تونس اليوم: في الحاجة “للإنقاذ” .. لا “للمغامرة” !
منذر بالضيافي
بعد مرور ثلاثة أشهر على “قرارات 25 جويلية”، التي تدعمت واشتد عودها بالأمر الرئاسي عدد 117 الصادر في 22 سبتمبر 2021، بدأ فصل جديد من الصراع السياسي، في “زمن تونسي” يتسم بتصاعد الانقسام السياسي والمجتمعي، وبما يقرب الانهيار الاقتصادي، الذي بدأت مظاهره وعلاماته تبرز للعيان، وتتحول الى واقع يرمي بظلاله على حياة الناس، لتبدأ الحيرة الممزوجة بالقلق والخوف من القادم، حيرة يتشارك فيها الداخل مع الخارج.
فقد تزامن ما يجري من صراع حول السلطة، مع تنامي تخوفات بدأت تشمل حتى البعض من الذين كانوا يعدون من “أنصار الرئيس”، تخوفات من انفراد الرئيس سعيد بفرض نظام سياسي على التونسيين، يقول المتابعين أنه سيكون ترجمة ل “مشروعه السياسي” المجالسي، الذي انتشر منذ أيام عدد من “المفسرين” في الاعلام للترويج له.
وهو “مشروع” غامض، في حين يرى البعض أنه اقرب الى “أنموذج جماهيرية القذافي”، تتم الدعاية له وسط ما يشبه الاجماع على أن هذا الخيار، يمثل خطرا على الوحدة الترابية وعلى الدولة.
لذلك تداعت الأصوات من النخب وأيضا من المنظمات والأحزاب، الى التحذير من تفكيك “دولة بورقيبة” لصالح “جماهيرية القذافي”، وهنا يشدد الرافضين لهذا الخيار، على أن البلاد في حاجة اليوم الى “الانقاذ”، لا الى مشاريع سياسية “حالمة” بل “مغامرة”، ستزيد في تعميق جراح عشرية الفشل والفساد.
تتزامن حالة الانقسام الداخلي، مع تصاعد “التوتر” في العلاقات الخارجية، مع الشركاء الاستراتيجيين لبلادنا، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على خلفية موقفهم مما حصل في تونس، وتمسكهم بدعوة الرئيس قيس سعيد، الى العودة الى المسار الدستوري، الذي قوبل برفض وتصعيد من “القصر”، الذي اعتبر الموقف الغربي، تدخلا في الشأن الوطني ومس من “السيادة”.
و بالمناسبة، لابد من التأكيد على أنه جرت العادة، في ظل ما يعرف “بالأوضاع الاستثنائية “، التي يتعطل فيها المسار الدستوري الطبيعي، أن الحسم يكون دائما في الداخل، مع وجود “أسبقية” لصالح من هو في السلطة، من خلال تحوزه على عنصرين مهمين:
** الاول، ويتمثل في مساندة اجهزة الدولة والادارة، وهي منحازة – وكما جرت العادة – للسلطة الشرعية القائمة ، أي للرئيس قيس سعيد في وضعنا الان، وتلك عقيدتها منذ تأسيس الجمهورية.
** والثاني – وان كان بأقل درجة – هي موازين القوى على الارض، نقصد هنا الأحزاب والمجتمع المدني، و مواقف النخب وأخيرا الراي العام الواسع ( الشعب) الذي نجده حاضرا بقوة في الخطاب السياسي الرسمي، في حالة تونس الراهنة، بل انه اخذ بعدا ” شعبويا” لا يخلوا من “التوظيف السياسي”.
في واقع الحال، وبعد 25 جويلية 2021، فان الجميع يقر بأن هناك اسبقية كبيرة للرئيس سعيد، برغم الأخطاء العديدة في التسيير، الناجمة عن غياب التجربة في ادارة الدولة، وكذلك الافتقاد لرؤية وبرنامج واضحين ، وهو وضع ما زال مستمرا حتى بعد الاعلان عن “حكومة الرئيس”، بقيادة السيدة نجلاء بودن، التي تعد هي أيضا غريبة على الحياة السياسية، فلا يعرف ها قبل تعيينها أي نشاط سياسي معلوم.
مع ذلك يحافظ “القصر” على “أسبقية سياسية وشعبية”، خاصة مع خصومه المباشرين، وهم ” النهضة ” ومن حولها، فهو الى الان في وضع المستفيد، من فشل منظومة ما قبل الوضع الاستثنائي، الموسومة بالفشل والفساد، ولم تبرز لحد اليوم وبعد 90 يوما من “قرارات الرئيس” معارضة ذات ” مصداقية” وعمق شعبي، من خارج منظومة الحكم السابقة بزعامة الاسلاميين، الذي افل نجمهم، من خلال رفض مجتمعي غير مسبوق في تاريخ هذا التيار.
وحتى الضغط الخارجي، الذي هو في تصاعد بل أنه أصبح “عالي جدا” حاليا، فان غايته و منتهاه لا يمكن النظر له في خانة استعادة ” الديموقراطية المغدورة” فقط على اهمية ذلك، خصوصا في ظل وجود تيار امريكي وغربي راهن – ويبدوا ما يزال – على الاستثمار في التجربة التونسية.
على أن الاهم، بالنسبة لأمريكا والغرب، هو “الاطمئنان” على تأمين المصالح، والاستقرار في تونس وفي المنطقة، وهذا ما يجب ان يدركه قصر قرطاج، الذي عليه ان يدرك أيضا طبيعة الصراع الاقليمي والدولي، حول تونس وفي المنطقة، بين القوى التقليدية والصاعدة، والذي لا يمكن في نظر واشنطن وغيرها من العواصم الغربية أن يكون محل للدخول في “مغامرات” لأنه سيكون “مقامرة” غير مربحة، خاصة في وضع بلادنا الحالي، التي ليس من السهل أن تقوم و بقرار سياسي “فك الارتباط” مع ارث تاريخي وثقافي ومصالح متجذرة.
بالعودة للمسار السياسي في علاقة بمنطق الربح والخسارة، فانه وكما بينا في الاوضاع الاستثنائية، تكون دوما الاسبقية لمن هو في السلطة.
لكنها اسبقية يجب الإبقاء على حسن التصرف فيها، والا “سوف ينقلب السحر على الساحر”، والامثلة قريبة في وضعنا التونسي ويعرفها العام والخاص.
خلاصة الشأن الجاري في تونس ” الان وهنا”، و في كليمتين “خفاف نظاف، كما يقول المثل الشعبي المتداول:
1 / / نقطة قوة القصر ، بعد ضعف خصومه وصورتهم ” المشيطنة ” في المجتمع، هو قبضته المطلقة على السلطة، وخاصة اجهزة ممارسة ” العنف الشرعي”.
2/ / أما نقطة ضعف القصر، فتتمثل في غياب البرنامج والتصورات والترويج ل ” مشروع سياسي غامض”، يخيف عامة الناس قبل خاصتهم، والذي ” لو استمر فيه – سيكون محل “تكتل” العديدين لمحاربته و الوقوف لصده.
وقد بدأ ذلك يبرز في تصريحات ومواقف، اشخاص كانوا منذ أيام قريبين جدا من قرطاج، وجيهات وازنة لعل أهمها الاتحاد العام التونسي للشغل، التقت عند التأكيد و بوضوح على رفض الذهاب نحو “جماهيرية القذافي”، وتتمسك بإرث “دولة بورقيبة”.
على أن أكبر “اختبار” يواجه قيس سعيد، سواء في ادارة وتسيير البلاد، أو في “حلمه” بتنزيل مشروعه السياسي في الواقع، هو الوضع الاقتصادي المنهار وشبح الافلاس الجثم على البلاد ، الذي سيجعل المزاج الشعبي، يتغير مائة وثمانون درجة، ما لم تتحقق انجازات وبسرعة، حينها سينقلب الحال من المساندة المطلقة الى المعارضة المطلقة، وهذا هو مزاج التونسي عبر العصور.
في انتظار تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فان تونس اليوم، تمر بلحظة فارقة في تاريخها المعاصر، لحظة غير مسبوقة، وكل السيناريوهات تبقى ممكنة.
Comments