الجديد

خبراء مركز “كارنجي” يناقشون تأثير “حرب غزة” على العالم .. عودة القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الدولي

في محاولة لتحليل تأثيرات  الحرب الدائرة بين حماس واسرائيل في قطاع غزة، والتي دخلت شهرها الثالث وبدأت أكثر دموية، دعا مركز ” مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط”،  كوكبةً من الباحثين، التابعين ل شبكة كارنيغي العالمية إلى الإجابة عن سؤال محدّد حول حرب غزة يرتبط بمجالات اختصاصهم، وكانت النتيجة رصد وجهات نظرٍ ثاقبة، وجاءت لتؤكّد كلها على أن القضية الفلسطينية التي بدا وكأنها دخلت في طيّ النسيان، قد عادت مجدّدًا إلى واجهة المشهد الدولي وإلى صُلب النقاش السياسي، وأنها لا تزال قادرةً على التأثير في الرأي العام وحشد شعوب ومجتمعات حول العالم.

الشرب من بحر غزة

استهلت مهي يحي مديرة مركز كارنجي للشرق الأوسط الملف بما قالته الصحافية الإسرائيلية أميرة هاس في كتابها المؤثّر الذي يحمل عنوان: Drinking the Sea at » Gaza الشرب من بحر غزة“: “بالنسبة لي، تختزل غزة كل فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتسلّط الضوء على التناقض الجوهري الكامن في إسرائيل، بين من يراها منارةً للديمقراطية، ومن يعتبرها رمزًا للظلم والحرمان؛ غزة هي جرحنا المفتوح”.

إن الحرب الدائرة في غزة منذ هجمات حماس يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر على بلدات وقواعد عسكرية في جنوب إسرائيل، نَكَأت هذا الجرح المفتوح. وعلى ضوء هذه الهجمات، وشراسة الردّ الإسرائيلي، وفداحة الخسائر البشرية والماديّة، رأينا أسوأ كوابيسنا تتحقّق أمام أعيننا. فقد أسفر الصراع عن مقتل الآلاف من أطفال غزة وألحق دمارًا جسيمًا بالقطاع، وطالت تبعاته مناطق العالم أجمع، إذ شهدت عواصم ومدن عربية وغربية مسيرات ومظاهرات غير مسبوقة منذ سنوات تنديدًا بالحرب.

وأدّى هذا الصراع إلى نشوب حرب سردياتٍ أجّجت التوتّر داخل الكثير من المجتمعات، ولا سيما في الغرب. وساهم النزاع أيضًا في تعميق الهوة الكبيرة التي تفصل بين دول الشطرَين الجنوبي والشمالي من العالم، وزاد من حدّة الانقسامات الداخلية، وفضح ازدواجية المعايير الدولية، وفاقم ظواهر عدّة، مثل صعود تيارات اليمين المتطرّف وتنامي المشاعر المعادية للمهاجرين.

من أجل تحليل هذه التأثيرات وغيرها، دعا مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط كوكبةً من الباحثين من شبكة كارنيغي العالمية إلى الإجابة عن سؤال محدّد حول غزة يرتبط بمجالات اختصاصهم، فخلصنا إلى هذه الباقة الغنيّة بوجهات نظرٍ ثاقبة تؤكّد على أن القضية الفلسطينية التي بدا وكأنها دخلت في طيّ النسيان، قد عادت مجدّدًا إلى واجهة المشهد الدولي وإلى صُلب النقاش السياسي، وأنها لا تزال قادرةً على التأثير في الرأي العام وحشد شعوب ومجتمعات حول العالم.

يُعزى ذلك إلى جملةٍ من الأسباب المعقّدة، أهمّها مشاعر الاستنكار إزاء عمليات القتل الجماعي للمدنيين العُزَّل في غزة. وفيما قوّضت هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر الشعور بالأمن لدى الكثير من الإسرائيليين، يرى مناصرو الشعب الفلسطيني أن الصراع الراهن لا يمكن فصله عن سياقه العام، إذ يرزح الفلسطينيون منذ عقودٍ طويلة تحت وطأة الاحتلال والحرمان من الحقوق، ويعيش سكان غزة تحت الحصار في أكبر سجن مفتوح في العالم في ظلّ تفاوت شاسع في موازين القوى العسكرية بين الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني، وغياب أي أُفق سياسي لحلّ النزاع.

