خالد شوكات يكتب عن “دولة القطاع العام”
بقلم: خالد شوكات*
يوجد في تونس اكثر من 600 الف عاطل عن العمل، اي بنسبة اكثر بقليل من 15 %، وهي نسبة عاليا قياسا الى الوضع الطبيعي المعهود، لم تستطع أي حكومة من الحكومات المتعاقبة خلال الخمس سنوات الاخيرة زحزحتها. ومن بين هؤلاء العاطلين حوالي 400 ألف عاطل عن العمل من حملة الشهادات الجامعية، حيث تخرّج الجامعات التونسية كل عام الى سوق العمل ما يفوق الخمسين ألفا.
وبحسب الإحصائيات الرسمية فإن شريحة “العاطلين النشيطين”، أي أولئك الذين يبحثون فعلاً عن عمل ويتابعون ملفّاتهم لدى مكاتب التشغيل المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد، تضم حوالي 125 ألفا فقط، فيما اكتفى البقية باعتبار انفسهم عاطلين دون بذل جهود جدية لتغيير أوضاعهم، وهو ما يعكس حقيقتين لا مناص من الوقوف عندهما، الحقيقة الاولى ان الشعور باليأس والاحباط هو الغالب على هذه الشريحة الاجتماعية الشابة، والحقيقة الثانية ان المؤسسات التعليمية الوطنية، بما في ذلك الجامعية ما تزال عاجزة غالبا عن تخريج مؤهلين فعليين لولوج سوق العمل، أما الحقيقة او المشكلة الاولى فحلها عند السياسيين حكّاماً ومعارضين، فهم من يصنع الامل وهم من ينشر اليأس، وأما الحقيقة أو المشكلة الثانية فعلاجها إصلاح جذري وهيكلي للمنظومة التعليمية على نحو تتمكن فيه المدرسة والجامعة من تعديل دقات قلبهما على دقات قلب سوق العمل وبورصة الشغل، فالمنظومة الوطنية تستثمر منذ عقود للاسف في تخريج العاطلين عن العمل، فيما يحتاج اقتصادنا الفتيّ عشرات المهن بكثافة عالية دون قدرة على توفيرها.
غير أن المفارقة التي ارغب في اثارتها، تتمثل في تقدير لا ارقام او دراسات تزكيه، إنما مجرد انطباع قوي يستمد مشروعيته من احداث اجتماعية واحتجاجات مواطنية لا تنقطع، والمفارقة مفادها ان الغالبية العظمى التي قد تتجاوز 90 بالمائة من عدد العاطلين، تريد موطن عمل في القطاع العام، اي في الوظيفة العمومية أو المؤسسات والشركات العامة، فيما لا تزيد نسبة الراغبين في العمل لدى القطاع الخاص برأي كثير من الخبراء عن العشرة بالمائة، وهو أمر/ظاهرة يمكن ربطه بسيكولوجيا الشعوب التي لا يمكن تغييرها بسهولة، الى درجة يمكن القول معها بأن التونسي يعرّف “العمل” باعتباره “وظيفة عند الدولة”، وفيما عدا ذلك فهو “مؤقت” و”هش” وغير مضمون ولا يمارس الا لأنه خير من البطالة عند بعضهم و”شدّان يد” حتى تتيسّر الوظيفة الحكومية ولو بعد طول انتظار، وشواذ لا يقاس عليهم هم أولئك الذين يغادرون مناصبهم في القطاع العام الى القطاع الخاص ويغامرون بمستقبلهم ويعرضون انفسهم وعائلاتهم للخطر عند اهلهم وذويهم.
ولا شك ان شعوباً كثيرة تشبه الشعب التونسي في نظرتها للعمل، لكن شعوباً اخرى استطاعت ان تغرس في ناشئتها عبر الاجيال قيماً مغايرة تجعل من القطاع الخاص اكثر جاذبية. إن جلّ التونسيين لا يثقون الا في القطاع العام، لأنه برأيهم يشكل الضمان لوظيفة دائمة مقترنة بضمانات اخرى لا تقل أهمية عن صبغة الاستقرار والاستمرارية، كمنح التقاعد والمرض والأطفال وسواها من إجازات وعطل، وهو ما يعجز القطاع الخاص عن توفيره، بالاضافة الى مسؤولية اقل تجاه الانتاج والانتاجية ووضعية الربح والخسارة مقارنة بتلك التي يتحمل المسؤول او الموظف او العامل في المؤسسات والشركات الخاصة. ومنا هنا تفسّر التحركات الاحتجاجية لمجموعات كبيرة من المعنيين، من قبيل تحرّكات “المعلمين والأساتذة” النواب و”عمَّال الحضائر والاليات” التي تعتبر اهم الملفات المطروحة على المائدة الحكومية في باب التشغيل.
