حكومة المشيشي .. هل تكسب “البيروقراطية” الرهان؟
منذر بالضيافي
السؤال الكبير، الذي يطرح بكل الحاح، ساعات قليلة قبل اعلان رئيس الحكومة المكلف هشام المشيسي، عن تركيبة فريقه الحكومي، هو التالي: هل يصلح البيروقراطيون ( حكم المكاتب ) ما افسده الساسة طيلة اكثر من تسع سنوات؟
ما ساعد على القبول بحكومة الكفاءات، الى جانب خسارة الأحزاب، لمبادرة تكليف رئيس الحكومة لصالح رئيس الجمهورية، مثلما ينص على ذلك الدستور، واغتنام هذا الأخير الفرصة ل “تصفية حساباته” مع المنظومة الحزبية، تمهيدا لمشروعه السياسي، الذي عبر عنه بوضوح أثناء “حملته التفسيرية” لرئاسيات 2019، هو تشكل “مزاج شعبي” واسع ضد الأحزاب، التي تم تحميلها مسؤولية الفشل الذي الت اليه الأوضاع في البلاد، بسبب عجزها عن الادارة واقتصارها على الصراع حول السلطة ومغانمها.
وترجم هذا “الوعي الجديد”، من خلال تشكل “تحالف” غير معلن بين الرئيس قيس سعيد وقطاع مجتمعي واسع جعل من “حكومة الكفاءات” ترتقي الى “مطلب مجتمعي”، وهو موقف سانده الاعلام وكذلك النخب، وعجل به أداء مجلس نواب الشعب، الذي تحولت معه “قبة” قصر باردو، الى “عنتريات” و “صراع” بلا ضوابط، نجم عنها تعطيل مؤسسة البرلمان، وكذلك تكون صورة سلبية عن الكتل والأحزاب السياسية، وفرت المناخ والأرضية المناسبة للرئيس قيس سعيد للمرور بالسرعة القصوى، في تنفيذ “مشروعه السياسي” القائم على “شيطنة” الأحزاب.
وبما ان الطبيعة – كما يقال تابي الفراغ – فان البديل الذي انحاز اليه الرئيس سعيد – على الأقل ظرفيا – وفي انتظار تبلور مشروعه السياسي، ووجود اليات لتنفيذه في الواقع، وعدم البروز في مظهر المستعجل، عبر الحرص على الاحتكام الشكلي للقوانين وخاصة الدستور، تمثل في اللجوء الى الادارة، في مرحلة قد تكون في تصوره انتقالية لإدارة مرحلة ما بعد الأحزاب السياسية، والتمهيد لتنزيل مشروعه على الأرض.
كما أن اختيار اللجوء للإدارة يتناسب ويتجاوب مع “المزاج الشعبي” الرافض للأحزاب مثلما ذكرنا . فهل سيكون خيار العودة للإدارة هو الملجأ الاخير للخروج من المأزق؟ و هل هي (الادارة) قادرة على كسب الرهان في أزمة توصف بانها شاملة ومعقدة ؟
يأتي قرار حكومة الكفاءات، بعد سنوات عرفت فيها الادارة ضعفا وتقهقرا كبيرين، في ما يشبه الخيار الممنهج لإضعاف الدولة، عبر اضعاف عمودها الفقري، المتمثل في البيروقراطية، التي حمت الدولة والثورة معا، بشهادة المراقبين في الداخل كما في الخارج، والتي كانت بمثابة تأكيد على صواب خيارات دولة الاستقلال.
لكن، مع ذلك ما تزال هناك ثقة كبيرة في الادارة ، وهي ثقة لابد من اعادة النفخ فيها، و هذا لا يكون الا عبر انتاج خطاب واضح ومختلف عن السائد والمستهلك، من خلال برنامج واقعي وبراغماتي، يتجاوز ما يعاب على الادارة من غياب للجرأة، وهو ممكن في الواقع شريطة توفر تشخيص جيد للواقع، والاستناد الى العقلانية البيروقراطية، القائمة على استقلالية الجهاز الاداري، وقدرته على أخذ “مسافة أمان”، عن التوتر السياسي وعن المناكفات السياسيوية والحزبية وبين مؤسسات الحكم.
تواجه حكومة المشيشي انتظارات كبيرة، لذلك فهي برأي مطالبة بالمرور مباشرة الى العمل والانجاز، عبر الاعلان عن اولويات واضحة، فهي ودون بيع للوهم لن تكون حكومة الاصلاحات الكبرى، بل حكومة ايقاف النزيف الذي لو استمر فان الدولة سوف تنهار، وهي التي ضعفت ودخلت في طور التفكك، بعد انهيار جل الخدمات والمرافق التي تؤمنها، والتي هي أساس العقد بينها وبين المجتمع.
بالمناسبة، فان بداية الانقاذ تقتضي تخفيض منسوب التوتر في المجتمع واساسا في الحقل السياسي، ومن هنا فان المشيشي في حاجة الى تعاقد جديد مع الأحزاب والمنظمات الوطنية، يوفر لحكومته “هدنة” اجتماعية وسياسية.
فالعلاقة مع الأحزاب التي عليها ان تركن ل “راحة بيولوجية”، تخصصها لمراجعات و “تطهير” داخلها، وكذلك لاستعادة بدورها الذي انحرفت عنه، ونعني الانكباب على تأطير وحشد الأنصار والمنتسبين، في اتجاه “المجهود الوطني للانقاذ”، الذي ستقوده حكومة المشيشي، دون أن تغقل عن دورها في المتابعة والتقييم والمراقبة في البرلمان.
و حتى نكون ايجابيين، وفي انتظار الاعلان عن تركيبة الحكومة، التي نأمل أن يكون “كاستينغها” خاضع للكفاءة والجدارة لا “الزبونية” أيا كان لونها، والتي نأمل أيضا أن تكون “حكومة كل التونسيين” كما سبق وأن صرح بذلك رئيس الحكومة المكلف.
أٔخيرا، برغم “كارثية” الأوضاع مثلما أشارت الى ذلك الاحصائيات الرسمية الأخيرة، التي كشفت عن مؤشرات وأرقام مفزعة ومخيفة، فان فرصة الانقاذ ممكنة، خصوصا في ظل تشكل “مزاج شعبي” عام، سيكون خير مساند فضلا عن كونه سيمكن فريق المشيشي من شرعية، لا نبالغ بأنها ستكون تضاهي شرعية الانتخابات، لكن شريطة توفر الارادة السياسية القوية.
الكرة ستكون في مرمى المشيشي وفريقه … فهل يكسب الرهان برغم صعوبته؟
Comments