تونس واحتمالات الإغراء الشعبوي
نشر موقع “الشرق21” الذي يديره الاعلامي الفرنسي الان غراش مقال لمراسل الموقع من تونس تيري بريزيون ، تحت عنوان “تونس واحتمالات الاغراء الشعبوي”، وفيه تساءل حول: “التوجهات الشعبوية التي تنبثق في هذا المشهد السياسي المتشتت”.
في ما يلي نص المقال:
أنهى التصويت بالثقة على حكومة هشام المشيشي في 2 سبتمبر/أيلول فترة توتر دامت بضعة أشهر بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد وأهم المجموعات البرلمانية. وتدفع هذه الأزمة التي تمر بها الديمقراطية التونسية بالكثيرين إلى التساؤل حول التوجهات الشعبوية التي تنبثق في هذا المشهد السياسي المتشتت. لكن الحكم على النوايا في هذا المجال ليس دائما بالتصرف الأنسب.
تحصلت حكومة هشام المشيشي في 2 سبتمبر/أيلول بـ134 صوتا من مجموع 217، “لتنهي ” جو التوتر القائم بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد والائتلاف الذي يجمع حزب “النهضة” الإسلامي المحافظ، و“قلب تونس” – الحزب الذي يصف نفسه بالـ“حداثية” والذي يترأسه قطب الاتصالات نبيل القروي، وهو لا يزال تحت التحقيق في قضية تبييض أموال واحتيال ضريبي- و“ائتلاف الكرامة” الأكثر راديكالية من النهضة.
في فبراير/شباط الماضي، كان قيس سعيد قد فرض إلياس الفخفاخ رئيسا على الحكومة. لكن معارضة النهضة المستمرة وشبهة تضارب مصالح للفخفاخ أطاحتا بهذه الحكومة التي كانت قد شرعت في إصلاحات عميقة، خاصة ضد الفساد. استقالة الفخفاخ الذي كادت أن تُسحب منه الثقة سمحت لقيس سعيّد أن يختار خليفته.
يعزم قيس سعيّد الذي انتُخب بنسبة واسعة (72% من الأصوات، 2.77 مليون منتخب) ألا يترك الحكومة بين يدي ائتلاف ينخرط في أعقاب “التوافق” بين حزبي النهضة ونداء تونس بعد انتخابات 2014، والذي كانت نتائج انتخابات 2019 ردا عليه. أما أحزاب هذا الائتلاف، فهي تعتبر نفسها وصية على تفويض شعبي لتحكم باسمه، كما تقتضيه الطبيعة البرلمانية للنظام. لكن رُغم أنه تم اختياره من طرف قيس سعيد، فإن هشام المشيشي لم يكن له خيار آخر سوى أن يكسب الثقة من عند النهضة وقلب تونس، اللذان تجمعهما إرادة اقتسام الحكم.
حرب استنزاف في دائرة مغلقة
اختار هشام المشيشي فريق “كفاءات وطنية” دون انتماءات حزبية. ولا شيء إلى حد اليوم ينبئ باحتمال القيام بإصلاحات عميقة وجريئة للدولة أو للنموذج الاقتصادي للبلاد. لكن هذا لا يعني أن منحه الثقة سيضع حدا لـ“سباق العصي في الدواليب”، كما كتب محمد حداد، وهو سباق بدأ منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني مع المفاوضات الأولى لعزل الأغلبية في برلمان فسيفسائي.
هكذا عاد التوتر تحت قبة البرلمان، حيث تخوض الأغلبية البرلمانية الهشة ومعارضوها -على اختلافهم- حرب استنزاف حول مدى تحكم قيس سعيد في رئيس الحكومة. وقد أعلن رئيس الجمهورية أنه لن يحل البرلمان بأية حال، ما يجبر الفاعلين السياسيين على المكوث في هذه الدائرة المغلقة.
