خيبة الجملي أم رهبة الحكم؟
شعبان العبيدي
كانت ملامح الاستياء الشعبيّ من الحكومات المتعاقبة تتعاظم مع تواتر الزمن، و استفحال تردّي الأوضاع و تفشي مظاهر التسيّب و التآكل في مؤسسات الدّولة، ولا شكّ أنّ ضعف المشاركة في العملية الانتخابية للدورة الأولى الرئاسية ناقوسا قرع لذوي الأفهام.
وأمام هذا المشهد المربك دخلت الأحزاب الانتخابات التشريعية تحت عناوين متشابهة: مكافحة الفساد والإصلاح الإداري والمؤسساتي والبرنامج الاجتماعي. وطبيعيّ أن تشتغل الأحزاب الصّغرى على وتر الاتهامات للخصم الموحّد الذي ألبس كلّ الخيبات والأزمات، وبالتالي كانت حملات الأحزاب “الثورية ” و”الديمقراطية” و” التجمعية” قائمة على برنامج إسقاط النهضة.
وشاءت العملية الانتخابية أن تفرز مشهدا برلمانيا مفاجئا في ألوانه وكتله. وقفت عنده وسائل الإعلام كلّ حسب خلفياته و آلياته في القراءة والتّحليل، لتنتهي تقريبا إلى نقطة التقاء وهي استحالة تكوين كتلة برلمانية قويّة قادرة على تكوين حكومة إنقاذ وطنيّ-خاصّة بعد اللاآت التي وضعتها النهضة و قلب تونس و كتلة الكرامة حول استحالة إشراك حزب قلب تونس-وتعاظمت مشاعر الخوف من القادم و اليأس من تحسّن الأوضاع المعيشية والاقتصادية والإدارية مع تصاعد أصوات التيئيس من حلقات الإعلام و تصريحات “الخبراء”.
وعموما فهمت الكتل الصاعدة إلى السلطة التشريعية أنّ الخلاص الوحيد للبلاد اليوم لم يعد يحتاج إلى تلك البهلوانيات السياسية والعنتريات الزائفة و السباب وتشليك رجال الدولة مهما كان لونهم، بل يحتاج إرادة وطنية جامعة لبناء حكومة فاعلة قويّة تواجه الشعب بالحقائق و تسرّح الملفات المقبورة لتشكف الحقائق و تتوقف الإشاعات. لكنّ الحياة السياسية والحزبية في بلادنا لا يحكمها منطق وتنفلت عن حدود القراءات ..
فبعد المدّة الزمنية التي أهدرتها حركة النهضة في المساومات السرّية وجلسات جسّ نبض المقرّبين و الخصوم، كانت أولويتها ضمان رئاسة المجلس لشيخها الرئيس، و لا يخفى أنّ عملية المساومة مع قلب تونس و كتلة الكرامة، و مراوغة التيار وحركة الشعب كانت كافية لترسم لنا صورة عن مشهد سياسي متعفن و أحزاب تحترف المتاجرة و البحث عن مصالحها الضيقة فوق مصلحة البلاد.
وكان من الطبيعي أن ندرك أنّ هذه الممارسات زادت سوء النية و عدم الثقة ترسيخا، زد على ذلك الأفلاطونية الطهورية التي سعى التيار على أن يظهر بها على أنّه المسيح المخلّص ولكن ليس بالنصيحة والعمل ولكن بلسان السباب و الشعبوية مع كثير من وجوهه، أو الأيديولوجية المغرقة في أحلام النوم.
وبات واضحا من خلال التصريحات التي كادت تصبح ضربا من الترديد الببغائي، دأبت عليه ألسنة الوجوه المعهودة والناشئة التي لا تمتلك الحدّ الأدنى من القدرة على تحليل الواقع وتقديم البدائل السياسية للخروج من الأزمة، وهذا ليس بغريب على برلمان تسلقت مدارجه عناصر خاوية المعرفة و المستوى حرفتها المهاترة أنّ كلّ الأطراف تراهن على فشل وتعطيل حكومة يقدّمها الحزب الفائز نسبيا في الانتخابات البرلمانية.
