سؤال سوسيولوجي: بعد تعاظم دوره في المجتمع .. أي حضور للمسألة الشبابية في العلوم الاجتماعية المعاصرة ؟
منذر بالضيافي* – كاتب صحفي وباحث في علم الاجتماع
سؤالنا في هذه الورقة هو التالي: كيف تعاطى علم الاجتماع مع المسألة الشبابية؟ في محاولة للفهم، هدفها الكشف عن طبيعة تعاطي المقاربة السوسيولوجية مع الشباب. وهل تُعَد سوسيولوجيا الشباب اليوم فرعًا قائمًا بذاته ضمن الحقل المعرفي لعلم الاجتماع، الذي طور ووسع من إطاره النظري والمنهجي ليشمل عدة مجالات جديدة، منها السياسة و الشغب و التنظيم و الفن والثقافة والاتصال والتربية … ولم يعد يقتصر على مشاغل الرواد والمؤسسين، هذا ما يفسر أن الحقل السوسيولوجي أصبح “يتهم” بالسعي نحو “الهيمنة” على بقية الحقول المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية و الحضارة.
يشهد العالم حالياً تركز أكبر جيل من الشباب في تاريخه مع وجود 1.2 مليار شخص تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة يمثلون حوالي 16% من سكان العالم، يعيش قرابة 90% منهم في البلدان النامية. ومن المتوقع أن ترتفع نسبة الشباب لتبلغ 23% من إجمالي سكان العالم في 2030.
وهذه الأرقام تفسر تحول فئة الشباب الى “فرصة” ومن هنا “تصدرت فئة الشباب أخيراً الاهتمام الدولي على نحو غير مسبوق، وانعكس ذلك على تصاعد الاهتمام الأكاديمي بدراسة الأدوار المحتملة لتلك الفئة المؤثرة فضلاً عن انخراط الشباب بصورة عملية في السياسة الخارجية بشكل أو بآخر. فعلى المستوى الأكاديمي، تبلور عدد من الاتجاهات النظرية التي ركزت على دور الشباب في المجالات المتعلقة بحقوق الإنسان وبناء السلام والعدالة الاجتماعية، وعلى دور الحركات الاجتماعية الشبابية في تشكيل العلاقات الدولية والسياسة الخارجية خاصة في مجال تغير المناخ وتعزيز المساواة بين الجنسين، وعلى مشاركة الشباب في عمليات صنع القرار على مستوى المنظمات الإقليمية والدولية، وفي الهياكل المؤسسية لصنع السياسة الخارجية على المستوى الوطني. وتجلى ذلك الاهتمام في تنظيم الجمعية الأوروبية للعلوم السياسية ورشة عمل دولية متخصصة عن “الشباب في العلاقات الدولية” في مايو 2023.”.
مقدمة
لقد أهملت العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة العربية المسألة الشبابية؛ فهذه الفئة العمرية برغم المكانة التي تحتلها في الهرم السكاني العربي، وكذلك موقعها في التنمية بوصفها الشريحة الأكثر نشاطًا وحيوية، فإنها مع ذلك لم تجد حظها من البحث والدرس، من قبل المشتغلين في حقل علم الاجتماع في العالم العربي.
أما في الغرب فقد ارتبطت في الغالب الدراسات والبحوث السوسيولوجية، التي أُنجِزت حول الشباب، بحوادث وانتفاضات وحركات احتجاجية، أعادت تفكيك النسق الاجتماعي والبناء السياسي القائم، وكان للشباب الحضور القوي بل المؤثر فيها.
ولعل أهمها وأكثرها دلالة الانتفاضة الطلابية والشبابية بفرنسا سنة 1968، والتي كان لها وقع خاص على طرق تفكير، ونمط عيش كافة الشباب العالمي، وتحولت إلى ظاهرة تشبه تأثير “كرة الثلج” كما يقال.
وضعت انتفاضة 1968 حدًّا فاصلاً في تاريخ الديمقراطية الغربية؛ فسنوات التوفيق الهادئة، والتكامل، والترويض وصلت أخيرًا إلى نهايتها، وظهرت موجات جديدة من التعبئة والتعبئة المضادة أخلَّت بتوازن عدد من الديمقراطيات الغربية، وظهر جيل جديد تحدى ما دعا إليه أفراد الجيل الأول وأساليبهم.
إذ إن الانفجار العنيف للقوى الجديدة لم يَتَحَدَّ نماذج ونظريات الخمسينيات وأوائل الستينيات فحسب، وإنما “فرض أيضًا إعادة تقييم أساليب جمع البيانات وإستراتيجيات تحليلها”(1).
مثَّلت انتفاضة أو ثورة الضواحي -وإن بدرجة أقل من انتفاضة 1968- التي عرفتها العاصمة باريس ( فرنسا) سنة 2006، والتي كانت القيادة فيها للشباب، الذي يعاني من ويلات التهميش والإقصاء الاجتماعي والثقافي، والإقصاء من المشاركة السياسية وبالتالي في صنع القرار، مثَّلَت محور اهتمام كبير من قِبَل الاجتماعيين.
و كانت فئة الشباب خلال العشريتين الأخيرتين، موضوعًا وهدفًا “للتجنيد” من قبل الحركات التي تتبنى العنف والتطرف سواء اليمينية في المجتمعات الغربية، أو التي تتبنى الأفكار السلفية القريبة ومنها تنظيمات “القاعدة” و “داعش” في المجتمعات العربية والإسلامية.
وهذا ما يفسر تنامي البحث في الوظائف التاريخية، والمجتمعية sociétale، والثقافية والأيديولوجية لفئة الشباب في السنوات الأخيرة، وتحديدًا في العالم الغربي، مقابل تحرك “محتشم” من قبل النخب ومراكز البحث في العالم العربي والإسلامي.
لقد أهملت العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة العربية المسألة الشبابية؛ فهذه الفئة العمرية برغم المكانة التي تحتلها في الهرم السكاني العربي، وكذلك موقعها في التنمية بوصفها الشريحة الأكثر نشاطًا وحيوية، فإنها مع ذلك لم تجد حظها من البحث والدرس، من قبل المشتغلين في حقل علم الاجتماع في العالم العربي.
أما في الغرب فقد ارتبطت في الغالب الدراسات والبحوث السوسيولوجية، التي أُنجِزت حول الشباب، بحوادث وانتفاضات وحركات احتجاجية، أعادت تفكيك النسق الاجتماعي والبناء السياسي القائم، وكان للشباب الحضور القوي بل المؤثر فيها.
و قدَّم الخطاب الرسمي العربي وحتى القوى المعارضة له، تناولاً سطحيًّا لمشاغل الشباب، وحصر اهتماماته في الترفيه. في المقابل بقي موضوع الشباب ضمن دائرة المسكوت عنه في نشاطات فعاليات المجتمع المدني العربي، التي آثرت التعاطي معه -أي الشباب- كورقة للضغط والصراع السياسي، ولم تفكر في إيجاد الحلول الحقيقية لمشاغله وتطلعاته، من خلال الاستناد إلى نتائج البحوث الميدانية والأكاديمية.
سؤالنا اليوم هو التالي: كيف تعاطى علم الاجتماع مع المسألة الشبابية؟
هذه الورقة، التي لا تتجاوز كونها محاولة للفهم، هدفها الكشف عن طبيعة تعاطي المقاربة السوسيولوجية مع الشباب.
تُعَد سوسيولوجيا الشباب اليوم فرعًا قائمًا بذاته ضمن الحقل المعرفي لعلم الاجتماع، الذي طور ووسع من إطاره النظري والمنهجي ليشمل عدة مجالات جديدة، منها الفن والثقافة والاتصال والتربية…(2). ولم يعد يقتصر على مشاغل الرواد والمؤسسين.
وبرز تيار يدعو صراحة إلى “هيمنة” علم الاجتماع علي بقية الحقول المعرفية، */بالخصوص مع عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو Pierre Bourdieu الذي عُرِف بانحيازه بل وتنظيره لما أصبح يُعرَف بـ “إمبريالية علم الاجتماع”، انطلاقًا من مقاربة نقدية للظواهر الاجتماعية، تروم تعرية الواقع القائم على توظيف التنظيمات والمؤسسات -مثل المدرسة- من أجل إعادة إنتاج الموجود، وتأبيد هيمنة المهيمن، ومع بورديو تحولت السوسيولوجيا إلى “علم مزعج”(3).
تستند المقاربة السوسيولوجية إلى الإرث المعرفي الاجتماعي، وهو مجموعة المفاهيم والبراديغمات paradigmes المكوِّنة للإطار النظري، إضافة إلى الاختيارات المنهجية، والتي تختلف باختلاف المدارس النظرية، وبطبيعة الموضوع المشتَغَل عليه؛ فكيف تعاطى علماء الاجتماع مع الشباب؟
من خلال تتبع مسارات بروز وتطور سوسيولوجيا الشباب، نجد أن هذا الفرع من علم الاجتماع كانت بداياته أو انطلاقته من ألمانيا، ثم الولايات المتحدة الأميركية.
وتضاعف الاهتمام به أكثر في أوربا وبالتحديد ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية 1945. بعدها تطور الحقل المعرفي والمنهجي لسوسيولوجيا الشباب ليشمل مجالات أخرى في علاقة بهذه الفئة ومنها التربية، والقانون، والمجموعات….
من خلال تتبع مسارات بروز وتطور سوسيولوجيا الشباب، نجد أن هذا الفرع من علم الاجتماع كانت بداياته أو انطلاقته من ألمانيا، ثم الولايات المتحدة الأميركية.
وتضاعف الاهتمام به أكثر في أوربا وبالتحديد ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية 1945. بعدها تطور الحقل المعرفي والمنهجي لسوسيولوجيا الشباب ليشمل مجالات أخرى في علاقة بهذه الفئة ومنها التربية، والقانون، والمجموعات….
وتُجمِع مختلف البحوث الاجتماعية، وأساسًا علم الاجتماع على أنه لا يوجد تعريف واحد ومحدد للشباب، بل هناك تعريفات متعددة، لكل واحد منها شرعيته الخاصة به. وهو ما يفترض وجوب التسلح بالشجاعة المنهجية على حد تعبير إميل دوركايم، كما يجب أن يكون الباحث مدركًا لأهمية المساهمة في تقديم تعريف ينسجم وموضوع بحثه؛ فالجرأة المنهجية شرط وجودي لإنتاج سوسيولوجيا نوعية تطمح إلى تحليل وفهم الظواهر الاجتماعية، وهي المحفز لتشييد سوسيولوجيا الشباب، كفرع تخصصي يمكن أن يساهم في تقديم إجابات محتملة عن أسئلة وقضايا الشباب كفئة عمرية اجتماعية، تحتل مكانة بارزة في النسيج المجتمعي، سواء بالنظر إلى حضورها الكمي أو لطبيعة وخصوصية مشكلاتها.
المفهوم.. التعريف، والدلالة المنهجية
رغم أن دلالات كلمة شباب تبدو بديهية وبسيطة، إلاّ أن ضبطها وتحديد مفهومها هو أمر صعب في العلوم الاجتماعية(4)، وكل محاولات التحديد هي إجرائية ولغايات منهجية؛ فعلم النفس يحدّد فترة الشباب وفق التطور السيكولوجي للفرد في ارتباط بنموّه الفسيولوجي ويركز على مرحلة المراهقة، وعلوم التربية تركّز على مراحل التنشئة، وعلم الاجتماع يعتمد على مقاييس الاندماج الاجتماعي، والعلوم الطبية تركّز على النمو العضلي والفسيولوجي، والقانون يختلف في تحديد المقاييس من بلد إلى آخر.
واستنادًا إلى التعريفات، يمكن دراسة الشباب باعتباره: مجموعة ذات خاصيات بيولوجية وبسيكولوجية، تعبر عن فترة عمرية معينة، بين الطفولة والكهولة. مجموعة أفراد تكوِّن هذه الطبقة العمرية وتتمثل هذه الخاصيات. مجموعة من الإجراءات والتشريعات القانونية التي تطبق بالخصوص على هذه الفئة من الأفراد. مجموعة من القيم والمبادئ، ومن السلوكيات ومن أشكال وأنماط العيش التي تتطور في إطار أو ضمن هذه الطبقة، خاصة في المجموعات التلقائية والمهمشة.
مجموعة من التمثلات العقلية، ومن الصور والخطابات التي تهم هذه الفئة من المجتمع، وهي تمثلات تتناقلها وتروج لها وسائل الإعلام، وتعد قاسمًا مشتركًا بين أفراد هذه الفئة. كل هذه العناصر تتفاوت باختلاف الفضاء الاجتماعي والإطار الزمني/التاريخي. وتكون المتغيرات في الفضاء محل دراسة من قبل الإثنوغرافيين وعلماء الاجتماع، في حين ينكب المؤرخون على العناية بكل ما هو تحقيب تاريخي. هذا مع وجود تقاطع بين المبحثين، يبرز في رجوع الاجتماعيين إلى التاريخ لفهم تحولات الظواهر.
إن ارتباط النظم الاجتماعية في المجتمع العربي بالتاريخ يفرض على الباحث وجوب الاهتمام بالجانب التاريخي. الشباب، مفهوم متحول وديناميكي ومهما يكن من أمر التعريفات والتحديدات؛ فإن ما يعنينا في موضوعنا هذا هو التأكيد على نقطة التغير والتحوّل لدي هذه الفئة، ثم التركيز على أن فترة الشباب في كل المجتمعات وفي إطار أغلب المقاربات هي فترة مرتبطة بالتنشئة والإعداد والتكوين.
هي فترة تدريب واستيعاب للحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ومحاولة التأقلم معها قصد تحقيق الاندماج الاجتماعي. ومن هنا فإن هذا النسق Processus الذي ينظّم مرحلة الشباب متّصل (بما أنه نسق تنشئة وتكوين) بالبنية الثقافية للمجتمع وهي الإطار الأشمل الذي يحتوي على ما نسميه منظومة القيم. والتأكيد على اختلاف النظرة إلى الشباب من عصر إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر. وأن مفهوم الشباب ديناميكي ومتحوّل، وليس ثابتًا وصالحًا لكل زمان ومكان(5).
ما يميز المقاربة الاجتماعية، عن غيرها كونها تهتم بمختلف العوامل المكونة للحقيقة الجماعية للشباب؛ وبهذا فإن “الشباب، حقيقة جماعية”، ففي كل مجتمع، هناك مجموعة من الأفراد، أيًّا كان حجمها وعددها، تمر بهذه الفترة أو المرحلة من النمو، وتمثل “كتلة” أو مجموعة واضحة من المجموع العام للسكان، ولها مشاكل ومشاغل مشتركة.
كما أنه “حقيقة قانونية”، فوضعية القاصرين التي تهم الأطفال والمراهقين، تفرض عدة إجراءات من مثل الحق في التعليم، فالقاصر هو الذي لا يملك الكثير من حقوقه، ومن واجباته في المجتمع، فهو المواطن غير المكتمل.
وهذا ينطبق على الشباب، الذي يأخذ حقوقه تدريجيًّا من العائلة ومن المجتمع. وهي “حقيقة اجتماعية”، وذلك بالنظر إلى بروز أنماط عيش وسلوكيات تميز هذه الشريحة عن بقية مكونات المجتمع، وتعد بمثابة جواب بل ردة فعل (من شريحة الشباب) على الدور الذي يعطيه لها المجتمع، وتأكيد وتعبير عن الحضور.
إن ارتباط النظم الاجتماعية في المجتمع العربي بالتاريخ يفرض على الباحث وجوب الاهتمام بالجانب التاريخي. الشباب، مفهوم متحول وديناميكي ومهما يكن من أمر التعريفات والتحديدات؛ فإن ما يعنينا في موضوعنا هذا هو التأكيد على نقطة التغير والتحوّل لدي هذه الفئة، ثم التركيز على أن فترة الشباب في كل المجتمعات وفي إطار أغلب المقاربات هي فترة مرتبطة بالتنشئة والإعداد والتكوين.
وهذا ما جعل منها موضوع بحث واهتمام العلوم الإنسانية والاجتماعية وخاصة علم الاجتماع. والشباب، هو أيضًا “حقيقة سياسية”، تبرز من خلال اهتمام كل المشتغلين في الحقل السياسي، وخاصة صناع القرار، بإيجاد أجوبة عن تساؤلات ومشاغل هذه الفئة، وكذلك توفير حاجياتها، وهذا هو جوهر ما يعرف بـ “السياسة الشبابية”، التي تحاول أن تضع خارطة طريق تجيب عن “مشاكل الشباب”، وتسعى إلى الحد من تداعيات السلوكيات الشبابية الخطرة أو التي يمكن أن تشكِّل خطرًا في المستقبل، هذا إلى جانب توجيه وتأطير هذه الفئة وتجنيبها خطر الانزلاقات والتطرف. ويستفيد الخطاب السياسي من نتائج البحوث الأكاديمية ويحولها إلى سياسات وأفعال وبرامج.
الشباب ظاهرة اجتماعية وتاريخية
إن الشباب ظاهرة اجتماعية وتاريخية، تستمد جذورها الاجتماعية من الوضعية الانتقالية التي يعيشها الشباب فهي بالأساس ثقافية وليست طبيعية، وهي تتفاوت وتختلف من مجتمع إلى آخر ومن طبقة إلى أخرى، وحتى داخل المجتمع الواحد مثلما ذهب إلى ذلك بياربورديو(6)؛ فالعلاقة بين الشباب والمجتمع تمر أساسًا عبر المدرسة (المؤسسة التربوية) والعائلة، بواسطتهما يؤطِّر المجتمع الشباب، ويحدد لهم حقوقهم وواجباتهم، فعبرهما تتحقق “اجتماعية الفرد” la sociabilisation de l’individu على حد تعبير دوركايم؛ فعندما عجزت مؤسسة المدرسة عن حل مشاكل الشباب، خلال فترات محددة من القرن السابق، برزت للوجود مؤسسات تربوية جديدة، من أبرزها الحركات الشبابية، لتسد الفراغ، هذا بالإضافة إلى الأشكال التلقائية والهامشية على غرار المجموعات والعصابات وغيرها…
إذا كانت فترة الشباب في مراحل سابقة من حياة مجتمعنا تنتهي في سنِّ ما قبل الثلاثين، على اعتبار أن عددًا كبيرًا من الدراسات حصرت هذه الفئة في الفترة العمرية 15-30، فإن هذا التحديد العمري فقد كل مبرراته ومسوغاته الواقعية والمنهجية، فما نلاحظه في جُلِّ المجتمعات وخاصة الحديثة هو تمدد مرحلة الشباب إلى ما بعد سن الثلاثين بكثير؛ حيث تحافظ العائلة على تعهد وحماية الأبناء إلى مراحل عمرية متقدمة، وذلك بحكم التحولات الاجتماعية والاقتصادية وامتداد سنوات الدراسة، وتنوع سبل الاندماج الاجتماعي وتغير الذهنيات والسلوكيات… كل هذه العوامل أدت إلى ظهور ما نسمّيه في علم اجتماع الشباب بـ “تمطط” مرحلة الشباب، واختلاف مواعيد الدخول إلى الحياة العامة (الزواج، الاستقرار في الشغل، إنجاب الأطفال…) والاستقلال نهائيًّا عن خدمات ورعاية الأسرة.
وهذه الصورة تبدو مغايرة تمامًا في المجتمعات البدائية، وفي الأرياف؛ فالمرور في هذه المجتمعات من الطفولة إلى الكهولة، يتم دون تعقيدات كثيرة، وفي زمن سريع، نظرًا لبساطة طرق العيش وهيمنة نمط الإنتاج الزراعي، وما يعينه من قرب للطبيعة. الشباب.. “مجرد كلمة” يقوم التحليل السوسيولوجي لبيار بورديو على رفض التعريف الذي يستند إلى التحديد العمري، ويرى أن “الشباب مجرد كلمة” La « jeunesse » n’est qu’un mot، كما يذهب إلى القول بأن الحدود بين الأعمار أو الشرائح العمرية حدود اعتباطية، “فنحن لا نعرف أين ينتهي الشباب، وأين تبدأ الشيخوخة، مثلما لا يمكننا أن نقدِّر أين ينتهي الفقر ليبدأ الثراء”.
وهذا يعني من منظور بورديو أن الفئات العمرية هي بالضرورة نتاجات اجتماعية، تتطور عبر التاريخ وتتخذ أشكالاً ومفاهيم في ارتباط وثيق بالأوضاع والحالات الاجتماعية. كما أن الحدود بين الشباب والكهولة، هي محور اختلاف في كل المجتمعات وفي كل الأزمنة أيضًا(7).
ويرجع بورديو في نظريته حول الشباب إلى الأمثال الشعبية، وكذلك فلسفة أفلاطون، التي تعطي لكل فترة أو حقبة عمرية وصفًا خاصًّا ومميزًا لها؛ فالمراهقة تكون عادة مقترنة بالعاطفة، في حين تتميز الكهولة بالواقعية. يتعاطى بورديو مع ثنائية “شباب/كهولة” انطلاقًا من كونها علاقة عادية، “فنحن دومًا شباب وكهول بالمقارنة مع طرف ثان”(8).
ويرى بورديو أن الهدف من التقسيمات أو التصنيفات على أساس العمر والجنس والطبقة هو إعادة إنتاج النظام، بطريقة يحافظ فيها الجميع على موقعه؛ “فالشباب والكهولة ليست معطيات، بقدر ما هي نتاج بناء مجتمعي construites socialement”. ليخلص إلى القول بأن “العلاقة بين العمر الاجتماعي l’âge sociale والعمر البيولوجي l’âge biologique هي عملية بالغة التعقيد”. ولمزيد فهم العلاقة بين الأجيال، يشترط بورديو ضرورة فهم خاصيات اشتغال ورهانات الحقل le champ الذي تنتمي إليه هذه الفئات(9).
ولإعطاء الشرعية العلمية إلى استنتاجاته النظرية، التي تقول بأن “الشباب مجرد كلمة” وهو أيضًا “نتاج اجتماعي، يتحدد بشروط اجتماعية معينة”، يستنجد بورديو بالبحوث الإثنولوجية وكذلك الأنثروبولوجية؛ فمثلما “لكل مجتمع قيمه، وعقله الجمعي الذي ينضبط ويحتكم إليه، فإن له أيضًا مفهومًا خاصًّا للشباب، وتحديدًا اجتماعيًّا لخصائصه وتحولاته، بل إننا نجد داخل المجتمع الواحد أكثر من مفهوم للشباب، وذلك كله في اتصال وثيق مع ما يعتمل داخل هذا المجتمع ويتفاعل فيه، والنتيجة في النهاية شباب لكل مجتمع مختلف نوعًا ودرجة عن شباب أي مجتمع، ومنه نصل إلى التأكيد على أن لكل شباب قضاياه وأسئلته التي تتنوع بتنوع المجتمعات”(10).
وهو ذات الاستنتاج الذي توصلت إليه مارغريت ميد(11) في دراستها لقبائل ساموا؛ حيث بيَّنت أن أزمة المراهقة والشباب التي تبرز بشدة في المجتمع الرأسمالي الحديث، لا نكاد نجد لها أثرًا يُذكر في هذه القبائل، نظرًا لبساطة العيش في هذا المجتمع وسهولة المرور إلى سن الشباب.
وبهذا فإن الشباب في ساموا ليس هو الشباب في أميركا وليس هو الشباب في العالم العربي. مدارس واتجاهات نظرية ومن أبرز المدارس الاجتماعية، التي اهتمت بدراسة الشباب نذكر: * مدرسة شيكاغو: تيار بحثي أميركي، ينطلق من مقولة اللانظام الاجتماعي la désorganisation sociale من أجل فهم الانحراف الشبابي la déviance juvénile. وبداية من 1932 اهتم الباحثون في هذه المدرسة بإجراء تحقيقات حول التحضر. وقاموا بتتبع المجموعات والزمر أو العصابات الشبابية بهدف الكشف عن السلوكيات الجديدة لدى هذه الفئة.
يرجع عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في نظريته حول الشباب إلى الأمثال الشعبية، وكذلك فلسفة أفلاطون، التي تعطي لكل فترة أو حقبة عمرية وصفًا خاصًّا ومميزًا لها؛ فالمراهقة تكون عادة مقترنة بالعاطفة، في حين تتميز الكهولة بالواقعية. يتعاطى بورديو مع ثنائية “شباب/كهولة” انطلاقًا من كونها علاقة عادية، “فنحن دومًا شباب وكهول بالمقارنة مع طرف ثان”
من خلال الاعتماد على الملاحظة المباشرة، والملاحظة بالمشاركة في الميدان بيَّنت هذه الدراسات الميدانية، أن الشباب هم الذين يقفون وراء التغيير الاجتماعي. واعتنت هذه المدرسة، بالعلاقات داخل الجيل الواحد، والعلاقات بين الأجيال. وانتهوا بتحديد مفهوم الشباب، في إطار العلاقة بين الأجيال. كما قاموا بدراسة “الثقافة الشبابية”، وملاحظة مدى قدرة المبادئ والقيم علي إدماج الشباب (مفهوم الثقافة المهيمنة)، وكذلك إمكانية تحصيل معارف جديدة، والعيش ضمن ظروف أفضل.
* في بريطانيا،
تم الاهتمام بهذا الفرع الجديد من علم الاجتماع، بداية من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، من خلال اكتشاف شريحة الشباب العامل وأشكال الانحراف عند الشباب. ثم طورت الجامعات البريطانية البحث حول الشباب.
وقد تركزت محاور البحث في المقام الأول حول الشباب المنتمي إلى الطبقة العمالية التي تسكن أحياء الضواحي أو الأحياء الشعبية، وتعاني من البطالة، وتعيش علي هامش النظام الثقافي للطبقة الوسطى. وتعتبر الثقافة الشبابية كأداة للمقاومة؛ حيث نجد التمثلات الثقافية تحيلنا علي التقسيم الطبقي، من خلال ثقافة مهيمنة وثقافة مهيمَن عليها. وتنتمي الثقافة الشبابية إلى ثقافة الطبقة التي تنتمي إليها.
* في فرنسا،
بداية من النصف الثاني من الستينيات، بدأ النقاش يدور حول وجود الشباب كمجموعة اجتماعية منسجمة. واعتبر بعض علماء الاجتماع في حينها، أن الشباب يمثلون طبقة عمرية منسجمة، وذات ثقافة وشبكة من الرموز المشتركة. وبالنسبة للبعض الآخر، وأهمهم بيار بورديو، “فإن الشباب مجرد كلمة”.
وقد حصلت هذه النقاشات في ظرف اتسم بحصول تطورات كبرى في المجتمع الفرنسي. الذي كان يتهيأ للانتقال من مجتمع صناعي معروف بالطبقات الاجتماعية، إلى مجتمع نتعرف عليه عبر الثقافة الجماهيرية culture de masse. وقد برز هذا التباين في أعمال وبحوث علماء الاجتماع، وظهر للعيان في المقولات التي تُقر بتمديد فترة الشباب وعدم حصرها في فترة محددة بعينها، وبتجارب التنشئة والاندماج الاجتماعي les expériences de socialisation. كان لمدرسة شيكاغو السوسيولوجية الفضل الكبير في تطوير علم اجتماع الشباب في أوربا (1970 في بريطانيا و1980 فرنسا).
وجدير بالقول: إن الشباب لا يملك إلى اليوم نظرية خاصة به، ويُدرس دائمًا في إطار بحوث واهتمامات فروع معرفية ونظرية أخرى، مثل “التغيير الاجتماعي” أو “إعادة الإنتاج الاجتماعي”… وفي فرنسا مثلاً، تعتمد المقاربات حول الشباب على التجارب التاريخية والثقافية والرهانات الاجتماعية المرتبطة بآليات توزيع الأفراد في البِنَى الاجتماعية. فماذا عن سوسيولوجيا الشباب في العالم العربي؟
سوسيولوجيا الشباب عربيا
إن السمة الغالبة علي الإنتاج السوسيولوجي -بكافة فروعه ومنها الشباب- في العالم العربي، هي التراجع من حيث الكم والمضمون، فالعلوم الاجتماعية والإنسانية تعيش أزمة، هي نتاج ومحصلة طبيعية للأزمة المركبة التي تعيشها المجتمعات العربية، بسبب تعطل الحراك الاجتماعي والسياسي؛ ما أدي إلى عدم توفر الأرضية، والمناخ المناسب لخلق حركة بحث جادة، في مختلف مجالات المعرفة، وخاصة علم الاجتماع باعتباره “علمًا مزعجًا” وفق عبارة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. هذه الحالة العربية، الموسومة بالأزمة، يجب أن تكون حافزًا لكسب المعرفة والعلم “الذي يهبنا القدرة علي التحليل والتفسير والفهم، وتلك هي أدوات التغيير الرشيد”(12).
لعل غياب الشروط الضرورية لإنتاج المعرفة، جعل المشتغلين في حقل علم الاجتماع غير قادرين على أداء أدوارهم، والوفاء بحاجات أوطانهم الراهنة والمستقبلية برغم مرور قرن على إدخاله رسميًّا للجامعات العربية. واللافت للانتباه أن العديد من الجامعات العربية بدأت تناقش جدوى الاستمرار في تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتعلل بعدم القدرة علي استيعاب خريجيها في سوق الشغل.
في كتابه “اتجاهات نظرية في علم الاجتماع”، تطرق الدكتور عبد الباسط عبد المعطي، إلى وضعية علم الاجتماع العربي(13)، وقد انطلق مما جاء في مقدمة “لوي ورث” للطبعة الإنجليزية من كتاب “الأيديولوجيا واليوتوبيا” الذي ألَّفه “كارل مانهايم” والتي أشار فيها إلى أهم أسباب ركود المعرفة الاجتماعية، وهو تفسير ينطبق على حالة علم الاجتماع في الوطن العربي، وذلك حين ميز بين مجموعتين أساسيتين من العوامل: الأولى: وتتمثل في المحددات التي تُفرَض على العلم فرضًا إكراهيًّا قسريًّا من خارجه. الثانية: وتشمل العقبات والصعوبات الناتجة من داخل العلم نفسه.
وإذا كانت المجموعة الأولى تشير إلى علاقة علم الاجتماع بالنظام الاجتماعي الذي هو جزء منه، يتأثر به، ويفترض أنه يجب أن يؤثر فيه؛ فإن هذا النظام يحوي جملة الأبعاد الاجتماعية-الاقتصادية، وما يترتب عليها من عناصر ثقافية وسياسية تؤثر في النشاط العلمي ومنتجه والمشتغلين به، الذين عليهم أن يأخذوا منه موقفًا، فكرًا وسلوكًا، إقرارًا أو إنكارًا، أو حتى مواقف وسطية.
وتهتم اﻟﻤﺠموعة الثانية بحالة العلم، نظرية ومنهجًا وموقفًا من المجتمع، متمثلاً في الوظائف التي على العلم أن يقوم بها، فإن كلتا اﻟﻤﺠموعتين متفاعلتان أثَّرتا في النشاط العلمي وتوجهاته، وأفضتا في الوطن العربي -مثلاً- إلى النظر إليه نظرة لا مبالاة وإهمال، أو خوف وتوجس، أو قبول روتيني محدود من باب استكمال أشكال الأشياء، وإلى اختيار المشتغلين به -بوعي أو بدونه- لأدوار رسمية محدودة، انحصرت في التلقين داخل قاعات الدرس، غير متجاوزة أسوار الجامعات.
إن السمة الغالبة علي الإنتاج السوسيولوجي -بكافة فروعه ومنها الشباب- في العالم العربي، هي التراجع من حيث الكم والمضمون، فالعلوم الاجتماعية والإنسانية تعيش أزمة، هي نتاج ومحصلة طبيعية للأزمة المركبة التي تعيشها المجتمعات العربية، بسبب تعطل الحراك الاجتماعي والسياسي؛ ما أدي إلى عدم توفر الأرضية، والمناخ المناسب لخلق حركة بحث جادة، في مختلف مجالات المعرفة، وخاصة علم الاجتماع باعتباره “علمًا مزعجًا” وفق عبارة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو
في توصيفه لوضعية علم الاجتماع في الأقطار العربية يقول عبد المعطي حجازي: إن “الجهد السوسيولوجي في الوطن العربي ليس استثناءً؛ فهو تأثَّر -ولا يزال- سلبًا أو إيجابًا بنمط العلاقات السائدة في المجتمع، بين الجماعات وبين حائزي القوة والخاضعين لها، وبين المجتمع العربي بأقطاره والمجتمع الدولي بتناقضاته وما تسيطر عليه من قوى اقتصادية وسياسية، وحصاد كل هذا يمكن أن يتيح فرصًا للباحثين للعمل للإبداع لتطوير علمهم وشحذه نظريًّا ومنهجيًّا، وتحقيق التزامه بقضايا الوطن، كما يمكن أن يحُول دون التقدم خطوة أو التحرك ولو قيد أنملة”(14).
في بحث مطول له، حول “وضعية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي بين أزمتي الواقع والفكر”(15) يتناول الباحث أحمد سالم الأحمر بالدرس ما يسميه بجذور أزمة العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، ويُرجعها إلى العوامل التالية:
* تخلف البلاد العربية، وخاصة من الناحية العلمية، نتيجة لخضوعها الطويل للسيطرة العثمانية وللاستعمار الغربي.
* عدم توفر رصيد اجتماعي تراكمي حديث منطلق أساسًا من واقع الأمة العربية.
* انفصام التفكير الاجتماعي المعاصر في الوطن العربي عن جذوره الفكرية.
أزمة الشباب العربي.. أزمة ثقافة وأزمة مجتمع
يؤكد المفكر العربي الدكتور عزت حجازي، على أن أزمة الشباب العربي، أزمة ثقافية وأزمة مجتمع، وأنها أزمة مركبة ومعقدة ومتداخلة العناصر. وشدَّد بالخصوص علي أن المناخ الراهن لا يسمح بالبحث والنشر العلمي والأكاديمي. وأرجع هذه الوضعية إلى “طبيعة بنية المجتمعات العربية، المتسمة بتخلف نظام الإنتاج، والعلاقات الاجتماعية، وقصور أسلوب العمل العام فيها”(16).
فالشباب العربي، علي غرار كافة شرائح وقطاعات المجتمع العربي، غير مدروس، دراسة علمية كافية، وما نعرفه عنه، إما منقول عن غيره، ومُلصَق به إلصاقًا. وحتى القليل من البحوث والدراسات التي أُنجِزت في هذا القُطر أو ذاك “جاءت كلها جُزرًا منعزلة لا تربط بينها أرض واحدة، ولا يمهد السابق منها للاحق، ولا ينطلق الحديث فيها من النقطة التي انتهى عندها القديم، فضاعت فرص الاستفادة من التجارب النظرية والمنهجية، وأهدرت فرص الاستمرارية والتراكم اللازمين لنمو العلم وتطوره وخلق أرضية صلبة يمكن أن يقوم عليها التطبيق”(17).
تُعد البحوث التي اهتمت بالشباب في الأقطار العربية، من أُفق نظرية ومنهج العلوم الاجتماعية، شحيحة بل منعدمة، باستثناء بعض البيانات الإحصائية، والتقارير الرسمية/الحكومية التي تفتقد للصرامة المنهجية والأكاديمية. وضمن هذا الفراغ الأكاديمي في التعاطي مع المسألة الشبابية، صدر سنة 2000 كتاب للباحث المغربي، عبد الرحيم العطري، تحت عنوان “سوسيولوجيا الشباب المغربي: جدل الإدماج والتهميش”.
ويُرجِع المؤلف الدواعي والأسباب التي دفعته لإنجاز هذا البحث، فيؤكد أن “الحاجة إلى سوسيولوجيا الشباب كانت البدء، وعبر ما يعتمل داخل المؤسسة الأسرية من سلطة أبوية وتدجين اجتماعي، وما يتلو ذلك من ثورة مضادة، ومن خلال الانفتاح على جانب شقي من المسألة الشبابية انطلاقًا من عنف المؤسسة التعليمية وإستراتيجيات إعادة الإنتاج التي ترتكن إليها، استمر الاشتغال على علاقات معينة يدشنها الشباب مع مجتمـعه، وما ينجم عنها من وضعيات لا تكون سوية في غالب الأحيان”(18).
فالشباب العربي، علي غرار كافة شرائح وقطاعات المجتمع العربي، غير مدروس، دراسة علمية كافية، وما نعرفه عنه، إما منقول عن غيره، ومُلصَق به إلصاقًا. وحتى القليل من البحوث والدراسات التي أُنجِزت في هذا القُطر أو ذاك “جاءت كلها جُزرًا منعزلة لا تربط بينها أرض واحدة، ولا يمهد السابق منها للاحق
ومن أسئلة الحضور والغياب الشبابي في المشهد الحزبي، وآليات الإدماج والتـطبيع والتهميش التي يجابِه بها مالكو وسائل الإنتاج والإكراه طموحات الشباب وتطلعاتهم المشروعة، من هذه الأسئلة المستفزة إلى البعد الاستهلاكي وثقافة الاغتراب في اللهاث وراء الموضة، “فالحديث عن مؤسسة دار الشباب المغربية كمؤسسة يفترض فيها أن تكون للشباب أولاً وأخيرًا؛ فعبر هذا المسار العلائقي المحكوم بجدل الإدماج والتهميش كان –وسيستمر- البحث عن معنى ما لأن يكون الإنسان شابًّا هنا والآن؟”(19).
تتأكد اليوم، في عالمنا العربي، الحاجة الملحة إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وخاصة علم الاجتماع، من أجل البحث عن حلول لمشكلاتنا وقضايانا. غير أنه يتعين علينا، وفي المقام الأول المبادرة في البحث عن أسباب أزمة تفكيرنا الاجتماعي لإنقاذ واقعنا العربي المتأزم، لأن هذه المسألة بالنسبة لنا أمر ضروري وليست ترفًا فكريًّا.
وهذا لا يتم ما لم نوفِّر الشروط الضرورية لإنتاج معرفة نقدية وموضوعية، “فالإبداع الفكري في أي مجال من مجالات المعرفة يحتاج إلى مقومات مادية ومعنوية، وتراكم معرفي، وبيئة مضيافة تتقبل كل جديد صالح، وتتخلى عن كل قديم ضار بدون تزمت وتعصب أعمى، وجو ديمقراطي سليم يسمح بالتفكير الحر، ويشجع على تطبيق نتائج البحث العلمي التي تهدف إلى تحسين أوضاع الإنسان”(20).
_______________ *صحفي وباحث في علم الاجتماع
-
منذر بالضيافي،
صحفي وباحث تونسي متخصص في الحركات الإسلامية، حاصل على شهادة الدراسات المعمقة في علم الاجتماع من جامعة تونس. نشر دراسات عديدة ضمن سلسلة كتب مركز المسبار للدراسات والبحوث حول ظاهرة الإسلام السياسي، منها: “الإسلاميون في تونس ما بعد الثورة”، “العنف زمن حكم النهضة الإسلامية في تونس”، “استراتيجية محاربة الإرهاب في تونس”، “تمدد داعش في المغرب العربي.. حالة تونس”، “عودة المقاتلين من بؤر التوتر.. الحالة التونسية”، “تحولات حركة النهضة في تونس.. من جماعة دعوية إلى حزب في الحكم”، و”الإسلام السياسي في تونس من منظور علم الاجتماع”، كما أشرف الباحث على كتاب المسبار عدد (114) “ليبيا 2011- 2016.. داعش – الجوار – المصالحة”، وشارك فيه بدراسة حول: “ليبيا.. الواقع والتحديات وسيناريوهات المستقبل”. وصدر له في تونس ثلاثة كتب، تناول الأول: “تجربة حكم النهضة في تونس 2011- 2014” (مارس/ آذار 2015)، والثاني: “النهضة.. والهروب من المعبد الإخواني” (أبريل/ نيسان 2017) وكتاب ثالث هو عبارة عن حوار مطول مع الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي، تحت عنوان: “الباجي قايد السبسي.. المشي بين الألغام” (أبريل/ نيسان 2018).
الهوامش
(1) د. سعد الدين إبراهيم، “تأمل الآفاق المستقبلية لعلم الاجتماع في الوطن العربي: من إثبات الوجود إلى تحقيق الوعود”، نحو علم اجتماع عربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص 346- 347
(2) يقول الدكتور رضوان السيد، باحث وكاتب من لبنان، في تقديمه لكتاب “نحو علم اجتماع عربي”، مجلة “الوحدة العربية”، العدد 50، نوفمبر/تشرين الثاني 1988، ص 185: إن «العلوم الاجتماعية”، حقل شديد الخطورة، بسبب اتساعه، وسيطرته علي سائر حقول المعرفة في العلوم الإنسانية، بحيث صار هناك علم اجتماع للمعرفة، وآخر للسياسة، وثالث للثقافة، ورابع للمدينة، وخامس للريف…إلخ. وبتعبير آخر فإن “الاجتماعي” صار مفهومًا شديد العمومية، شأنه في ذلك شأن مفهوم التاريخ في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
(3) بيار بورديو (1930-2002): عالم اجتماع فرنسي، يعتمد منهجه على أساليب بحث مستقاة من فروع متباينة من المعرفة كالفلسفة والنظرية الأدبية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.
(4/4/) Galland Olivier, Sociologie de la jeunesse. L’entrée dans la vie, Armand Colin, 1991, réédition en 2001.
(5) للتوسع راجع: La jeunesse et le sport: réalités et discours, par Gilbert KREBS, in histoire du sport et de la jeunesse, Etudes réunies par Jean-François TOURNADRE, publication de l’institut d’Allemand d’Asnières, 2000
(6)
– Entretien avec Anne-Marie Métailié, paru dans les jeunes et le premier emploi, Paris, Association des Ages, 1978, pp 520-530. Repris in Questions de sociologie, Editions de Minuit, 1984, Ed. 1992 pp. 143-154
(7)
– Pierre BOURDIEU, Questions de sociologie, éditions de Minuit, 1984, Ed. 1992 pp. 143-154
8/
بيار بورديو، مصدر سابق، 143-154
(9) – بيار بورديو، مصدر سابق، 143-154.
(10) – بيار بورديو، مصدر سابق، 143-154.
(11) – مارغريت ميد (1901-1978)، عالمة الإنسان الأميركية، قامت بدراسة القوميات في ساموا، نيوغينيا وجزر المحيط الهادئ. لم يقتصر بحثها في علم الإنسان علي البعد الأكاديمي، بل كان مغامرة في أدق التفاصيل الحياتية لهذه المجتمعات المختلفة عن الغرب، فغاصت في المعيش اليومي لهذه القبائل بكل تفاصيله، من حفلات الرقص البالينية الشعائرية إلى الوشم البولينيسي، حيث منحها كل ذلك سحرًا عظيمًا، عبَّرت عنه في كتابها الذي يحمل عنوان “سن الرشد في ساموا”.
(12) ديفيد أنفليز وجون هغسون، سوسيولوجا الفن.. طرق للرؤية، سلسلة “عالم المعرفة” الكويت، 2007، ص 17
(13) د. عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، سلسلة “عالم المعرفة” الكويت، 1981، ص 5-8
(14) عبد الباسط عبد المعطي، مصدر سابق، ص 167.
(15) انظر: أحمد سالم الأحمر، “وضعية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي بين أزمتي الواقع والفكر”، مجلة “الوحدة” العدد 50، 1988، ص 8-9
(16) عزت حجازي، الشباب العربي ومشكلاته، سلسلة عالم المعرفة الكويت، 1985، ص 217-241.
(17) عزت حجازي، مصدر سابق، 217-241.
(18) عبد الرحيم العطري، سوسيولوجيا الشباب المغربي .. جدل الإدماج والتهميش، المغرب، 200، ص 99-100.
(19) عبد الرحمان عطري، مصدر سابق، ص 99-100.
(20) انظر: أحمد سالم الأحمر، “وضعية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي بين أزمتي الواقع والفكر”، مجلة “الوحدة” العدد 50، 1988، ص 7.
اقرأ المزيد على الرابط : https://www.balagh.com/article/حضور-المسألة-الشبابية-في-البحوث-العربية
**للتوسع حول الانتاج السوسيولوجي العرب، راجع كتاب –نحو علم اجتماع عربي-، هو عبارة عن مجموعة من الدراسات التي سبق نشرها في مجلة “المستقبل العربي”، وتتناول البحث في مدى الحاجة إلى علم اجتماع عربي، وقدرة المناهج الحالية لعلم الاجتماع على معالجة المشكلات المختلفة التي تواجه المجتمع العربي ويعاني منها.
ويضم الكتاب ثماني عشرة دراسة، اثنتا عشرة منها قُدِّمت سابقًا في الندوة التي أقامتها الجمعية العربية لعلم الاجتماع بعنوان “نحو علم اجتماع عربي” والتي عُقدت في تونس خلال يناير/كانون الثاني 1985 وتم نشرها في “المستقبل العربي”، وهي لا تمثل كل الدراسات التي قُدِّمت في تلك الندوة، وإنما ما ارتأت المجلة نشره منها.
وتمثل الدراسات الأخرى، ما نشرته “المستقبل العربي” حول الموضوع نفسه في مناسبات أخرى، منها ندوتان للمجلة حوله. وقد تم تصنيف الدراسات ونشرها تحت أقسام رئيسية ثلاثة: القسم الأول عن طبيعة الأزمة، ويضم عشرة أبحاث، والثاني دراسة حالات ويضم خمسة أبحاث، والثالث بعنوان نظرة مستقبلية ويضم ثلاثة أبحاث أحدها ندوة للمجلة حول الموضوع.
وتركزت محاور الدراسات حول: الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي، علوم الاجتماع والمشكلات الاجتماعية العربية، أزمة علم الاجتماع أم أزمة المجتمع؟، من الإشكاليات المنهجية في الطريق العربي إلى علم اجتماع المعرفة، المسألة النظرية والسياسية لعلم الاجتماع العربي، علم الاجتماع والصراع الأيديولوجي في المجتمع العربي، المثقف العربي والالتزام الأيديولوجي، التخلف الثقافي النفسي كمفهوم بحث في مجتمعات الوطن العربي والعالم الثالث، الاجتماعيون العرب ودراسة القضايا المجتمعية العربية، علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي، بناء المجتمع العربي، التحليل الانقسامي للبنيات الاجتماعية في المغرب العربي، ملامح تطور السوسيولوجيا في المغرب، علم الاجتماع في تونس، إشكالية الكتابة السوسيولوجية في المغرب، تأمل الآفاق المستقبلية لعلم الاجتماع في الوطن العربي، في استشراف مستقبل علم الاجتماع في الوطن العربي، ونحو علم اجتماع عربي.
*** كتاب “نحو علم اجتماع عربي – علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة”، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية
Comments