تونس اليوم: في الحاجة الماسة الى “التوافق الوطني”
المهدي عبد الجواد
وصلت التجاذبات السياسية والصراعات الحزبية إلى أقصاها. بل ان شدة التنافي والتعادي هذه الأيام بلغت مستويات، لم تبلغها من قبل، حتى وان ساهمت العطلة البرلمانية السنوية في دفعها بعيدا وراء الإحداث المتسارعة، وحذفتها من شاشات التلفاز.
نعتقد أن أقصى درجات النفي هذه مارسها رئيس الحكومة المُكلّف هشام المشيشي، وذلك بإقصائه “التام لكل الأحزاب” من فريقه الحكومي الذي أعلن عليه، في انتظار عرضه على ثقة البرلمان، ويُمارسها رئيس الجمهورية بتكراره حرصه على تجاوز “تمثيلية” الأحزاب وتُمارسه الأحزاب نفسها ضد بعضها البعض، ونتذكر سيناريوهات تشكيل الحكومات وشروط الأحزاب بإقصاء هذا ورفض ذاك، وعلاماته خطاب ائتلاف الكرامة الاقصائي ونقيضه خطاب الدستوري الحرّ.
ووسط الجدل حول هذه الثقة تتواصل الأصوات الاقصائية من مختلف العائلات تبادل “مبررات” التواجد. فلا معنى للإقصاء إن لم يكن سلوكا غريزيا قائما على ردود الأفعال المتبادلة، يتغذى كل واحد من الآخر.
فشل الإقصاء.. الاعتبار
لقد عاشت تونس قبل الثورة عمليات إقصاء عديدة للخصوم السياسيين. إقصاء منهجي اعتمد وسائل الدولة وأجهزتها القضائية والأمنية. فمنذ بداية الاستقلال عرفت تونس محاولات إقصاء الخصوم السياسيين والإيديولوجيين لدولة بورقيبة من اليوسفيين إلى البعثيين والقوميين والى اليسار فالإسلاميين. مرورا بمعارضين آخرين حقوقيين ونقابيين، ورغم ضخامة الآلة البيروقراطية للدولة وثقل وسائل القمع فان الفشل كان نتيجة لكل محاولات الإقصاء.
نعيش اليوم لحظة تتصارع فيها هذه التيارات في فضاء ديمقراطي بشكل سلمي. وأستغرب فعلا، عدم “قراءة” التاريخ لدى تيارات ونُخب مازالت ترغبُ في إقصاء معارضيها، ولكنّ “المُعْتَبَرُ كثيرٌ، والمُعْتبِرُ قليلٌ” مثلما قال الجاحظ.
ان الفشل في اقصاء الخصوم، استمرّ حتى بعد الثورة، إذ ان كل محاولات تمرير قوانين اقصائية من جنس “قانون تحصين الثورة” او “قانون العزل السياسي” فشلت فشلا ذريعا، بل ان موجة “ديغاج” الشعبوية/الفوضوية الشهيرة سرعان ما توارت واختفت وعاد الآلاف ممن تعرضوا “للاقصاء” بتهم واهية الى سالف عملهم، واضعين كفاءاتهم وخبراتهم في تصرف “الجمهورية الجديدة”.
وليس أدل من فشل كل محاولات الإقصاء، من الدور الذي لعبه الباجي قائد السبسي في صياغة توازن سياسي، وعقد شراكة قائم على التوافق مع شيخ حركة النهضة راشد الغنوشي.
فالجميع يتذكر حملات “اكبس” و “إعلام العار” و “القصبة 3” وكتاب الرئيس المرزوقي الأسود والدعوات الى “التطهير” التي استهدفت إقصاء المخالفين “للترويكا” بعد انتخابات 2011، ولكنه يتذكر أيضا ان اعتصام الرحيل الذي قسم البلاد الى نصفين يتبادلان الشتائم والتهديد، انتهى بلقاء باريس الشهير بين الشيخين، وشرعا فيه في هندسة “توافق” جنّب البلاد الانزلاق الى حالة عنف وخفّف من الاحتقان.
التوافق الأول .. تجربة للتقييم
لقد مكّن لقاء باريس بين “الشيخين” من إنقاذ مسار الانتقال الديمقراطي. فقد أعاد الهدوء الى باردو، وتم استكمال صياغة الدستور، الذي –رغم هناته- يظل أفضل من الصيغة الأولى التي حاولت “الترويكا” تمريرها بقوة، كما تمكنت النخب التونسية من انتخاب الهيئة المستقلة للانتخابات وإصدار قانون انتخابي وإجراء انتخابات قبلت بنتائجها كل العائلات السياسية.
وشكّل التوافق القائم بين “الشيخين” القاعدة التي على أساسها تم الشروع في العهدة النيابية والرئاسية 2014/2019، لكن الظروف الحافة بهذه التجربة، و ضعف منجزاتها الاقتصادية وفشل الحكومات الأربع التي تداولت على “السلطة التنفيذية في القصبة” في القيام بالإصلاحات الضرورية من اجل إقلاع اقتصادي يُساهم في دفع “المناوئين” للتوافق في إعادة التفكير فيه وفي جدواه، خلق انطباعا سيئا حول “تجربة التوافق”.
إذ ان الكثير من القوى طورت خطابا بديلا على سياسة “التوافق” لان مصالحها بل وجودها أصلا باتا مهددان. ونتذكّر جيّدا أن إحدى المآخذ المهمة على التوافق، كونه تحوّل إلى جمود، فالاتفاق بين النهضة والنداء ألغى الاستقطاب وأنهى بذلك كلّ مستقبل لمن كان يتغذى به، وقضى على كل من يستثمر في خلق “العداوة”.
ولكن عدم مأسسة التوافق وعدم تحويله الى “ميثاق” شراكة يرسم مشروعا مستقبليا واسعا بين مكونات المشهد السياسي والجمعياتي والمهني تركه اتفاقا شفويا قائما على ثقة شخصية بين الباجي والغنوشي، تكفلت الأيام وظروف الحُكم وضغوط “المتآمرين” في تآكله تدريجيا حتى تحول الى “شبه قطيعة” مُعلنة، واسهم الصراع الذي انفجر في نداء تونس أولا، والذي تحول الى صراع حول السلطة نفسها بين أجنحة النداء ثانيا في التعجيل بانهاء “التوافق” في ظروف سيئة.
رغم كل الهنات التي يُمكن رصدها في تجربة التوافق الأولى، فإن تقييما موضوعيا يجعلها تجربة مهمة، نحتاج عقولا موضوعية لاستخلاص الدروس منها قصد “صياغة عقد اجتماعي وسياسي جديد” يكون أرضية لمشروع وطني مشترك، يكون التوافق فيه أوسع وأعمق واهم.
التوافق الجديد .. عقد المستقبل الوطني
من أسباب عدم استمرار التوافق الأول، قيامه على “اتفاق بين شخصين”، وهما رغم أهميتهما كانا يُمثلان تيارين رئيسين، وأغلبية انتخابية، لكنها لم يكونا يُمثلان أغلبية اجتماعية.
بل نعتقد أن “النّخب” التونسية استثمرت في إفشاله، واشتغلت آلة إعلامية كبيرة في الوسائل الإعلامية التقليدية وحتى في الوسائط البديلة لإفشال هذه التجربة. و لم تستمرّ تجربة “الحوار الوطني” التي رعتها المنظمات الوطنية الكُبرى، واشتركت فيها الأحزاب السياسية المُمثّلة لأغلب الطيف السياسي والقوى الاجتماعية في البلاد، و “انحسر” الابتهاج بالتوافق الوطني الذي نلنا به “جائزة نوبل للسلام” ليُصبح بين مكونين من جملة مكونات وطنية أخرى، وحتى محاولات الرئيس الباجي، إحياء الحوار الوطني/التوافق الوطني من خلال “وثيقتي قرطاج” فشل.
ونحسب ان كل مظاهر “التوافقات” فشلت في المرحلة الأولى من عُمر الانتقال الديمقراطي “2014/2019”. فقد انفرط عقد نداء تونس الذي قام رئيسيا على توافق/مُصالحة بين روافد شكلت تيارات سياسية وطنية متصارعة (دستوريون تجمعيون/يسار/نقابيون/حقوقيون/لبراليون ديمقراطيون) .
مثلما فشلت تجربة الجبهة الشعبية ألأولى والثانية وهي تجربة قامت على توافقات سياسية وإيديولوجية بين تيارات يسارية وقومية متصارعة، كما فشلت تجارب اخرى مثل المؤتمر من اجل الجمهورية الذي قام على توافقات بين علمانيين وحقوقيين وإسلاميين.
من أجل “توافق وطني جماعي”
ان فشل هذه التجارب يدفعنا اليوم الى التفكير بجدية، من أجل خلق هذا “التوافق الوطني الجماعي” الذي يُمكنه من صياغة “عقد اجتماعي وسياسي” جديد، يُجدد مشروع النهوض الوطني الحضاري ويحمي التجربة الديمقراطية، ويكون سدّا أمام كل خطابات الكراهية والتكفير والعنف والإقصاء.
فإذا كانت العرب تقول قديما “بضدّها تُعرف الأشياء” فإن ضديد التوافق الوطني هو الاحتراب الوطني. وحولنا تجارب تُنقل إلينا كل يوم عبر شبكات التلفزيون لأشقاء استبدلوا لغة الحوار بالرصاص وخيار التوافق بالحرب وقيم التعايش بالإقصاء.
ان صياغة هذا العقد/ التوافق الجديد يجب ان يكون من خلال المؤسسات الديمقراطية المُنتخبة وبينها وبمساهمتها. رئاسة الجمهورية ضامن للدستور ولوحدة التونسيين يجب ان تكون في صدارة المؤسسات المساهمة في صياغة هذا الميثاق الجديد، بالشراكة مع مجلس نواب الشعب، الفضاء الذي تتواجد فيه كل القوى الوطنية المُعبّرة على إرادة الشعب التونسي، يسندُهم في ذلك المنظمات والهياكل المهنية، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي طالت المشهد الحزبي والجمعياتي، فاتحاد الفلاحين وكوناكت ونقابة الفلاحين ومنظمة الدفاع على المستهلك وجمعيات البيئة والتنمية المستدامة وعشرات الجمعيات الشبابية قوية التأثير واتحادات الطلبة كلها قوى اجتماعية قوية وصاعدة وذات تأثير ورأي في صياغة “عقد المستقبل الوطني”.
ان هذا المؤتمر الوطني الكبير حيث ستتم فيه صياغة سياسات المُستقبل وتحديد الاولويات وحدود التنافس الديمقراطي السلمي، سيكون درسا آخر تُقدمه النّخب التونسية للعالم.
وسيكون “سرّ تونس” الجديدة التي نُريدها لجميع ابنائها، تونس الديمقراطية وتونس المزدهرة وتونس المتنوعة.
Comments