس الجمهورية من انتقادات خرجت في بعض الأحيان على آداب اللياقة أثناء جلسة منح الثقة، ولكنه أمر لا يُبرّر في كل الأحوال طبيعة الخطاب الذي بدا وكأنه نتاج إحساس ب “لعزلة” وردة فعل قوية تجعل الرئيس في مواجهة مفتوحة مع النخب المختلفة السياسية والحزبية والكُتل البرلمانية وغيرها. وهو خطاب لا يتناسبُ في الحقيقة مع مقام القول، إذ كانت لحظة تتطلب تحفيزا للحكومة الجديدة وتشجيعا لها حتى تدخل في ممارسة السلطة مدفوعة بدعم رئاسي وقد حصلت على ثقة برلمانية. كان على الرئيس اعلاء قيم التضامن داخل الفريق الحكومي وبين مكونات المشهد السياسي، بتثمين أهمية اللحظة سياسيا، وتحويلها الى أرضية وفرصة للشروع في الانقاذ الاقتصادي، ولا يكون ذلك إلا بالحرص على ضرورة تنقية أجواء السياسة و تقديم الوفاق الوطني، حتى تتوجه العزائم المشتركة للإنقاذ الاقتصادي و الرفاه الاجتماعي. ولكن الرئيس بدا عكس ذلك تماما في قطيعة مع اللحظة سياسيا، وعلى ما يفرضه المنصب من واجبات تحفّظ. و لذلك كان الخطاب استعادة للخطب الرنانة التي ألف الرئيس القائها اثناء “حملته” التفسيرية، فيما يبدو خطابا للانصار و”الخصوم” وليس خطابا للتونسيين. الفخفاخ .. البغضاءيبدو أن الياس الفخفاخ لم يتقبل ما حفّ بظروف دفعه للاستقالة، وقضية تضارب المصالح التي انفجرت ليست سوء تقدير، ولا فسادا في الحوكمة بل هي “مؤامرة”، غايتها الاطاحة بحكومته. ومرّة أخرى يخسرُ الياس الفخفاخ فرصة تواصلية مهمة، كان يُمكن لو تحلّى فيها ببعض الصدق والجرأة، ان يفتح لنفسه بابا على المستقبل. ولكنه خيّر الحلول السهلة، التي تجع منه “الرجل الطاهر” في عالم “الاشرار” ويلتقي في ذلك مع الشغوفين بعقلية المؤامرات، وعوالمها المُظلمة. جعل الفخفاخ من فشله انتصارا للأشرار أعداء الوطن والانتهازيين، حتى بدا وكأن “الحفل” تسليم لتونس لهم، وليس عملية انقال ديمقراطية للسلطة لخلفه هشام المشيشي. واصل الياس الفخفاخ في صلفه وعناده و”غروره”، حتى وهو يغادر السلطة، ولم يرد ان يعترف بكون مروره بالحكومة كان تجربة يُمكن استخلاص الدروس منها، ليس له فقط بل لمن سيخلفه ولكلّ النخبة السياسية في تونس. ففشل الفخفاخ هو فشل جماعي، وزاد في تعفين الأجواء السياسية، ودفعنا لخسارة بعض المؤشرات الايجابية سنة2019 . لقد كان خطاب الفخفاخ مليئا بالرسائل السلبية، لاغلب الفاعلين السياسيين، غلب عليه الطابع التشاؤمي، وخلا من كل دعوة “للامل” في المستقبل، او فرصة لتجاوز هذه اللحظة الصعبة على كل الاصعدة. عمل الفخفاخ على “حرق مراكبه” السياسية وراءه، فجعل الجميع اشرارا وهاجم “حليفه” السابق، رفع قضايا عدلية جزائية وبشبهات تبييض اموال وفساد ضد فاعلين سياسيين مختلفين منهم رئيس الحكومة الاسبق يوسف الشاهد وتلك علامة على تحكم مشاعر الثأر والانتقام، وهي مشاعر لا تتلاءم مع منصب يفترض أن يتعالى على الضعف الإنساني، ونعتقد انه يصدر في ذلك من رغبة في “تعميم” الفساد، حتى يخفّ عليه حِمْلُهُ. محمد عبو…بعدي الطوفانصباح مُغادرته منصبه، فضّل الوزير محمد عبو عقد ندوة صحفية اتهم فيها شخصيات سياسية نواب وسياسيين وأحزاب بالفساد، مُعلما الرأي العام ان حكومته رفعت قضايا بهؤلاء. كان الامر سيبدو رائعا لو تم هذا الامر قبل مدة، ولكن انتظار السيد الوزير حتى لحظة المُغادرة، يجعل المسألة محاولة لــ”تعويم/تعميم” الفساد. فليست حكومتنا فاسدة، وليس رئيسها من سقط بتهمة “تضارب المصالح” فقط، بل كلنا فاسدون. إنها سياسة قائمة على الانتقام، تقوم على الشبهة، ونعتقد أن شعوره بالخسارة السياسية، وخاصة بفقدان “الأصل التجاري” الذي بنى عليه مشروعه، اي محاربة الفساد جعله يعمل على تعميم “شبهات” الفساد على الجميع. ومن مقرّ الوزارة اعلن السيد محمد عبو استقالته من المسؤوليات في حزب التيار الديمقراطي، فيما بدا عدم تمثّل للفصل بين الحزبي والحكومي. لقد كرّست الندوة الصحفية للسيد الوزير السابق حالة الاحتقان داخل المكونات السياسية وبين الفاعلين الحزبيين، إذ اتهم محمد عبو حركة النهضة بتبييض الاموال وبالفساد، منتصبا شاكيا وقاضيا حالا محلّ القضاء. وان كُنّا لا نملك غير تشجيع محاربة الفساد الحقيقية القائمة على اصلاح التشريعات وعلى استقلالية القضاء، فإنه لا يُمكننا غير إدانة سياسة “الملفات” القائمة على التهديد والابتزاز، فأي ضمانة على كون هذه القضايا التي تم رفعها في اللحظات الاخيرة كانت معلومة ومخفية لمثل هذه اللحظات؟ هل يمكن بناء ديمقراطية قائمة على “المُخاتلة” وفق منطق “كل واحد شيطانه(ملفه) في جيبه”؟ اشترك الثلاثة ( قيس سعيد والفخفاخ وعبو ) في خطاب المؤامرة، ثلاثتهم طاهرون وانقياء ووطنيون، أما الآخرون ففاسدون ووسخون وخونة. هذا الخطاب القائم على نفي الآخر في صيغ تعميمية خطير، لأنه يزيد في الاحتقان ويُوتر المناخات السياسية الأمر الذي يعطل العمل الحكومي. و يردّ هؤلاء الثلاثة مباشرة على طلب رئيس الحكومة بضرورة “هدنة سياسية واجتماعية” بين مختلف الفاعلين، ويخلقون أجواء لن تزيد الساحة الا توترا. ولا نحسب أن هذه المقدمات بشائر خير فرفقا بالبلاد وبالعباد.
|
Comments