تهديد عبير موسي .. الديمقراطية السّجينة
المهدي عبد الجواد
أبلغت السلطات الأمنية التونسية عبير موسي النائبة بمجلس نواب الشعب، و رئيسة الحزب الدستوري الحرّ بوجود تهديدات جدية، مُختلفة المصادر لاغتيالها. و رغم أن عبير موسي تعيش منذ مدة، تحت طائلة التهديد، فإن صدور هذه التحذيرات عن فرقة مكافحة الإرهاب، و في هذا التوقيت المُتزامن مع اشتداد الاحتقان السياسي و السجال بين الكُتل البرلمانية، يجعل المخاوف من الانزلاق من جديد نحو سيناريوهات العنف المخيف و الاغتيال السياسي جدية.
لقد تميّز حضور عبير موسي، في الفضاء السياسي بوضوح الخط و الخطاب، و بإصرارها على تحديد الهدف. استهداف حركة النهضة و رئيسها و كل ما له علاقة بها داخليا و خارجيا، مع تجنب كل ما من شأنه أن يخلق تقاطعا حتى و إن كان عرضيا معها.
وعملت خاصة منذ وصولها على رأس كتلة برلمانية محترمة في البرلمان على فرض عداء واضح وصريح مع النهضة وحرصت على التوقف عند “كل شقيقة و رقيقة” في مواجهة خصمها شعارها في ذلك “لن تمروا”
قاد ذلك الى الكثير من التلاسن و التوتر و توقفت أشغال الجلسات أكثر من مرة. لكن عبير موسي لم يُعرف عليها في اي لحظة دعوة الى العنف او ممارسة له، فعلى العكس تماما كانت دائما عرضة له، و يتذكر الجميع، الدخلاء على المجلس الذين ساعدتهم كتلة ائتلاف الكرامة على التسلل لرحاب المجلس و الاعتداء بالعنف على عبير موسي.
إن هذه التهديدات الأخيرة، تأتي في سياق تواترت فيه المؤشرات الداخلية و الإقليمية و الخارجية على عملية فرز تُريد موسي فرضها سياسيا في علاقة بالنهضة و رئيسها. فمرورا باتفاقيات التجارة بين تونس و قطر، و تونس و تركيا من جهة، و مسألة الطائرة التركية المحملة بالمساعدات التي حطت بجربة، وصولا إلى الاتصالات الهاتفية الخارجية التي يُجريها رئيس البرلمان راشد الغنوشي، كانت عبير موسي مصدر “إزعاج” حقيقي لحركة النهضة و حلفائها.
لكن ذلك ظل في مجال الفعل السياسي، و الحق في المعارضة. لذلك اتكأت عبير موسي على الوسائل القانونية البحتة من رفع القضايا و تقديم العرائض إلى طلب المساءلة، ولم تدعو أبدا للعنف، بل إنها اتخذت لنفسها مسافة مع كل دعوات الاعتصام و التظاهر للإطاحة بالنظام و حل البرلمان، ملتزمة بالعمل من داخل المؤسسات.
رغم الشراسة في معارضة النهضة و رئيسها، فإن تكفير عبير موسي و تهديدها، و تجنّد صفحات فايسبوكية للتعرض لها ولعرضها ولأسرتها ردّ فعل غير متناسب سياسيا. فهي تنشط في المجال السياسي المسموح به، بل هو شرط الحياة الديمقرطية، أما خصومها فإنهم يتحركون بردود الفعل هذه، في فضاء ما قبل الدولة و ما قبل الديمقراطية، فضاء “الغضبة”، و الحمية في النّصْرة والميل للعنف، و هي ردود أفعال تعكس “الذهنية القبلية” و لا تدل على البنيات الحزبية اللازمة في الديمقراطية.
إن هذه التهديدات التي تأتي في مناخات من الاحتقان تتنامى فيها خطابات الكراهية والعنف والتكفير، تستعيد أجواء سنتي 2012/2013. حيث ارتفعت حينها مثل هذه الأصوات واستهدفت مثل سنة 2020، السياسيين و نُشطاء المجتمع المدني و الإعلاميين، وتعرضت لكل أصناف الأصوات المختلفة تحت مُسميّات متعدّدة، من المس بالمقدسات، إلى الحريات الفردية كالحق في التظاهر و التعبير وصولا إلى النشاط السياسي و المدني.
في هذا المناخ المحتقن، لا يفوتنا التنويه بالمجهود الأمني، فالشكر للقوات الأمنية على مواصلة عملها بطريقة عالية الحرفية، فرغم الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد، و ارتفاع مخاطر الكورونا، فإن مقاومة الإرهاب تواصلت بوتيرة عالية ضمنت امن البلاد و العباد، و نجحت الفرق المختصة في تفكيك خلايا و في الإطاحة بإرهابيين و جنبت تونس عمليات إرهابية.
ليس إعلام عبير بما يستهدفها إلا علامة على كون الدولة تشتغل بطريقة فعالة، وان أجهزتها الأمنية و العسكرية تقوم بمهامها الموكولة إليها دون مجاملة و بلا حسابات سياسية أو مراعاة للــ”انتماءات” الحزبية.
وهذا هو الشرط الأساسي الذي يُوفّر السلم و الأمن الضروريان لحياة سياسية سليمة، تقوم على التنافس البرنامجي بعيدا على منطق “التنافر” و التباغض و العنف اللفظي و المادي. شروط لم تتوفّر بعد لدى النخب السياسية، التي تُبرهن كل يوم على “غياب الثقافة الديمقراطية” لديها، فيكثُر عندها خطاب العنف و التفرقة و الكراهية، مما يجعل “الديمقراطية سجينة” لدى نُخب “سجينة” أمراضها الإيديولوجية و تمثلاتها غير السليمة للحياة السياسية السليمة في بلد ديمقراطي.
و لعل هذا ما يفسر انعدام الثقة بين عموم المواطنين و الفاعلين السياسيين، وضعف الإقبال على الانخراط في الفعل السياسي. وليس أمام المشتغلين بالأحزاب و السياسة غير الارتقاء، بخطابهم و سلوكهم لتكريس القيم الديمقراطية، قيم الاختلاف و الحرية، لمحاصرة كل انزلاق إلى العنف، و كل محاولة ردة على المسار الديمقراطي، و كل مظاهر الشعبوية و الفوضى.
Comments