ما أبعد هذه المؤامرات التي تعيش الطبقة السياسية على وقعها منذ أشهر من الصعوبات التي يعاني منها التونسيون. فتونس غارقة في أزمة اجتماعية مزمنة، وهي الآن تواجه تداعيات الأزمة الصحية. إذ تراجع الناتج الإجمالي الخام بنسبة 21.4% في الثلاثي الثاني، كما تفجرت أعداد الهجرة غير الشرعية. فبحسب تقرير لمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وصل 7890 مهاجر تونسي غير شرعي إلى السواحل الإيطالية بين يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب 2020، بينما كان عددهم 1347 في نفس الفترة من العام الماضي. كما تتضاعف الصراعات الاجتماعية حول الماء والتشغيل ودفع الأجور. وفي نفس الوقت، فقدت السلطات الصحية السيطرة على تطور جائحة كورونا التي باتت متفشية في كامل أنحاء البلاد.
لا وجود لنظام مثالي
يزيد هذا السياق من الشكوك حول نجاعة مؤسسات الدولة، وتعود مجددا على إثره فكرة مراجعة الدستور التي لن تحل الوضع على المدى القصير. فخوفا من عودة حكم الشخص الواحد ومن سيطرة حزب واحد (أي النهضة) على البرلمان، حدّ دستور 2014 من طابع النظام البرلماني من خلال إعطاء صلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية الذي يحظى بشرعية الانتخاب المباشر. وتجد الحكومة نفسها في نقطة التوازن بين مركزي السلطة هذين بدستور يسمح بإمكانية صراع شرعية بينهما. فهل يجب تغيير النظام لجعله رئاسيا بحتا، أم بالعكس توضيح بُعده البرلماني؟
لو أخذنا مثال نظام رئاسي كالنظام الأمريكي، نرى موازنة بينه وبين سلطات مضادة برلمانية وقضائية، ناهيك عن طبيعة الدولة الفيديرالية واستقلالية الإعلام الشرسة. هذه الشروط لا تجتمع في تونس، حيث لا تزال ذاكرة سلطة الشخص الواحد -وريثة الديكتاتورية- تترك أثرا في الدولة وفي المجتمع. لكن للنظام البرلماني مساوئه أيضا، وهي انعدام الاستقرار الحكومي، وشلل القرارات، والقوة المفرطة للأحزاب الصغيرة بسبب دورها الأساسي في تشكيل الأغلبية، والتكتل الاحتكاري لبعض الأحزاب “الوسطية” التي تتفق لتبقى مهيمنة على اللعبة السياسية، فتتفاوض لاقتسام مصالح السلطة وإبقاء الأمور على حالها. بعبارة أخرى: لا وجود لنظام مثالي.
خيانة الأحزاب
في تونس، لم يسفر تفكك النظام الحزبي الموروث عن الديكتاتورية على تشكل أحزاب حاملة لمصالح أغلبية الشعب. كما يخلق ضعف تمثيل الأحزاب الحالية ظروف أزمة سياسية. صحيح أن المنتخبين يعبرون عن آرائهم من خلال التصويت لأحزاب تشكل البرلمان، لكن من أين تستمد هذه الأحزاب قوتها؟ ومن يمولها؟ وكيف تجلب لنفسها أصوات الناخبين؟ تعتمد النهضة على قاعدة منتخبين يتراوح عددهم بين 400 و500 ألف صوت، يربطهم بالحزب تاريخ مؤلم أو قدرة الأخير على إعادة توزيع فوائد السلطة محليا. لكنها باتت عاجزة على استهواء ناخبين جدد، فقد فقدت هويتها بسبب التسويات التي قامت بها. أما ناشطوها، فالخوف من أن يتم إقصاؤهم مرة أخرى يجعلهم يدافعون على النظام الحالي الذي قَبِل بوجودهم.
