حكومات الجمهورية الثانية والخروج على العرف الديمقراطي؟
خالد شوكات*
سيبدأ رئيس الحكومة المكلف جولة مشاورات مع الاحزاب السياسية لتشكيل الفريق الحكومي الجديد، في وضع متأزم لا يحسد عليه، وأمام خيارات صعبة يبدو أحدها أكثر تعقيدا من الآخر، مع حظوظ في النجاح تبدو محدودة للغاية، فذات المقدِمات والقواعد المعمول بها تقود غالبا الى ذات النتائج، وليتوقّع من السيد المشيشي ان يجترح المعجزات، ولا بانت في سيرته سابقا أمارات استثنائية في القيادة تدعو إلى استثنائه قياسا بمن سبقه الى ذات المهمة.
الملاحظة الاولى التي علينا التوقّف عندها في سيرة حكومات الجمهورية الثانية، أن رؤساء الحكومات المكلَّفين جميعا، وعلى اختلاف قدراتهم وكفاءتهم ونزاهتهم، جاءت بهم الصدف المحضة لا القواعد والاعراف الديمقراطية المستقرِة في الأنظمة المشابهة. الصيد والشاهد والجملي والفخفاخ وأخيرا المشيشي، ومع الاحترام الواجب لاسخاصهم، جميعهم جاءوا الى هذا الموقع خلافا للعرف، فجميعهم لم يكونوا رؤساء أو أمناء أو قيادات الصف الاول في الاحزاب الفائزة بالانتخابات، وجميعهم كانوا نتاج قرارات مزاجية وصراعات خفية بين مؤسسات الحكم، وخصوصا في علاقة بالصلة بين رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من الشعب والاحزاب الفائزة في الانتخابات البرلمانية.
الملاحظة الثانية ان تشكيل الائتلافات الحكومية كان دائما ضحية خريطة برلمانية صعبة وتناقضات سياسية وأيديولوجية صارخة لعلَّ أهمها التناقض الاسلامي/ العلماني والجديد/القديم والثوري/الثوري المضاد الخ، وقد تعمَّقت هذه التناقضات والانقسامات اكثر بعد انتخابات 2019 اثر صعود تيارات شعبوية وفاشية، مما وسّع هامش التضارب في المصالح وضيّق هامش الحركة امام بناء التحالفات والائتلافات أكثر فأكثر.
الملاحظة الثالثة ان نصيب المستقلين والتكنوقراط، مع تصاعد موجة الكراهية ضد الاحزاب السياسية، اضحى محور تنافس وصراع واثارة وشعور بالغبن لدى النخب الحزبية، وهو ضرب من ضروب الخروج الصارخ على العرف الديمقراطي، فالانتخابات هي المحدّد الديمقراطي الاول ويفترض ان المواطنين يختارون حكامهم ويمنحنون تفويضهم من خلال العملية الانتخابية، وقد بدا المشهد طيلة السنوات الخمس الماضية محيّرا، اذ عادة ما تترك النتائج الانتخابية جانبا لكي تستسلم الحالة السياسية للصراعات المفتوحة على انواع المصالح والأمزجة والاطراف المتعددة المتدخلة، حتى بلغ المشهد مداه مع تعيين وزراء خسروا الانتخابات، بل رئيس حكومة مهزوم انتخابيا على نحو صارخ، واضحى ما هو مستحيل بحسب الاعراف الدستورية والديمقراطية المستقرة ممكنا في تونس، الامر الذي جعل المجال سانحا لكل مغامر حتى يعبث بالحياة السياسية ويوجه القرارات في اتجاه يفتقد الحز الأدنى من الشرعية الشعبية.
الملاحظة الرابعة ان تشكيل الائتلافات كان غالبا على حساب الاصلاحات الهيكلية المستوجبة المؤجلة منذ سنة 2011، الامر الذي راكم الصعوبات والقضايا والمشاكل الكبرى العويصة، وعندما تتضمن الائتلافات تناقضات برامجية جذرية يجري ترحيل المواجهة المستحقة والمسح على الجراح بدل مداواتها.
الملاحظة الخامسة، وهي ملاحظة مكررة اذ سبق ان أثرتها باستمرار، فتتصل بالدورة الجهنمية التي سقطت فيها جميع حكومات الجمهورية الثانية تقريبا، حيث تنطلق الأحداث بالتهليل والتبجيل لتنتهي بغرس السكاكين في البقرة المترنحة، في سياق لم تنضج فيه اي ورشة من الورشات الكبرى:
الاحزاب والإعلام والمجتمع المدني.
هناك جوقة ستطبّل لكل مكلّف بتشكيل الحكومة، وهناك فئة ستجد في هذا المكلَّف هوى في نفسها، اذ هناك احزاب غير معلنة ومجموعات ضغط عير ظاهرة لا يضيرها الخروج ابدا على العرف الديمقراطي، ولكن هذا الخروج مكلف جدّا لمصداقية الديمقراطية، فقد ضربت اهم مبادئها ومحدداتها، لعلَّ أهمها مبدأ السيادة الشعبية، فالشعب يحكم من خلال الصندوق، ومبدأ المحاسبة الشعبية، فعندما يجري إهمال النتائج الانتخابية ويجري تعيين اشخاص لا تفويض شعبي لديهم كيف يمكن للشعب ان يحاسبهم، واذا انتخب الشعب أحزابا ليحكموا لكنهم لم يحكموا فكيف سيجازى المجتهد ويعاقب المقصّر.
ولكن أخطر ما في هذه السيرة، افراغ البرامج الانتخابية من محتواها، فجميع الائتلافات الحكومية اضطرت جراء هذا التمشي الى ترك برامج أحزابها جانبا، وتلفيق وثائق حكم غير ذات مصداقية، سرعان ما يتخلّى عنها عمليا لتسقط الحكومات في السياسات الترقيعية وإطفاء الحرائق. وهو ما يعمِق أزمة الديمقراطية العاجزة عن خلق التنمية واقناع المواطنين.
وختاما، تدفع هذه الأحداث والسير المنحرفة التي لم تراعي الاعراف الديمقراطية، الى قتل السياسة وتسليم الامر التكنقراط والاداريين، ومردّ هذا الامر غالبا نوستالجيا الحنين للماضي ومفاهيم النظام الرئاسوي السابق الذي كان سببا في جعل الوزير الاول والوزراء مجرد موظفين سامين، وهو امر لا يتفق مع قواعد النظام الديمقراطي. هذه الاعراف الديمقراطية التي ضربناها عرض الحائط ليست سوى نتاج تجارب طويلة وقاسية عبر مئات السنين، ولئن كان احترام الخصوصية ضروريا، فإن المشترك الإنساني في النظام الديمقراطي أكثر أهمية، ولهذا لن يستقيم ظلّ ديمقراطيتنا الناشئة إلّا بتقويم عودها واحترام العرف باحترام السيادة الشعبية ونتائج الانتخابات في تشكيل الحكومات وخصوصا اختيار رئيس الحكومة.
Comments