تونس ما بين "الدولة الفاشلة" و"السلطة الفاشية"
أمين بن مسعود*
هي الجغرافيا عندما تضيق أو تتوسّع معها الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدولة معيّنة, وهي الجغرافيا التي سماها المفكر الانثروبولوجي مصري جمال حمدان بأنها “تاريخ جامد” في مقابل التاريخ عندما يكون جغرافيا متحركة.
وهي الجغرافيا السياسية التي تحصر تونس اليوم بين مطرقة “الدولة الفاشلة” في ليبيا وسندان السلطة الفاشية في إيطاليا, فلا محاولات إعادة الإعمار ولغة المصالحة والتسوية وجدت طريقها إلى ميدان الميليشيات, ولا مؤشر حاليا بإمكانية وجود خطاب عقلاني وأداء سياسي معقول لدى أحفاد موسيليني.
ثنائية الراهن والرهان تؤثث الجغرافية السياسية بين تونس وليبيا من جهة وتونس وإيطاليا من جهة ثانية, فمعالجة الهجرة غير الشرعية لآلاف الشباب التونسيين الحالمين ب”جنّة الضفاف الشمالية من المتوسط”, لا تتمّ إلا بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد وهي نتيجة بدورها لن تتحقق إلا بتأمين الشروط الدنيا للاستقرار السياسي والامني في ليبيا.
المفارقة أنّ إيطاليا التي تأتي إلى تونس من زاوية “المطلبية الملحة” لإيقاف إبحار الشباب التونسي نحو سواحلها ولإعادة الآلاف الآخرين إلى الدولة التونسية, لم تدرك بعد أنّ وصفة ترسيخ الشباب التونسي على أرضه كامنة أساسا في تجاوزها هي لمقاربة التقوقع والانعزال قصد البحث عن حلول متوسطية مشتركة تنأى بالضرورة عن المناكفة السياسية التي تبديها روما اليوم حيال باريس وبروكسيل في أكثر من ملفّ وعلى رأسها ملف الهجرة غير الشرعية وبالتالي إعادة الانخراط في المقاربة التشاركية المتوسطية لتسوية الأزمة.
أما الشرط الثاني فمتشكل في تحوّل إيطاليا من عامل توتر في الجغرافيا الليبية إلى عنصر مساهم في المصالحات المحلية والتسوية الشاملة, وفي الحالتين لا يبدو انّ روما الجديدة مقتنعة بمقاربة تونس لشروط التنمية ولمقدمات تجنيب شبابها ويلات الهجرة غير الشرعية.
ولأنّ الدور الإيطالي سلبيّ وغير متعاون ضمن هذه الاستحقاقات التي تطالب بها الدولة التونسيّة, فإنّ الأخيرة لم تتردد في إبراق رسائل تململ ضمنيّ حيال زيارة وزير الداخلية ماتيو سلفيني إلى تونس.
صحيح انّ الدولة التونسية لم توجّه خطابا واضحا بهذا القلق حيال وزير الداخلية, ولكن عدم لقاء رئيس الحكومة يوسف الشاهد به – وهو الذي يصر على الالتقاء بكافة المسؤولين الأجانب لدى زيارتهم إلى تونس-, إضافة إلى التجاهل التام الذي أبدته كافة مصالح وزارة الخارجية للضيف الإيطاليّ, مع وضع خلفية للبطل الإفريقي حنبعل عند غزوه لأوروبا إبان الحرب البونيقية الثانية وراء الوزير سلفيني , كلّها مؤشرات واضحة بأنّ تونس لم تستسغ بعد وصول اليمين المتطرف إلى سدة السلطة في روما وتخشى أن تنتشر هذه العدوى الفاشية في باقي العواصم الأوروبية.
فمن الواضح أنّ اجتماع الفراتي وسلفيني في روما لم يحقق النتائج التي ترجوها الدولة التونسية, ولم يمهد أيضا للقاءات قمة ثنائية بين الشاهد وسلفيني – سيما وانّ الأخير يتبوأ منصب نائب رئيس للوزراء-, وأنّ العنوان الوحيد لزيارته كامن في الترحيل الفوري للمهاجرين التونسيين غير الشرعيين.
وهو عنوان لا تخفي تونس خشيتها منه, لعدة اعتبارات لعل أولها أنّها لا تعرف بالضبط عدد المهاجرين غير الشرعيين في إيطاليا ولكنها تعرف تمام المعرفة انّ عددهم بالآلاف على الأقل, وأنّ عودتهم إلى تونس في مثل هذه الظروف سيزيد من حدّة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتردية في البلاد ومن نسب البطالة المرتفعة, إضافة إلى خشيتها البالغة من أن تنسحب مثل هذه الإجراءات على الدول الأوروبية الأخرى.
ولئن كانت فرنسا وألمانيا اليوم بعيدة عن الخطاب الفاشي لساكني روما الجدد, فإنّ ورقة المهاجرين تمثل ورقة انتخابية جدّ مربحة ومريحة للتيارات الفاشية الزاحفة على معظم عواصم القارة العجوز.
لا يعني هذا الإقرار بأنّ تونس تتبرأ من مسؤولياتها حيال أبنائها أو أنها تدفع بهم نحو المصير المجهول في أمواج المتوسط أو أنها تصدّر أزماتها الاقتصادية إلى الجوار, ولكنّ الصحيح أنّ الدولة التونسية تتمسك بالحلول الجماعية والمشتركة لإشكال الهجرة والمهاجرين غير الشرعيين وتحرص على أن تكون المسلكيات والمقاربات تنموية بالأساس, فالهجرة غير الشرعية تخفي في تفاصيلها وحيثياتها مسعى وحرصا على الحياة الكريمة وللكرامة الإنسانية وهو الأمر الذي يتطلب استدعاء المناهج الاجتماعية والاقتصادية مع المسلك الأمني في التعامل مع المسألة الحرجة.
ولئن قبلت تونس بمبدإ عودة أبنائها من المهاجرين غير الشرعيين, وهو واجبها, فإنها تريد لهذه العودة أن تكون مدروسة من حيث التوقيت ومضبوطة من حيث إمكانيات إدماج البعض منهم في سوق الشغل, ومشروطة بشرط التحقق من الجنسية التونسية… وهو حقها.
وعندما تجتمع في السلطة الإيطالية الجديدة, ثلاثية الانخراط السلبي في المشهد الليبي, ورفض التشاركية المتوسطية في حل قضية الهجرة غير الشرعية, والاقتصار على خيار الترحيل الفوري لآلاف المهاجرين غير الشرعيين, فمن المنطقي أن يعامل وزير داخليتها بالبرود والتململ الذي وجده من التونسيين, حكومة وإعلاما وشعبا.
تقسو جغرافيا الجوار على تونس كثيرا, فالأوضاع المتردية في ليبيا لا تسمح بعودة الاستثمار والتعاون الثنائي إلى وتيرة ما قبل 2011, وحتّى أطر التعاون الهشة المقترحة لا تتجاوز في أحسن حالتها إطار “النفط مقابل الغداء”, أما إيطاليا الراهنة فلا مؤشرات واضحة بأنّها مستعدة أو قابلة لتقاسم “الأعباء والغنائم”, وحين تقع تونس ما بين “الدولة الفاشلة” في ليبيا و”فاشية السلطة” في إيطاليا فأنها تسقط تونس ضحية “نيران” الجنوب و”نزق” الشمال…
*اعلامي وكاتب في الشؤون العربية
Comments