أما قلب تونس، فهو ثمرة الخلط بين الإعلام والمال والسلطة. فلحصد الأصوات، أسس هذا الحزب لمجموعة من التابعين المتوسلين بتجاوز قانون الأحزاب السياسية، بينما يقدّم نفسه كقطب “حداثي”. وبالنسبة لائتلاف الكرامة، فقد خاض الانتخابات بديماغوجية مبنية على منطق الهوية الدينية والسيادية. فبعد أن قدّم الحزب نفسه على أنه التمدد البرلماني لقيس سعيد، بات في حرب ضد رئيس الجمهورية غداة الانتخابات. ويستعمل اليوم ائتلاف الكرامة وزنه السياسي للتفاوض على إدماجه في النظام القائم. وقد خان كل من حزب النهضة وائتلاف الكرامة من جهة، وقلب تونس من جهة أخرى، الوعد الذي أعطوه لناخبيهم بعدم الائتلاف لممارسة الحكم معا.
كيف إذن لهذه الأحزاب أن “تحقق أهداف الثورة وتعزز عملية الانتقال الديمقراطي” وفق عبارة سيف الدين مخلوف، مؤسس ائتلاف الكرامة؟ فالعزوف عن الانتخابات يسمح لهذه الأحزاب بأن تحافظ على وهم أهميتها، كما تمكنهم الزبونية من ضرب البعد السياسي للمشاركة المواطنية. ولن يكفي إصلاح القانون الانتخابي بهدف الحصول على أغلبية برلمانية لحل هذه المعضلة، بل لن يساهم ذلك إلا في تفاقم الهوة التي تفصل بين المجتمع ومؤسسات الدولة. فكيف الخروج من هذا المأزق؟
شعبوية ديمقراطية
ماذا لو كانت الشعبوية هي الحل؟ كثُر استعمال كلمة “الشعبوية” في تونس منذ الانتخابات الأخيرة، إلى أن فقد هذا المفهوم قدرته على تشخيص واقع ما، وليصبح مجرد حكم تقييمي مرادف للديماغوجيا وكره الأجانب والخطر المهدد للديمقراطية. بل بات وفق البعض نقطة التقاء المتطرفين في استغلالهم للمشاعر واستعارتهم لمفهوم الشعب لتمجيد غرائزه المنحطة بالأساس.
بيد أن للشعبوية تاريخ يسبق ارتباطها في الخطاب الحالي بالمرض العضال الذي تعاني منه أزمة الديمقراطية الليبيرالية. وهو تاريخ يربطها بالبعد الاجتماعي للديمقراطية، وقد تم تطبيق الشعبوية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي في أمريكا اللاتينية، وكانت تجربة البيرونية1 في الأرجنتين أهم مثال لها، كما طبقت مؤخرا، في السنوات الألفين، في فينيزويلا مع هوغو تشافيز، وفي بوليفيا مع إيفو مورالس.
ساهم المحلل السياسي الأرجنتيني إرنستو لاكلاو بطريقة واسعة في إرساء فهم جديد للشعبوية، كإعادة تسييس للتناقضات الاجتماعية، وتساهم الفرنسية شانتال موف في التعريف بهذه النظرية. يقول فيديريكو تراغوني، الذي يعيد كتابه الأخير الاعتبار للـ“فكر الديمقراطي الشعبوي”، إن “الشعبويات تطمح إلى حل مصيبة مجتمعاتهم القومية التي تقع تحت وطأ استعمار مضاعف: استعمار الأسواق الدولية الخارجي، واستعمار الطبقات العليا الداخلي حيال الطبقات السفلى”. وقد كان عالم الاجتماع الإيطالي جينو جرماني، وهو مناهض للفاشية وللبيرونية انتفى في الأرجنتين، يرى في الشعبوية الإجابة الشافية على “النمو غير المتزامن” للاقتصاد القومي، والذي يشهد جزء منه -بسبب ارتباطه بالخارج- تغيرات تترك جانبا جزءا آخر لا يتم إدماجه، وينظر إليه على أنه “متأخر”. وفي هذا صدى واضح لما تعيشه تونس حاليا.
تناقضات تعبئة الشعب
يقوم النموذج التونسي على تبعية لرأس المال وللأسواق الخارجية، وعلى استخراج الموارد القومية لصالح المناطق المتوجهة نحو اقتصاد عالمي. وتقود هذا النموذج نخبة مقتنعة أيما اقتناع بأن مهمتها هي “تربية المواطن التونسي”، الذي يواجه رهانات ليست بالبعيدة عن رهانات أمريكا اللاتينية.
في هذا الوضع بالذات، يمكن للنموذج الشعبوي أن يسمح بالتئام الكسور الموروثة عن عملية بناء الدولة، والمصالحة بين تصورين للسيادة: تصور النخبة التي لم تثق أبدا في “الجماهير”، وتراها غير منضبطة وخطرة على الدولة، فهي لا تصلح إلا لكي تكون أداة حركة الاستقلال، وقد وجب تغييرها من “فوق” حتى تطابق أهدافها أهداف النخبة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تصور شعب طالما نظر للنخب الحضرية على أنها موالية للقوات الأجنبية، لتَشاركهما في المصالح والثقافة.
بهذا المعنى، لا تُعارض الشعبوية بين الشعب والدولة، بل تسعى لإرساء علاقة أكثر عضوية بينهما، أو كما يكتب فيديريكو تراغوني: “يتبنى أحدهما فلسفة عمل جديدة تتمثل في التقليص من عدم المساواة، وخلق حقوق، وتحقيق أقصى قدر من العدالة الاجتماعية”. وبهذا، ستحظى الحركات الاجتماعية “باعتبار الدولة ذاتها التي باتت تدعي أنها تمثلها”. طبعا، توجد دائما مخاطر في الخروج من صراط الديمقراطية الليبيرالية، ولا ينكر أحد تجاوزات الشعبوية، من تصرف حِرفي في الدولة، وتأطير سلطوي للمجتمع، وتجاوزات أوتوقراطية، وسيادة منغلقة. وهنا يأتي تذكير تراغوني المنير: “إن العدو الأول للشعبوية هو تحققها”.
التوسيع في القاعدة الاجتماعية للديمقراطية
توجد مسارات عديدة قابلة للاستكشاف لبناء نمو أكثر إدماجا في تونس، مثل القضاء على وضعيات الريع، وتسهيل الائتمان لأصحاب الشركات الصغرى من شباب المناطق الداخلية، وإعادة القيمة لأراضي الدولة للدفع نحو فلاحة أكثر إدماجا اجتماعيا، واحتواء الفاعلين في الاقتصاد الموازي لتوسيع قدرات التمويل في النمو الجهوي، وتعميم الضمان الاجتماعي… فبإمكان جميع هذه التدابير أن تخلق سوقا داخلية، وحدها قادرة على إدماج منسيي الحداثة، وعلى منح قاعدة مادية لاستعادة سيادة اقتصادية.
من المؤكد أن قيس سعيد، من خلال بناء قاعدة سياسية خارج الأحزاب ليخلق صلة مباشرة مع الشعب، وعزمه على إعادة بناء دولة اجتماعية، ومن خلال مشروعه لإصلاح طرق التمثيل الديمقراطي، يحمل إمكانية شعبوية. لكن وبعد مرور قرابة سنة على انتخابه، تأخر الرئيس في اقتراح أفق لنشاطه السياسي، كما أن الشعبوية التونسية تفتقر لتعبئة اجتماعية منظمة لتدعمه بقوتها. لكن لا شيء يمنع الفاعلين السياسيين التقليديين من الأخذ بزمام الأبعاد الديمقراطية والاجتماعية للشعبوية… لا شيء، ما عدا المصالح التي يمثلونها.
لا يكمن الخطر على المسار الديمقراطي التونسي في شعبوية رصينة قد تساهم في توسيع القاعدة السياسية وتعزيز هذا المسار، بقدر ما يكمن في الغلو الديماغوجي وفي النهاية، في فوز النخبوية السلطوية باسم العودة إلى النظام.
كتب جينو جرماني عام 1956 حول الأرجنتين فيما يشبه النبوءة: “توجد ظروف لكي تتحول ديمقراطية الأقليات التي تنتمي لماضٍ قريب، إلى ديمقراطية يشارك فيها فعلا الجميع. وإن لم ننجح في هذه الخطوة الأمامية الحاسمة، فقد نسقط في استبداد أسوأ من استبداد حكم الأقليات الماضي”.
ومن أنذر فقد أعذر.
Comments