وهذا ما فتح الباب للمناورة الثانية التي قادها التيار الطهوري، و حركة البعث من الأجداث. و انكشف الغطاء على عملتين من المناورات: أولاهما الدّفع نحو حكومة الرئيس، وثانيهما الاشتراط الملزم على نصيب من التسميات ووزارات بعينها مع التيّار. ونظرا لتمادي حركة النهضة في إطالة أمد العلّة السياسية، ومراهنتها على مناورات منفتحة ظهرت في فتح باب المشاورات على سوق العرض والطلب، والإيهام بالانفتاح على كلّ الأطراف، وما هو في واقع الأمر إلاّ وهن في تصوّر عملية انطلاق تكوين الحكومة منذ البداية بالإعلان عن حوار سياسي يضبط خطة الحكومة للمرحلة القادمة وأولوياتها.
وهكذا تمّ إهدار الوقت السياسيّ على حساب سير مؤسسات الدّولة و قضايا المجتمع، وساهم في مزيد إغراق الوضع العام بتفاقم مشاكل القطاعات الفلاحية و المديونية و الغضب الشعبيّ والعمليات المشبوهة من تسميات و تعيينات وعزل للحكومة المنتهية الصلوحية.
كنّا ننتظر مع التحوّلات الأخيرة في المفاوضات، وعودة الغاضبين من أصحاب اللاّءات أن يفرج أخيرا عن ظهور حكومة فاعلة قويّة قادرة على مواجهة الوضع العام بعد المساعي الجانبية لتقريب وجهات النظر، وجمع الفرقاء، و تمّ الإعلان عن توافق سياسي بين الأحزاب الأربعة على تشكيل الحكومة رغم عودة البعض إلى تلك المقولة الممجوجة” حكومة محاصصات حزبية”.
ولكنّ المفاجأة تأتي بعيد الاتفاق بقليل بعد اجتماع مكتبي التيار و حركة الشعب وتنصّلهما من الاتفاق، والعودة إلى مربّع القول المأثور عنهما” لسنا معنيين بالمشاركة في الحكومة” مع تبريرات تبدو واهية وأحيانا مجانبة للفهم الحقيقي لمؤسسات الدّولة. فهل فعلا نحن أمام فشل الرئيس المكلّف الذي ألقي به في مغامرة دون إعداد تصوّر مسبّق لكيفية الانطلاق في المشاورات السياسيّة؟
وهذا ليس مستبعدا، ولكنّه ظاهري لأنّ حركة النهضة وزعيمها لا يتركان الأمر يجري على عواهنه و أنّما في الواقع هناك غرف خلفية للتوجيه و الإملاء، وبالتالي تتحمّل الحركة نصيبا هامّا من هن الفشل في تكوين حكومة وطنية قويّة وقادرة على مواجهة الواقع المتردّي، ويبدو أنّ حزب حركة النهضة لم يتعظ من أخطاء الماضي، إضافة إلى أنّ الإصرار على شخصية السيد الجملي فيه كثير من الصلف و العناد.
أم نحن أمام رهاب الخوف من الحكم والنزول من دنيا الشعارات الشعبوية إلى الممارسة الواقعية للفعل السياسي عند التيار الديمقراطي وحركة الشعب أو محاولة تبيض الصورة القاتمة لحزب تحيا تونس. وهذا فيه وجه من الصّواب، فالظاهر أنّ “آل عبّو” و”’آل البعث” لا يمكنهما المغامرة بوضع أيديهما في نار الحكم، وتلبية الوعود التي قدّماها ، ولذلك نرى حركة الشعب تسبق قضايا إقليمية ودولية على قضايا اجتماعية حارقة. فهذا العمى الأيديولوجي و الخوف من الفشل و الممارسة السياسيّة هي التي تدفع هذه الجوقة إلى الجلوس على ربوة المعارضة التي باتت شكلا جديدا للإرجاء. أمّا بالنسبة إلى حزب “تحيا تونس” و” قلبها” فالكسائر على الصراط ، مبدؤهما” الصلاة وراء عليّ أقوم والجلوس إلى مائدة معاوية أدسم”.
لابدّ للشعب اليوم أن يقف لمواجهة هذه الألعاب السياسية التي يخوضها مغرضون و مناورون ومغامرون فوق رؤوسه، و أن يحمّلها المسؤولية. كما أنّه بات مطلوبا أن يواجه رئيس الجمهورية البرلمان بحقيقة ما يجري، وأن يتمّ الحسم في أمر الحكومة حسب الدستور لا بالترضيات و الإملاءات.
Comments