في خضمّ الخسائر المأساوية التي يتكبّدها سكان غزة، وارتفاع حصيلة القتلى إلى أكثر من 18 ألف شخص، نصفهم من الأطفال، سأل مذيعٌ طفلًا فلسطينيًا ماذا يريد أن يكون عندما يكبر، فأجابه الطفل قائلًا: “نحن أطفال غزة لا نكبر”. غزة إذًا جرحٌ نازف لن يندمل… لكننا نأمل أن تساعد هذه التحليلات الموجزة في إيضاح أسباب ذلك.

كيف ينظر الاتحاد الأوروبي إلى الحرب في غزة، وكيف يمكنه التعامل مع الصراع؟

روزا بلفور، مديرة مركز كارنيغي أوروبا، مديرة مركز كارنيغي أوروبا، تركّز أبحاثها على السياسات والمؤسسات الأوروبية، والسياسة الخارجية والأمنية لأوروبا.

أدّى النزاع في غزة إلى تمزّق أوروبا من نواحٍ عدّة، في ضوء تأجّج المشاعر بسبب الشعور بالذنب التاريخي والظلم، وذلك على امتداد الهويات المتعدّدة للأوروبيين أنفسهم. وقد كشفت الاستجابة الأولى لمؤسسات الاتحاد الأوروبي عن قيادة منقسمة، وبرزت ردود فعل غاضبة على الزيارة التي قامت بها كلٌّ من رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسة البرلمان الأوروبي إلى إسرائيل، والتي اعتُبِرت منحازة وغير منسجمة مع الدبلوماسية التقليدية للاتحاد الأوروبي، التي لطالما اعتمدت نهج التوازن في البيانات تجاه المسائل الفلسطينية والإسرائيلية.

ثم شهد التصويتُ في الجمعية العامة للأمم المتحدة انقسامَ الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بثلاث طرق مختلفة. منذ تسعينيات القرن العشرين، حافظ الاتحاد الأوروبي دائمًا على وحدة ظاهرية في التزامه بحلّ الدولتَين، والعودة إلى حدود العام 1967، وإدانة المستوطنات الإسرائيلية. ولكن خلال الأعوام الأخيرة، توطّدت علاقات بعض البلدان مع إسرائيل، بدافعٍ من التاريخ، وكذلك الروابط الثنائية المتنامية في الاقتصاد والأعمال، ونشأ في بعض الحالات تقارب بين القادة السياسيين المنتمين إلى أقصى اليمين. تكشف الحرب، على ما يبدو، عن تبدّل في التوافق بين الحكومات، ما يجعل من الأصعب على الاتحاد الأوروبي اتّخاذ موقف واضح من الصراع.

لقد أدّى حجم الردّ الانتقامي الإسرائيلي وأعداد الضحايا المدنيين الذين سقطوا من جرّاء الحرب الإسرائيلية على غزة إلى اندلاع احتجاجات واسعة في مختلف أنحاء أوروبا، ما كشف عن انقسام إضافي بين الشعوب والحكومات. وبما أن فرنسا تضم أكبر جاليتَين يهودية ومسلمة في أوروبا، كان على الدبلوماسية الفرنسية أن تُقيم توازنًا بين الأصوات المختلفة. وفيما تختلف الاستجابة للصراع بين بلدٍ وآخر، بدءًا من تضامن ألمانيا التاريخي مع إسرائيل ووصولًا إلى تماهي إيرلندا مع الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، تظهر بعض الاتجاهات العامة: فالحكومات تنحاز إلى وجهة النظر الإسرائيلية، فيما يتحوّل الرأي العام، ولا سيما الأجيال الشابة التي تضمّ نسبة كبيرة من الأقلية المسلمة، لصالح القضية الفلسطينية.

في ظل تأجّج المشاعر وتعمّق الانقسامات، يصعب استشفاف الدور الذي يمكن أن يضطلع به الاتحاد الأوروبي، ولكن ثمة بعض المجالات للتحرّك. أولًا، أخذ الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، على عاتقه مسؤولية وضع الموقف التقليدي للاتحاد الأوروبي من النزاع موضع التنفيذ، وقام بجولة في الشرق الأوسط للقاء مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين، وكذلك مسؤولين في البلدان المجاورة. لم يكن الاتحاد الأوروبي يومًا في موقع يخوّله التأثير في عملية التوصل إلى حلٍّ سياسي للنزاع، ولكن بإمكانه تيسير البُعد الإقليمي للحوار الدبلوماسي. ويمكن أن ينطوي ذلك على دعم الجهود الرامية إلى منع حدوث تصعيد والانزلاق إلى مواجهة إقليمية.

المجال الآخر حيث يمكن لأوروبا ككُل أن تضطلع بدور مفيد هو التحضير لمرحلة ما بعد الصراع. لم يُبدِ الاتحاد الأوروبي ودوله رغبة في الاستفادة من علاقاته الاقتصادية مع إسرائيل التي نمت إلى حدٍّ كبير في الأعوام الأخيرة، ولكنه يبقى الجهة المانحة الأكبر لفلسطين. ولا شكّ أن أي اتفاق سياسي سيتطلّب استثمارات طائلة في إعادة الإعمار وفي بناء الأُسس الديمقراطية اللازمة لجعل الحلّ السياسي مستدامًا.

ختامًا، وبناءً على المشاعر التي أجّجتها الحرب على غزة والحِراك التضامني الذي أطلقته في أوروبا، يُمكن الاضطلاع بدور خاص في دعم الانخراط المدني والشبكات غير الحكومية الملتزمة ببناء مستقبل مختلف للمنطقة. هذا لا يمكن أن يكون بديلًا عن الحلّ السياسي الذي طال انتظاره، ولكن في حال التوصل إلى مثل هذا الموقف، يمكن التعويل على تاريخ أوروبا الطويل في ترسيخ أواصر التعايش، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحتى المصالحة.

ما أوجه الاتساق والتباين في مواقف الدول الأفريقية من الحرب في غزة؟

جاين مونغا، برنامج أفريقيا في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
زينب عثمان، مديرة برنامج أفريقيا في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

رشَحت مجموعة واسعة من المواقف من مختلف أنحاء القارة الأفريقية حول الحرب في غزة. وقد دعت ردود الفعل الأفريقية التي تمّ التعبير عنها في المنتديات المتعدّدة الأطراف وفي البيانات الرسمية عمومًا إلى وقف العمليات العسكرية، وأعادت التأكيد على دعم بلدانها لحلّ الدولتَين من أجل إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن ثمة اعتبارات مختلفة تدفع الدول إلى تبنّي موقف مؤيّد صراحةً للفلسطينيين أو للإسرائيليين، أو إلى تجنّب الانحياز العلني لطرفٍ دون آخر.

لقد صوّتت الأغلبية الساحقة من الدول الأفريقية في الأمم المتحدة لصالح قرارات تطالب بوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة. فقد تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا غير ملزم يدعو إلى هدنة إنسانية، بعد أن صوّتت 120 دولة لصالح القرار وعارضته 14 دولة، وامتنعت 45 دولة عن التصويت. وأفادت دراسة تحليلية أعدّتها شركة Development Reimagined أن أكثر من ثلث الدول التي صوّتت لصالح القرار (وعددها 39 دولة) كانت أفريقية، فيما امتنعت ست دول أفريقية فقط عن التصويت، ولم تصوّت أي دولة أفريقية ضدّ القرار. في المقابل، قدّمت كندا تعديلًا على القرار، مدعومًا من الولايات المتحدة وإسرائيل، ينصّ على إدانة الهجمات الإرهابية التي شنّتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر بشكل لا لبس فيه، فلم يحظَ إلا بدعم سبع دول أفريقية فقط، بينما صوّتت 23 دولة أفريقية ضدّه مُبديةً معارضتها لصياغته. في نهاية المطاف، فشل التعديل الكندي في الحصول على الأصوات المطلوبة لإقراره، أي على الأغلبية المحدّدة بثلثَي أصوات الجمعية العامة المؤلَّفة من 193 عضوًا.

أما الاتحاد الأفريقي، الذي يضمّ 55 دولةً في القارة الأفريقية، فأتى ردّه على الحرب في غزة متّسقًا مع موقفه الرسمي الراسخ حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ عبّر في بيان صادر عن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي محمد، عن قلقه إزاء الخسائر في صفوف المدنيين، مناشدًا الطرفَين بالتوقف عن القتال، والعودة إلى طاولة المفاوضات من دون شروط مسبقة للتوصّل إلى حلّ الدولتَين، وداعيًا المجتمع الدولي إلى تسهيل عملية تحقيق السلام وضمان حقوق الفلسطينيين والإسرائيليين. لا شكّ أن هذا البيان ينسجم مع موقف الاتحاد الأفريقي الثابت منذ عقود تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على الرغم من سعي إسرائيل إلى الحفاظ على صفة عضو مراقب في المنظمة الأفريقية.

واقع الحال أن من أكثر البيانات المؤيّدة صراحةً للشعب الفلسطيني صدرت عن جمهورية جنوب أفريقيا ودول شمال أفريقيا، فيما بقيت دول عدّة في غرب أفريقيا وجنوبها متعاطفة مع القضية الفلسطينية، إلا أن مواقفها كانت أقل اندفاعًا. وفي خطوة جريئة، قدّمت جنوب أفريقيا، ومعها جزر القمر وجيبوتي وبنغلاديش وبوليفيا، طلبًا إلى المحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق بشأن ارتكاب إسرائيل جرائم حرب، من ضمنها مقتل مواطنين من جنوب أفريقيا في الغارات الجوية على غزة. في المقابل، عبّرت دول أفريقية أخرى، منها كينيا وغانا، صراحةً عن انحيازها إلى إسرائيل، وأدانت بشدّة هجمات حماس، واعترفت بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في وجه الإرهاب. لكن الكثير من الدول الأفريقية حذت حذو نيجيريا وتبنّت خطابًا دبلوماسيًا بعبارات منتقاة بعناية، يدعو إلى الحلّ السلمي للنزاع عن طريق الحوار.

يُعزى التباين في وجهات النظر بين هذه الدول إلى عوامل عدّة، منها التجارب التاريخية لكل دولة، وروابطها السياسية والاقتصادية والثقافية، ومصالحها الوطنية. في الواقع، لمَسَت جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، أوجه تشابه بين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتجربتها الخاصة مع المشروع الاستعماري الاستيطاني في ظل نظام الفصل العنصري (الأبرتهايد)، فيما استندت كينيا إلى مواجهاتها مع الإرهاب في الآونة الأخيرة. فقد ألقى السفير مارتن كيماني، الممثل الدائم لكينيا لدى الأمم المتحدة، كلمةً خلال الجلسة العامة التاسعة والثلاثين للدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة، قال فيها إن “كينيا على دراية جيّدة بالعواقب الوخيمة الناجمة عن الهجمات الإرهابية”، مشدّدًا على ضرورة عدم استخدام الإرهاب أبدًا من أجل ترقية قضية ما.

مع ذلك، عمَد قادة بعض الدول الأفريقة إلى تعديل مواقفهم الوطنية منذ هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ربما للتكيُّف مع التوجّهات العامة المتغيّرة. وخير مثال على ذلك كينيا نفسها. ففي كلمة أدلى بها الرئيس الكيني وليام روتو، خلال قمة سعودية أفريقية عُقدت في الرياض، بدا أنه يحاول تليين موقف بلاده الذي كان في البداية منحازًا بشدّة إلى إسرائيل، وأعرب عن دعمه “لحلّ الدولتَين كوسيلة لإنهاء الصراع”، واعتبر بعض المحللّين أن هذا التعديل أتى نتيجة الحضور المشارك. ويشير ذلك إلى أن مواقف الدول من هذا الصراع ليست ثابتة وعصيّة على التغيير، بل يمكن تعديلها وفق ما تمليه المصالح الوطنية المتبدّلة وتوجّهات الرأي العام.

باختصار، أثارت الحرب في غزة مجموعة متنوعة من ردود الفعل في القارة الأفريقية، لذا يجدر بنا ترقّب كيف يمكن أن تتطوّر هذه الاستجابات مع الوقت. فقد تمسّكت بعض الدول بمواقفها على نحو واضح وحاسم، وتبنّت دول أخرى مقاربة دبلوماسية حذرة، فيما لا تزال حفنة من الدول تُبدّل مواقفها تماشيًا مع الظروف المتغيّرة. وبينما تتوالى الحرب في غزة فصولًا، لا بدّ من الانتظار لرؤية كيف ستتأقلم الدول الأفريقية مع الأحداث، وما إذا ستظلّ التباينات قائمة أم سينشأ تقارب في المواقف.

كيف فاقمت الحرب في غزة حالة الانقسام في الولايات المتحدة، ولا سيما داخل الحزب الديمقراطي؟

جايك والاس، باحث في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

أطلقت الحرب بين إسرائيل وغزة ردود فعل قوية على نحو غير مسبوق في أوساط الرأي العام الأميركي، إذ جابت مظاهرات حاشدة شوارع واشنطن العاصمة ومدن أخرى دعمًا للفلسطينيين، وأخرى تأييدًا للإسرائيليين. على الصعيد السياسي، تركّز الجزء الأكبر من النقاش حول هذه المسألة في الولايات المتحدة على الحزب الديمقراطي، إذ وضع فئتَين مهمّتَين على طرفَي نقيض، وهما: الأميركيون اليهود من جهة، والقوى التقدّمية من جهة أخرى. يثير هذا الوضع تساؤلَين: أولًا، كيف سيؤثر هذا النقاش على موقف إدارة بايدن من الحرب؟ وثانيًا، كيف سيكون وقعه على الانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام 2024؟

منذ الهجمات التي شنّتها حماس على إسرائيل والتي أطلقت شرارة هذه الحرب يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، حافظت إدارة بايدن على دعمها الثابت للردّ العسكري الإسرائيلي، على الرغم من الضغوط التي يمارسها الجناح التقدّمي في الحزب الديمقراطي لتبنّي نهجٍ أكثر توازنًا ودعم خيار وقف إطلاق النار. لكن مع مرور الوقت، عمدت الإدارة إلى تعديل بياناتها الرسمية للتركيز بشكل أكبر على حماية المدنيين الأبرياء وتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة طرح حلّ الدولتَين كأساسٍ لإنهاء الصراع. ويشير ذلك إلى أن إدارة بايدن تسعى إلى تحقيق توازنٍ بين الضغوط المتضاربة التي تواجهها، محاولةً الاستجابة للموقف المؤيّد للشعب الفلسطيني في أوساط اليسار الأميركي من جهة، والحفاظ على موقفها الأساسي الداعم لإسرائيل من جهة أخرى. وفي المرحلة المقبلة، قد يتّسع الشرخ القائم بين المواقف الأميركية والإسرائيلية حول بعض القضايا المرتبطة بالعمليات، لكن غالب الظن أن يبقى الدعم الأميركي الثابت لإسرائيل على حاله.

أما في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المرتقبة في العام 2024، فلا يزال من السابق لأوانه استخلاص أي استنتاجات مؤكدة. نادرًا ما يستند الأميركيون في تصويتهم إلى قضايا السياسة الخارجية، ناهيك عن أن الموقف الداعم لإسرائيل لا يزال يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الناخبين الأميركيين. لكن المعارضة الشديدة لمقاربة الرئيس جو بايدن في أوساط التقدميين والأميركيين العرب قد تعيق جهود إعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة. فما يثير القلق على وجه الخصوص هو التراجع الحاد في الأصوات الداعمة لبايدن ضمن فئة الناخبين الشباب.

صحيحٌ أن هذه التوجّهات قد لا تعبّر عن تحولات واسعة النطاق في أنماط التصويت الإجمالية، لكن من المرجّح أن تكون نتائج الانتخابات متقاربة، حتى أن التقلبات الطفيفة في التصويت قد تؤثر على النتيجة. ففي ولاية ميشيغان مثلًا، التي تضمّ عددًا كبيرًا من الأميركيين العرب، يمكن أن يؤدّي تغيّر تصويت حوالى 150 ألف ناخب إلى تأرجح الأصوات الانتخابية خارج المعسكر الديمقراطي.

هل نتوقع تبدُّلاً في موقف الولايات المتحدة من الردّ الإسرائيلي في غزة؟

سارة يركيس، باحثة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

في أعقاب الهجمات التي شنّتها حماس على إسرائيل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، كانت إدارة بايدن واضحة في وقوفها إلى جانب إسرائيل وإعطائها الهامش اللازم للإفراج عن مئات الرهائن المدنيين ومنع حماس من تنفيذ هجمات مماثلة في المستقبل. لكن خلال الأسابيع التي تلت الهجوم، أثارت الحملة الجوية والبرية التي شنّتها إسرائيل على غزة إدانات واسعة حول العالم، ووُجّهت إليها اتّهامات بارتكاب جرائم حرب بسبب سقوط أعداد كبيرة من القتلى في صفوف المدنيين، من بينهم آلاف الأطفال الفلسطينيين، فتبدّلت البيانات الرسمية الأميركية، ما أوضح أن ثمة مسافة تفصل بين مواقف حكومَتي بايدن ونتنياهو.

مع ذلك، من المرجّح أن تحول قيودٌ أميركية محلية عدّة دون حصول أي تغيير جذري في النهج الذي تتّبعه واشنطن حيال الصراع. أولًا، إن الولايات المتحدة على موعدٍ، بعد أقل من عام، مع انتخابات رئاسية يُرجَّح أن تشهد منافسة جديدة بين الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب. وفيما انتقد عددٌ متزايد من الأميركيين، ولا سيما في الجامعات، طريقة تعامل بايدن مع الحرب، أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة “إن بي سي نيوز” بين 10 و14 تشرين الثاني/نوفمبر، أن ما يقرب من نصف الناخبين الأميركيين يعتقدون أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية مبرّرة، مقارنةً مع 30 في المئة فقط من الناخبين الأميركيين الذين يعتقدون أنها غير مبرّرة. يُضاف إلى ذلك أن تصويت الأميركيين لا يستند عمومًا إلى السياسة الخارجية. ومع أن بايدن يفقد بعض الدعم في ولايات رئيسة، ما من معطيات تؤكّد على أن اتخاذ موقف أكثر انتقادًا لإسرائيل سيُكسبه أصواتًا. فالجمهوريون هم الأكثر انتقادًا لطريقة تعامل بايدن مع الحرب، إذ إن 70 في المئة منهم يعارضون نهج إدارته، وسيفضلّون ترامب، الذي يَعد بفرض حظر جديد وأوسع نطاقًا على سفر المسلمين إلى الولايات المتحدة

 في حال إعادة انتخابه رئيسًا في العام 2024.

ثانيًا، كشف الصراع عن حدّة الانقسام في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وفاقم، ظاهرتَي معاداة السامية وكراهية الإسلام. فقد أفاد مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية أنه وثّق، خلال الشهر الأول من الحرب الدائرة في غزة، زيادة حوادث التحيّز ضدّ المسلمين في الولايات المتحدة بنسبة 216 في المئة. وكشفت رابطة مكافحة التشهير بدورها عن ارتفاع حوادث معاداة السامية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر بنسبة 388 في المئة. والجدير بالذكر أن مظاهر معاداة السامية على وسائل التواصل الاجتماعي كانت آخذةً في الازدياد حتى قبل هجوم حماس، بحيث دعم إيلون ماسك، على منصة “إكس” (تويتر سابقًا) التي يملكها، منشورًا يُعدّ ترويجًا بغيضًا لخطاب معاداة السامية.

وثالثًا، يُقدَّر أن عشرة أميركيين لا يزالون في عداد الرهائن المحتجَزين لدى حماس، وقد قُتل 35 مواطنًا أميركيًا على الأقل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن لا ترغب في الانخراط بصورة مباشرة في حرب أخرى في الشرق الأوسط، اضطُرَّت إلى ذلك نظرًا إلى وجود رهائن أميركيين في غزة.

واقع الحال هو أن إسرائيل، حليفة الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، تُحارب مجموعة صنّفتها واشنطن بالإرهابية وتحتجز رهائن أميركيين خلال عام انتخابي. لذا، من غير الواقعي ببساطة أن نتوقّع تغييرًا جذريًا في الموقف الأميركي في ظلّ السياق الراهن.

كيف سيؤثّر الانقسام الحادّ حول الحرب في غزة على الديمقراطيات الغربية التي تعاني أساسًا من تنامي الشعبوية؟

ريتشارد يونغز، باحث في برنامج الديمقراطية والنزاع والحوكمة في مركز كارنيغي أوروبا.

من الواضح أن الصراع في غزة أحدث استقطابًا في الآراء داخل الديمقراطيات الأوروبية. فقد أدّى إلى اتساع هوّة الانقسامات السياسية في عددٍ كبير من المجتمعات الأوروبية بين يسار الطيف السياسي ويمينه. لقد تسبّب الغزو الروسي لأوكرانيا بهذا الانقسام إلى حدٍّ ما، ولكن النزاع الأوكراني لم يحجز لنفسه مكانًا في صُلب الانقسامات الداخلية الأوروبية بالدرجة نفسها كما الأحداث في الشرق الأوسط.

كان لتفجّر الجولة الراهنة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تأثيرٌ مؤذٍ جدًّا لجملةٍ من الأسباب، منها أنه يندرج ضمن مناخ سياسي يشهد في الأصل انقسامًا حادًّا. وهذه واحدة من مسائل عدّة تسهم في استفحال الانقسام الضارب الجذور. من المهمّ أيضًا الابتعاد عن الغلوّ في هذا الصدد: فأثرُ النزاع على هشاشة الديمقراطيات الأوروبية كبير، ولكنه ثانوي مقارنةً مع الأزمات الأخرى الكثيرة التي أذكت نار النزعة الشعبوية غير الليبرالية والانقسامات على أساس الهوية خلال العقد المنصرم.

والحال هو أن هذا الانقسام الحادّ يقابله موقف أكثر وسطيةً أدان العنف والتجاوزات لدى طرفَي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد ساهم انتشار هذا الموقف جزئيًا في التخفيف من تأثير الانقسام حول النزاع على السياسات الداخلية. ولكن هذا الموقف يترافق أيضًا مع التزام الحذر من أي نوع من أنواع التدخّل في محاولات التوصّل إلى حلول للأزمة.

وفيما يعمد كلٌّ من طرفَي النزاع روتينيًا إلى اتهام الأوروبيين بالتحيّز أو حتى بالتمييز ضدّه، وهي تصوّرات متجذّرة في أخطاء الأوروبيين ومسؤولياتهم في الماضي، يبقى الاتحاد الأوروبي محكومًا بالسير على حبل دبلوماسي رفيع. وممّا لا شك فيه أن تأثير عدم التدخل والوقوف على مسافة متساوية من الطرفَين ليس حياديًا على أرض الواقع، نظرًا إلى الاختلالات في توازن القوى بين الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني.

تزيد كل هذه الاعتبارات من تردّد الاتحاد الأوروبي حيال الذهاب بعيدًا في التدخل في النزاع. فعلى الرغم من بعض المبادرات الدبلوماسية ومن الكلام المعتاد عن ضرورة “العودة إلى حلّ الدولتَين”، كان الشاغل الأساسي للاتحاد الأوروبي هو التخفيف من التداعيات الممتدّة للنزاع على الأزمات التي تستوجب حاليًا الاهتمام داخل أوروبا نفسها.

ما الدور الذي قد تؤدّيه الصين بعد الحرب الدائرة في غزة، نظرًا إلى نفوذها المتنامي في الشرق الأوسط؟

تونغ جاو، زميل أول في مركز كارنيغي الصين.

لقد أبدت الصين طموحًا متزايدًا للتوسّط في سبيل تهدئة التوتّرات في الشرق الأوسط، حيث اتّبعت في السنوات الأخيرة نهجًا استباقيًّا في سياستها الخارجية سعيًا إلى التأكيد على نفوذ بيجينغ الجيوسياسي العالمي. والسؤال المهمّ اليوم هو ما إذا كان الصراع بين إسرائيل وحماس، الذي سلّط الضوء على التعقيدات المتأصّلة في نزاعات الشرق الأوسط والمخاطر السياسية الكبيرة التي تواجهها الأطراف الخارجية الراغبة في التدخّل، سيحدّ من سقف طموحات الصين ويثنيها عن الانخراط أكثر.

غالب الظنّ أن الصين ستركّز على توطيد نفوذها الجيو-اقتصادي في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من الحرب، تلمس بيجينغ تحوّلًا في معظم بلدان الشرق الأوسط من التركيز التقليدي على الصراعات الأمنية الإقليمية، نحو إعطاء الأولوية إلى التنمية الاقتصادية المحلية. وترى الصين أن هذا التحوّل يفسّر ما تصفه بـ”موجة المصالحات” الأخيرة بين دول المنطقة، وأنه يشكّل فرصة كبرى أمامها لتكثيف استثماراتها على المستوى الجيو-اقتصادي في الشرق الأوسط، والاستفادة من قوّتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها الجيوسياسي.

في المقابل، سيتأثّر الدور الذي ستؤدّيه الصين في الأمن الإقليمي إلى حدٍّ كبير بديناميات علاقتها مع الولايات المتحدة. ففي ظلّ الحرب الدائرة في غزة، استفادت الصين من الوقوف على الهامش والحفاظ على صورة الحياد والتمسّك بموقف أخلاقي أسمى، خلافًا للولايات المتحدة التي تكبّدت تكاليف باهظة في سعيها إلى التأثير على سلوك القوى الرئيسة، وواجهت انتقادات دولية وانقسامًا داخليًا بسبب التداعيات الإنسانية للصراع.

حتى الآن، يبدو موقف بيجينغ مدفوعًا إلى حدٍّ كبير بنيّتِها الحطّ من سمعة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، والحدّ من شرعيتهم ونفوذهم، كما تدلّ عليه عناوين الصحف الحكومية، على غرار “مؤيّدو الصين مؤيّدون للسلام، ومؤيّدو الولايات المتحدة مؤيّدون للحرب”. واللافت أن الرئيس الصيني شي جينبينغ ألقى كلمة أمام قمّة استثنائية خاصة غير مسبوقة عقدتها دول مجموعة بريكس لمناقشة الصراع بين إسرائيل وحماس، بهدف إعلاء أصوات المنظمات غير الغربية.

تسود الشكوك على نطاق واسع في بيجينغ بأن الاتفاقيات الإبراهيمية المدعومة من الولايات المتحدة قد تعيد إشعال فتيل التوتّرات العربية الإيرانية، وتقوّي التحالفات الأمنية التي تقودها واشنطن، ما قد يؤدّي إلى نشوء تحالف في الشرق الأوسط شبيهٍ بحلف شمال الأطلسي. هذه المخاوف بشأن النفوذ الأميركي هي العائق الأول في وجه التعاون بين الصين والولايات المتحدة في الشؤون الأمنية الإقليمية.

مع ذلك، إذا كانت الصين تتبنّى بالفعل نهجًا تصالحيًّا أكثر في التعامل مع الولايات المتحدة، ولا سيما بعد القمّة الثنائية الأخيرة في اجتماع منتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في سان فرانسيسكو، فثمّة مجالات مهمّة للتعاون المحتمل بين الجانبَين. على سبيل المثال، يشكّل تأييد كلٍّ من بيجينغ وواشنطن لحلّ الدولتَين باعتباره السبيل لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أساسًا متينًا لإطلاق جهودٍ أميركية صينية مشتركة لإرساء سلام دائم في المنطقة، إذا ما أظهرت قيادتا البلدَين التزامًا صادقًا بهذه المحصّلة.

الرابط الأصلي للملف:

https://carnegie-mec.org/2023/12/11/ar-pub-91216?fbclid=IwAR0BLZo_781ZSvKXhZ8BUReXc9gSG-fU9UBxb23KiNPjpqV97ehCEykXor8

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP