الجديد

رغم التمهيد لمحاكمته برلمانيا، ترمب يفوز بمعركة شرعنه الإرهاب الأبيض

شعبان العبيدي

مشهدان اهتز لهما العالم خلال نهاية السّنة المنقضية وبداية السّنة الميلادية الجديدة، الهزّة الكونية للإرهاب الطبيعي الذي زرع الرّعب في كلّ بقاع العالم ولازال يعصف بأرواح الملايين ويزلزل عــــــرش العولمة وأسسها، ومازالت الحرب معه سجالا.

ساهم في تغذية النّزعات القومية والأنانية وفي احداث هزّة سياسية كان بطلها الرئيس الأمريكي طيلة مدّة حكمه، وأساسا خلال حملة الانتخابات الرئاسية وما تلاها من عنف وعنصـــرية وتمرّد على القوانين الدّولية، وأخرها رفض ما أفرزته الانتخابات من نتائج لصالح غريمه الديمقــــــراطي” جو بايدن”.

إلاّ أنّ الرجل ابن الدّيمقراطية الأولى عالميا، والذي جاءت به صناديق الاقتراع إلى الحكم انقلب على نظامه الأبوي، ورفض التسليم بالنتائج، وسعى إلى تغييرها بمختلف الطرق سواء عبر تدويناتــه علــى وسائل التواصل أو باستنفاد كلّ الخيارات القضائية من خلال الدّعاوي التي رفعها ولكنّها آلت كلّـــــها إلـــى الفشل وساهمت بالعكس في مزيد عزله وفهم الأسباب الحقيقية التي جعلت الأمريكيين خاصّة في الولايــات المحسوبة على الجمهوريين تميل إلى المرشّح لدّيمقراطي.

لم يقبل ترمب الهزيمة ولم يقرّ بما أفرزته صناديق الاقتراع، لكنّه ظلّ كالأسد الجريح يزداد ضراوة كلّما تقدّم الوقت نحو رحيله عن البيت الأبيض، لذلك عمد مع يوم اجتماع الكونغرس للتصديق على فوز “جــو بايدن” إلى دعوة أنصاره من اليمين المتطرف للخروج إلى الكونغرس الأمريكي لتعطيل عملية المصادقة ودعّمهم بتغــريدات تجيييش وتحدّ للمؤسسة التشــــريعية الكبرى، ممّا اضطر القائميــــن على شبكــــات التواصل إلى إيقاف حساباته لما فيها من تحريض على العنف وتهديد للأمن القومي.

كان اليوم الثامن من هذا الشهر يوما فارقا في تاريخ الولايات المتحدة، ويعتبره الأستاذ ” غيوم دستيكـــس” بجامعة سانت لويس ببروكسل أنّه حدث خطير يهدّدنا جميعا. خرج فيه المتطــــــــرّفون البيض ومختلـــف جماعات اليمين ليقتحموا الكونغرس في سابقة لم تعرفها الولايات المتحدة بعد الحرب الطويلة التي عاشتها وانتهت بسيطرة اتحاد الولايات المتحدّة على الولايات الجنوبية التي أعلنت انفصالها ورفضهــــا باسم حقّ العرق الأبيض في منع استعباد الرقيق، وهم يرونه حقّا دستوريا طبيعيا يمتازون به على حساب غيرهم من الأعراق. ورغم دخول الولايات المتحدّة بعد هذه الحرب مرحلة جديدة من الدّيمقراطية، فإنّ هذا الصّــراع بقي خافتا تحت رماد المعركة، ينتظر من ينفخ فيه، وبدأت جذوته في الاشتعال من جديد مع التغيّــــــرات العالمية والأزمات الاقتصادية وتصاعد الإرهاب الشرق الأوسطي وخاصّة الإرهاب الدّيني الذي ضــرب الولايات المتحدة في 11 من سبتمبر.

