حكومة الكفاءات .. النوايا الخفيّة
المهدي عبد الجواد
أعلن هشام المشيشي أمس الاثنين في أسلوب برقي، عزمه تشكيل حكومة “كفاءات غير مُتحزّبة”. وأثث نقطته الإعلامية بمقدمة حول عُمق الانقسامات السياسية التي تمنع من تقريب وجهات النظر، وببعض العموميات حول أولويات الحكومة المستقبلية الاقتصادية والاجتماعية.
في الاثناء هناك انقسام حاد متواصل حول الحكومة، وطبيعتها. بين مرحبين ورافضين. إذ رحّبت قوى مختلفة ومثقفون بهذه الخطوة التي تبدو لديهم “جريئة” لإنقاذ البلاد، فيما اعتبرت قوى أخرى الأمر تهديدا للديمقراطية. وبين ظاهر القول ونواياه فروق كبيرة.
الكفاءات .. أن لا تحكُم النهضة
لقد برهنت الأحزاب السياسية على عجزها طيلة عشر سنوات عن إدارة الشأن العام، وما تعيشه تونس اليوم من مأزق على كل الأصعدة هو نتيجة “حُكم الهواة” وتحديدا حُكم النهضة.
فالثورة والديمقراطية لم تجلب لنا غير الخراب، إذ تم تفتيت السلطة وإهدار المال العام وتزايدت نسب الفساد، وتفاقمت المديونية وانتشر الفقر والغلاء والجريمة. هذه نتائج “حُكم” السياسيين وصراع الأحزاب.
لذلك فان حكومة كفاءات اليوم من شأنها “الفصل” بين أمور الحُكم والاشتغال على أولويات الدولة وانتظارات الشعب، وصراع الأحزاب ومُحاصصاتها. هذا كلام منطقي، يجد مبرراته في “الوقائع” والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وفيما يُعانيه الناسُ في حياتهم اليومية.
وليس هذا الاختيار بدعة، إذ انه كان خيارا ضروريا في لحظات تاريخية مهمة عند شعوب مختلفة، ويعيش لبنان هذه الأيام نفس النقاش وكذلك العراق، وكثير من الدول التي شهدت انتقالات ديمقراطية، ولم تنضج عندها “الظاهرة الحزبية”.
لكن الأمر الأعمق من هذه التبريرات الوجيهة، هو محاولة “فَـــسْخ” نتائج الانتخابات. إنها محاولة لإقصاء حركة النهضة، بطريقة سياسية، بعد الفشل في إقصائها عبر الصّندوق. قد لا يُعجبُ هذا التفسير الكثير، ولكن الكثير مما يحصل محكوم بــ “اللامُفكّر” فيه.
فقد اجتمعت للدفاع على حكومة غير حزبية، أحزاب “صغيرة” ونُخب غير مُتحزّبة لا تُخفي عداءها لحركة النهضة، ناهيك على نواب سابقون ومترشحون فشلوا في الانتخابات وسياسيون تضرّروا بدرجات متفاوته من الوضع السياسي الذي أنتجته انتخابات 2019، ناهيك على المتضررين من كامل المسار الانتقالي منذ 2011.
ان الفرح بحكومة كفاءات في إسناد لخيار الرئيس قيس سعيد، يأتي من قوى وقفت ضدّه في الانتخابات في الدورة الأولى وحتى في الدورة الثانية.
فقد ساند اغلب المستبشرين منافسه نبيل القروي في الدور الثاني، باستثناء “حركة الشعب” التي حافظت منذ بداية تشكيل الحكومات على خيارها الداعي الى حكومة الرئيس. وهي علامة قوية على هذا “النفاق الديمقراطي” الذي يجعل نُخبا كثيرة، مزدوجة التعاطي مع الديمقرطية وقيمها، وتلك مأساة أخرى، إذ لا يُمكنُ بأي شكل من الأشكال “بناء الديمقراطية دون ديمقراطيين”، وبعض ديمقراطيينا يُريدون الديمقراطية والحرية على مقاسهم.
الديمقراطية .. هي أن نحكم
إن اختيار حكومة كفاءات مستقلة هو إلغاء لنتائج الانتخابات، وهو انقلاب على الديمقراطية. ومن شأن ذلك أن يُهدد مسار الانتقال الديمقراطي، وان يزيد في ترذيل العملية السياسية.
حكومة كفاءات مستقلة ستكون حكومة ضعيفة بلا سند حزبي، ويُصعّب عليها انجاز المهام الموكولة إليها داخليا، وسيصعُبُ عليها التفاوض مع الجهات المانحة. كما ان هذه الحكومة لن يكون بالإمكان مُحاسبتُها على فشلها.
إنّ المنطق الديمقراطي يقتضي أنْ تحكُم الأحزاب الأولى في الانتخابات، وأنْ تتم معارضتها من الأقليات ومحاسبتها عبر آليات الرقابة البرلمانية وخاصة عبر نتائج الصندوق في الانتخابات المقبلة.
هذا الحجاج الذي تدفعُ به حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس، وبعض الكُتل الحزبية الأخرى، على وجاهته يُخفي بدوره أمرا أعمق. فبقدر ما تخشى حركة النهضة فقدان “الحُكم” والعودة من جديد الى معسكر المعارضة، للمرة الأولى منذ 2011، تنتابُ مرارةُ عدم مُمارسة الحُكم أحزاب وكُتل أخرى.
فالدفاع على الديمقراطية هو في جوهره دفاع على “الأحقية” في السلطة، دون مراعاة حقيقية لضرورات اللحظة التاريخية، ودون اهتمام بالحاجة المُلحّة الى “مُهلة وطنية” للأحزاب عساها تهتم بتطوير بنياتها وهياكلها وإصلاح خطابها واختياراتها وانجاز مؤتمراتها و القيام بثورة حقيقية تُمكّنُها من بناء جسور ثقة مع عموم المواطنين استعداد للانتخابات القادمة.
و تنكبّ في مجلس نواب الشعب على البحث على توافقات وطنية كُبرى، تُعنى بالنظام السياسي والانتخابي والمحكمة الدستورية وبقية الهيئات، وإطلاق نقاش وطني بعيدا على “صخب السلطة” حول التعليم والمؤسسات العمومية وغيرها من “شوانط الاصلاح”
نعيش اليوم لحظة غرائبية، لكنها منسجمة مع “الاستثناء التونسي” فبينما يتمسك “الإسلام السياسي” بالديمقراطية والانتخابات ودور الأحزاب في بناء المجتمع السياسي الأمثل، تتداعى النّخب “الحداثية” إلى رفض نتائج الانتخابات، للتأسيس –بوعي أو دون وعي- لنظام لا يعترف بالأحزاب ولا بنتائج الانتخابات ولا بالتداول السلمي على السلطة، والحال ان قيس سعيد نفسه هو ثمار العملية الانتخابية، ونتيجة لهذه المنظومة.
ولقد كان الرئيس سعيد مدفوعا في فوزه بالرئاسية بدعم حزبي قوي، والتشكيك في دور الأحزاب ومهامها الوطنية والعمل على إلغاء “تأثير” نتائجها قد يمسّ بشكل من الأشكال من انتخابه رئيسا.
إننا ندفع المواطنين إلى مزيد الابتعاد على الديمقراطية، إذ ان سبب مشاكلهم يكمن في “الأحزاب والمحاصصات” وخلاصهم في “الكفاءات غير المتحزبة” وذلك في تقديري أمر خاطئ، وله مخاطرُه.
Comments