وعلى الرغم من الصيغة الإجبارية التي وجدت الحكومات الاخيرة عليها نفسها فيما يتصل بالانتداب في الوظيفة الحكومية، حيث أعلن مرارا وتكرارا عن ضرورة إغلاق هذا الباب الا في حالات استثنائية تحتاجها الدولة من قبيل المؤسستين العسكرية والأمنية، فإن بعض الحكومات قد وجدت نفسها مضطرة الى ممارسة ما يشبه التحيّل على هذه السياسات، حيث عمدت جراء ضغوط اجتماعية تطالب بالعدالة التنموية الجهوية الى انشاء ما عرف ب”شركات البستنة” خاصة في المناطق الجنوبية، وهي شركات تبرر منح مساعدات اجتماعية في شكل جرايات شهرية لعاطلين عن العمل لم يتسع لهم القطاع العام المباشر والحقيقي، الشيء الذي اثار حفيظة البعض ممن اعتبر هذا الحل هدرا للمال العام وتشجيعا على البطالة وتأجيلاً لمشاكل حقيقية يمكن البدء في إيجاد حلول لها الان دون مواربة او مداورة.
ولعلّ مما يتوجّبُ الانتباه إليه، النظرة الحكومية السلبية السائدة عن القطاع العام، التي قد لا تختلف كثيرا عن النظرة الشعبية التي ترى فيه “مسمار في حيط” كما يقول المثل الشعبي، وهي نظرة خاطئة بلا شك تكذّبها التجارب الوطنية والدولية المقارنة، التي اثبتت في اكثر من حالة ان القطاع العام قد يكون رابحا او اكثر ربحاً من القطاع الخاص، ففي هولندا – على سبيل المثال- جرى خصخصة شركة السكك الحديدية منذ أربعين عاما، ويقول المسؤولون الهولنديون اليوم ان هذه التجربة فاشلة او على الاقل ليس ناجحة، حيث تخلَّف المرفق الحديدي قياسا بما هو عليه الامر في فرنسا او بعض الدول الأوربية الاخرى. وقد تمكنت دول مثل تركيا وإثيوبيا، وحتى المغرب من تحويل عديد الشركات والمؤسسات العامة من هيئات مفلسة وعالة على ميزانية الدولة، الى رابحة تشكل رافدا من روافد دعم هذه الميزانية، فضلا عن تطويرها لجودة الخدمات العامة بما يعزز ثقة المواطنين في الدولة.
إن إصلاح القطاع العام بشقيه، الوظيفة العمومية والمؤسسسات والشركات العامة، في متناول ايدينا ليس من منطلق التخلص من أعبائه أو الشفقة عليه، فهذا المفهوم في حدِ ذاته مطلوب مراجعته باعتباره معوّق الاصلاح الاول، إنما من منطلق الايمان باهمية القطاع العام ودوره في النهوض بالاقتصاد الوطني وصناعة النموذج الحضاري، فمن جهة تعد تونس من صنف “دولة القطاع العام”، ومن جهة ثانية تبدو تجارب التنمية والتقدم المقارنة في مجملها مزكية لهذا الاعتقاد من حيث اعتمادها على قطاع عام عصري هو مقوّم المنوال التنموي الجديد المعتمد فدول كالصين وتركيا وماليزيا وغيرها من الاقتصاديات النشيطة في الساحة الدولية تمتلك وظيفة عامة عالية الجودة وشركات حكومية رابحة، وكان ذلك نتاجا لمخططات اصلاحية جريئة وصحيحة سرعان ما حققت نتائجها المرسومة مساهمة في بناء مناخ عام جديد ساهم بدوره في تطوير القطاع الخاص الوطني وجذب الاستثمارات الخارجية.
ولقد دافعت خلال الفترة الحكومية المحدودة التي خضتها، في الدفاع عن إصلاح القطاع العام وتطويره ما ويعتني القدرة، مشجعا رئيس الحكومة على التخلي عن المنوال السابق باعتبار الدولة مجرد حارس وميّسر وموفّر لمناخ استثمار إيجابي، مؤكدا على ان القطاع الخاص لن يذهب مثلا للمناطق الداخلية لعوامل متعددة ليس هنا المجال لشرحها، وانه لا حل لإنشاء المصانع والمزارع الا عبر مبادرات حكومية كلية او جزئية، وتقوم رؤيتي على انه بمقدورنا دائما عصرنة الوظيفة العمومية من خلال ربطها بوسائل المجتمع المدني الجديدة، وانقاذ المؤسسات والشركات العامة وتحويلها من خاسرة الى رابحة بخصخصة روحها وطرق ادارتها لا خصخصة رأسمالها. ودون اطالة اكثر، فانا من الذين يَرَوْن انه لا مجال للخروج من أزمة الدولة الا بأحداث ثورة في القطاع العام، لأن تونس أحببنا ام كرهنا هي “دولة القطاع العام.
*كاتب ووزير سابق
Comments