فقد وجد المتطرفون البيض، الرافعون لشعارات النّازية، أنفسهم يقتحمون الكابيتول ويطيحون بكلّ أسس الديمقراطية للدّولة الأولى في العالم، ويعبثون بمحتوياته ويعتدون على الحرس، بل يقول “غيوم” (لم يجد المتطرفون أمرا واجدا ليقوموا به هناك وهو أن يأخذوا صور سلفي، لقد تخيّل لينين كلّ شيء ما عدا هذا الانحلال للفعل الثوري في نرجسية ظهرت على شبكات التواصل الاجتماعي) وما يثيـــــر القلق أكثر هو اكتشاف جماعات مسلّحة وعربات محمّلة بقنابل متفجّرة، ومخططّاتهم في تصفية وموز جمهوريين ونائبة الرئيس الجديدة. لتجد الإدارة الأمريكية اليوم نفسها في وضعية ذعر مع اقتراب موعد تنصيــــب الرئيس الجديد، استدعت له قوّات أمنية مكثفة وأجرت تحضيرات لشرطة مدينة نيويورك في التعامل مع أساليب التفجير التي قد يعمد إليها أنصار الرئيس ترمب.

رغم خسارته للانتخابات فقد ظلّ ترمب طيلة مرحلة حكمه، وخلال الحملة الانتخابية وبعدها يعتمد خطابا شعبويا قائما على تغذية نزعة اليمين المتطرف باعتباره يمثل طيفا واسعا من ممثلي القومية والجماعات المسيحية اليهودية و العرقية البيضاء، الذين يشتركون في جملة من الرّؤى منها النزعة الفاشية الجديدة التي انتشرت مع اليمين في أوروبا وكره الأجانب والنزعة العنصرية، ممعنا عنصريته المقيتة وفي اتّهامه للدول والشعوب بحياكتها للمؤامرات ضدّ الولايات المتحدّة.

بل وصل به الأمر إلى الاستهزاء من الفيروس التاجي ومن نصائح العلماء وتوصياتهم حتّى انتشر الوباء في البلاد مثل انتشار النار في الهشيم، واستطاع أن يحقّق أماني اليمين المسيحي اليهودي في تحويل القدس عاصمة لإسرائيل، هذا إضافة إلى عدم تورعه في اعتماد معجم الشتائم والسباب ضدّ اليسار الأمريكي  وخاصّة منظمة “أنتيفا” وضدّ الجماعات العرقية الأخرى ناعتا إياهم ب”الشيوعيين” و”الشيطانيين” و”مشتهي الأطفال” و”الفاسدين” و”الخـــــونة”. ولم يكــــن ذلك مجرّد توظيف انتخابي عابر بل هو يكشف بوضوح نزعة الرجل الشعبوية القومية الحالمة باستعادة سيطرة العرق الأبيض على الولايات المتحدّة، وتحويلها إلى بلاد نقية العرق، وهو نفس حلم التطرف اليميني بالتخلّص من الحكومات الدّيمقراطية بأخرى قومية نازية استبدادية أو دولة سلطوية ثيوقراطية كاثوليكية لأبناء المبشرين البيض.

وليس غريبا أن يتنامى هذا المدّ اليميني ليتحوّل إلى إرهاب أبيض في كلّ البلـــدان الأوروبية وفي الولايات المتحدة أمام لامبالاة وغفلة أو غضّ بصر من رجال الدّولة حتّى اشتدّ عوده وظهــــرت قوّته وحجمـــه في الانتخابات الأمريكية الأخيرة حين نجد الدّاعمين للرئيس ترمب يصلون حدود 80 مليونا. وأن نجـــــد لهذا الإرهاب اليميني فلاسفة ووسائل إعلام داعمة له. هذا إضافة إلى ما عرفه صعود “ترمب” إلى السلطة وما صاحبه من جدل من التفاف المبشرين الإنجيليين حوله في إحدى أكبر الكنائس في ميامي وهم يتضرّعون إلى الإله ليسانده في تحقيق نبوات الكتاب المقدّس. وقد صرّحت القسّيسة “باولا وايت ” المستشارة الروحية لترامب (حين تقول “لا” للرئيس كأنّك تقول “لا” للّه). واعتبرت البيض الأبيض أرضا مقدّسة.

ومفاد ذلك أنّ “ترمب” لم يكن هو صانع اليمين المتطرف في بلاده، بل كان متشبعا بآرائه وأفكـــاره التي ظهرت في خطاباته، وكان يتقاسمها مع كثير من منتسبي الحزب الجمهوري وقياداته، إلاّ أنّه كان الــوحيد الذي واتته الجرأة ليستغلّ هذه التربة المسيحية اليمينية الريفية ويشرّع لها حتّى ينقلها من الهامش إلى داخل البيت الأبيض ويضعها في سلطته وبرامجه وعلاقات الولايات المتحدة الخارجية خاصّة في مواقفه العدائية مع القوى العظمى.

ويشير “غيوم دستيكس” (إنّ هذه اللامبالاة المحيّرة بتهديد اليمين المتطـــرف من طرف السلط هي التي سمحت لترمب أن يجرؤ على كلّ شيء، وهو ما يروق لأتباعه، لأنّ جرأته تلك أتاحت لهم بضمير حيّ أوهامهم ورغباتهم، وقبل كلّ شيء كره الآخرين، لأنّ أضمن طريقة لتوحيد وإلهـــــام جموع الحشود وتأمين دعمهم هو جعلهم يكرهون الأعداء، ويرون مذنبين بكلّ الشرور).

 

فكما كانت اللاّمبالاة في الشرق ضدّ بدايات ظهور القاعدة والفكر المتطرف تحت شعار محاربة الشيوعية في أفغانسان ومســاعدة دول عربية وغربية لهذه الجماعة كما رصدها الصحفي “برنو إيتيان”في كتابه “الإسلام الراديكالي”1987، واكتشف خلال معايشته للتنظيم أهمية اختلاط العقيدة بالسياسة في هذه الأيديولوجيا الجهادية القائمة علــــى تكفير الآخر ومنطق العنف. نرى اليوم من خلال اليمين المتطرف الأبيض الذي مكّن له ترمب بأن يتصدّر المشهد الاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدّة بخطاباته الأصولية العنصرية ورفضه لنتائج الدّيمقراطية وإيمانه بالعنف وتوظيفه للبعد العقدي المسيحي وإرث الأباء البيض أنّ ترمب وهو يغادر مع تهديد السلط التشريعية بمحاكمته برلمانيا أو عزله قد ربح المعركة ونجح في أن يغيّر وجه المجتمع الأمريكي.

بالرّغم من تنوّع الأسباب البعيدة لهذه الأزمة التي يعيشها المجتمع الأمريكي اقتصاديا واجتماعيا من ناحية الآثار الوخيمة للرأسمالية الاحتكارية والظلم المسلط على الطبقة العاملة وغياب العدالة والرعاية الصحيّــة في دولة أصبحت تحت تحكّم اتحادات الرأسماليين، لم تعدّ ديمقراطيتها التي تعتبر عريقة إلى غلاف خادع من الالتقاء بين القوميين الشعبويين المتحالفين مع اليمين المتطرف المسيحي الأمريكي وبين الليبــــراليين المناصرين للعولمة.

فإنّه بات اليوم واضحا من خلال ما يجري في الولايات المتحدة وفي بعض البلـــدان الغربية وأمريكا اللاتينية أنّ العالم مقدم على مرحلة جديدة من سيطرة الأيديولوجيا الشعبوية والأخطر منها حين تكون مسنودة بالتطرف القومي اليميني، الذي بيّن من خلال الأحداث الأخيرة في البيت الأبيض صعود الإرهاب اليميني والتطرف الأبيض في الجهة الأخرى من العالم مقابل التطرف الديني والإرهاب الإسلامي في الشرق وبلدان آسيا.

وقد تكون هذه علامات نهاية التاريخ ليس بالمعنى الذي رآه “فوكو ياما” عند المثال الرأسمالي الأمريكي العولمي بل هو نهاية حلم العولمة ومأزق الدّيمقراطية الغربية أمام صعود اليمين.

