تواطؤ جماعي في حق المدرسة !
المهدي عبد الجواد
تعيش تونس منذ سنوات على وقع توتّر دائم في قطاع التعليم. و بلغ هذا التوتر أوجه السنة الفارطة، ليبلغ مستوى الكارثة هذه السنة. يتم ذلك وسط صمت رسمي من رئاسة الحكومة و من أحزمتها السياسية و الحزبية و البرلمانية، و خاصة في ظل تجاهل تام من وزير التربية لعمق الأزمة التي تمسّ قطاعا حيويا يُشرف عليه، و يمسّ تقريبا كافة الأسر التونسية. لهذه الأزمة إذن، عناوين… إنها إعلان فاضح على عمق الأزمة السياسية التي تعيشها تونس، وهي تعبر عن أزمة قيادة في الوزارة و في النقابة.
يجهل الكثيرون إن بوادر المشروع الوطني العصري، في تونس – و في كل البلدان العربية المعنية بالنهضة و التقدم – كان له عنوانا واضحا ووحيدا، هو التعليم و تحديثه. و لذلك كان أوائل المصلحين في مصر و في الشام و في تونس، من الذين تلقوا تعليما عصريا، في بلدانهم أو من خلال البعثات الدراسية إلى الخارج، فرنسا و بريطانيا و بدرجة اقل ايطاليا.
و معركة تحديث التعليم الزيتوني كانت عنوانا صريحا على بدايات تبلور المشروع الوطني التونسي العصري، و لذلك خاض فيها الجميع، و كان تأسيس المدرسة الصادقية و العلوية و الخلدونية، علامات مهمة، و قد تكفل خريجو هذه المدارس و خاصة المدرسة الصادقية، ليس بالإصلاح الديني و الثقافي و الاجتماعي فقط، بل في النضال السياسي خاصة.
و كانت اهم محاولات إصلاح التعليم في صلة دائما بالإصلاح الوطني في مفهومه الشامل، و كان من علماء و تلاميذ الزيتونة طليعة المصلحين الدينيين و الاجتماعيين، فصوت الطالب الزيتوني و مشاركة بعض الزيتونيين الشبان في معارك التحرير المتنوعة، و أشهرهم الطاهر الحداد الذي تداخل عنده الإصلاح الديني بالإصلاح الثقافي و الاجتماعي و السياسي.
و منذ نهاية الأربعينات في القرن الماضي، بادر بعض النقابيين و المناضلين السياسيين و على رأسهم المرحوم محمود المسعدي و احمد بن صالح و نورالدين البودالي و مصطفي الفيلالي، بالشروع في صياغة تصور لإصلاح التعليم، صدر على “نقابة المعلمين”، و ضمّنُ هذا المشروع في التقرير الاقتصادي و الاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل، و الذي تحول بعد الاستقلال الى “البرنامج الفعلي” لعمليات الإصلاح الاجتماعي في تونس المستقلة.
و أشرف على تنفيذ هذا التقرير أحمد بن صالح في جوانبه الاقتصادية و الاجتماعية، و لكن و خاصة محمود المسعدي في ما يتعلق بالتربية و التعليم. حيث تكفلّت المدرسة التونسية بصناعة “التونسي” العصري، تونسي دولة تونس المستقلة. و لذلك اهتمت المدرسة به من كل جوانبه، الصحية من خلال حملات التلقيح و النظافة و التغذية السلمية، و الذهنية من خلال التعليم الذي لاءم بين الفخر بالانتماء التونسي و العربي و الاطلاع على التجارب العالمية الإنسانية في كل المجالات، و الاجتماعية، فقد كان التعليم وسيلة الانعتاق و التحرر الاجتماعي من قيود الجهل و الخرافة و الجهوية و العروشية، و كان وسيلة ابناء الفقراء و أبناء “مجاهيل” البلاد الى التمدين و الخوض في صياغة مستقبل تونس الحديثة، المهنية من خلال ربط التعليم في جزء كبير منه باحتياجات السوق الوطنية الواعدة. و لتونس ان تفتخر بكونها من الدول العربية القليلة التي “تونست” إطاراتها بل و شرعت منذ نهاية السبعينات في تصدير خبراتها الى جميع أنحاء العالم في كل الاختصاصات حتى الدقيقة منها.
لكن هذا التمشي الوطني توقف منذ مدة طويلة. و فقد التعليم التونسي بريقه، و نجاعته.ّ وصار في آخر سلّم الاولويات و هو ما يُترجمُه التناقص المستمرّ للاعتمادات الموجهة لوزارة التربية، و تلتهم نفقات الأجور الجانب الأغلب منها. و تكرّس العبث بالتربية و التعليم خاصة بعد الثورة.
الانهيار الكبير الذي تعرفه المؤسسة التعليمية، مثلها في ذلك باقي المؤسسات العمومية الأخرى، بلغ درجات رهيبة. في إطار من “البهتة” الجماعية، تكاد تصل الى درجة التواطؤ الجماعي.
فمنذ بداية السنة، تعرف المدرسة شدا و جذبا كبيرين، هما انجرار لمشاكل منذ السنة الفارطة بل و مما قبلها، و هي من القضايا الواضحة القليلة التي تعود الى عهد بن علي. فوزير التربية الحالي هو آخر وزراء التربية في النظام السابق. و كان – في تقييم النقابيين – من افشل الوزراء الذين مرّوا على هذه الوزارة ناهيك، ان من أسباب تأجج الاحتجاجات على بن علي في تونس، هو الالتقاء المُفاجئ بين اساتذة التعليم في وقفتهم الاحتجاجية يوم 27 ديسمبر 2010، امام مقر الوزارة في شارع باب بنات، و المحامين الذين كانوا يحتجون على اقتحام محكمة سيدي بوزيد و القصرين آنذاك.
هذه السنة تلوح فيها بوادر سنة بيضاء. فقد الجميع فيها الرغبة في المدرسة. الأساتذة مدفوع اغلبهم بواجب “التضامن” القطاعي، يذهبون في كسل الى معاهد، باردة و رمادية لا رائحة فيها للدرس او العقل او الإبداع. تلاميذ حيارى، إقبالهم على المدارس من جنس بقائهم نياما، و فتحهم للكتب و انجازهم للتمارين من قبيل “نحان الملام”، و أولياء، يبذلون الغالي و النفيس، يتداينون و يحلمون بنجاح أبنائهم، و يزداد هذا الحلم كل يوم مرارة و تنغيصا.
نحن في أزمة قيادة في الدولة. و لكن أيضا في نقابة التعليم الثانوي. هذه القيادة التي لم تُدرك ان زمن القصووية المطلبية قد ولّى و ان غياب التمكن من آليات التفاوض و خاصة من خطابه لا تقود إلا الى الخُسران. نقابة التعليم الثانوي تحدت المركزية النقابية التي رفضت اشكال النضال العدمية، التي ترتهن مستقبل التلاميذ و تضع الأستاذ في مواجهة مادية مباشرة تمس من صورته الرمزية عند عموم الاسر التونسية، و اعتقد ان ارتهان العمل النقابي لبعض “التشكلات” ما قبل الحزبية، المفتقدة لأبسط آليات التفاوض و المناورة من أسباب تعمّق هذه الازمة.
Comments