يغــادر “دونالــــــد ترمب” البيت الأبيض غاضبا متعاليا رافضا حضور تنصيب خلفه “جو بايدن” محتقرا الدّيمقراطية الأمريكية كافرا بها، به أنفة وعزّة الرّجل الأبيض المتمرّد الذي يحتقر كلّ السياسيين بمن فيهم أبناء حزبه الجمهوري الذين خذلوه في حياكة مؤامرة رفض التصديق على فوز غـــــريمه وتعطيل موافقة المجلس، ولكنّه يرحل منتصرا منتشيا رافعا شعار “الشعب يريد سيادة الرجل الأبيض من جديــــد” بعد أن فشل في تحقيق عملية الانقلاب على النظام السياسي لبلاده، ربّما لو نجحت العملية كانت لتكون انطلاقــــة جديدة لنشر أيديولوجيا التطرف اليميني والإرهاب الأبيض القادم من عالم “العم سام” ويتأكد هذا من خلال ما أوردته الصحفية الفرنسية ” ناتالي نوقايراد” حين اعتبرت رحلة كبير الاستراتيجيين في إدارة الــرئيس “ترمب” في أنحاء أوروبا نشرا لإنجيل الثورة اليمينية الشعبوية، وهو من أبرز منظري اليمين، والذي يعتبر أنه ستكون الأيديولوجيا الشعبوية اليمينية الاتّجاه المسيطر في العالم مستقبلا.

يغادر “دونالد ترمب” البيت الأبيض وقد وضع بلاده على صفيح ساخن، وخلق  شرخا كبيرا في المجتمع الأمريكي الذي سيتعمّق أكثر فأكثر مع الأزمة الاقتصادية العالمية والوضعية العدائية التي ترك فيها البلاد لخلفه، والإرث الثقيل اجتماعيا وصحيّا الذي سيزداد سوء باتّساع العداء والعنف الدّمــــــوي مع ظهور قوّة اليمين المتطرف وتحوّله من خلال ما يتسلّـــــح به ترسانة الأسلحة المختلفة وعـــــزم على الانتقام وإسقاط الجمهورية والدّيمقراطية المريضة، ولا شك أنّ عمق المشاكل الاجتماعية من بطالة وغياب للعدالة وانتشار الفقر أمام تنامي الاستغلال الرأسمالي ستغذّي كلّها حركات التمرّد والثورات المؤمنة بالعنف الـــذي اعتبره “ماركس” (الأداة التي تشقّ الحركة الاجتماعية بواسطتها لنفسها طريقا وتحطم الأشكال السياسية المتحجّرة) التي لم تعد تستجيب لهذه الطبقات الجديدة.

يقول “غيوم دستيكس” في مقاله “لقد خسر ترمب الانتخابات، لكنّني أعتقـــد أنّه في الوقت الحـــــالي قد فاز بالمعركة، فقد نجح في جرّ نصف الأمريكيين إلى طمس الفارق بين الحقيقة والكــذب وبيــــــــن الاختلاف والإهانة وبين الوهم والحسّ السليم وبين النقد والقذف” وجعل الكراهية الخالصة للآخرين تصبح أمــــــــرا شرعيا، لتحلّ الكراهية المجنونة والعميقة محلّ الصراع السياسي الدّيمقراطي الذي يجري وفق مبدإ الفرق بين الخطإ والصواب وبين المعقول واللاّمعقول. ولغّم الوضع الدّاخلي والخارجي للرئيس الجديد، بل تركه في وضع يهدّده ويهدّد مرحلة حكمه.

وبالرّغم من التفـــــاف المؤسسات العسكرية والأمنية والقضــــــائية والدستورية حول حماية الدّيمقراطية ووحدة الولايات المتحدة، فإنّه ترك للباحثين تســــــاؤلا حول وضعية الدّيمقراطية اليوم سواء منها الدّيمقراطية الواقعة تحت هيمنة اتّحادات المال أو الدّيمقراطية المتحـــالفة مع اليمين المنغلق أو الدّيمقراطية الشعبوية: هل ماتزال الدّيمقراطية الّتي كانت أمريكا تصدّرها للعالم نظــاما قادرا على تحقيق قيم المواطنة والعدالة والحرّية؟ وأيّ ديمقراطية نريد في ظلّ تنوّع أشكالها خاصّة أمــام تصاعد الإرهاب اليميني الذي يهدّدها في عقر دارها والإرهاب الدّيني الذي يواجهها من الخارج ويحمّلها مآسي الشعوب وآلامها؟ هذا إضافة إلى تصاعد الأيديولوجيا الشعبوية التي باتت تنتعش في مخاطبـــــــة العواطف واللّعب على أوهام الجماهير.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP