الجديد

صندوق النقد الدولي يؤكد: تونس تتجه نحو مزيد من الفقر التنموي

عماد بن عبد الله السديري

نعيش اليوم في عصر بلغت فيها علوم الإحصاء والبيانات الضخمة مستويات متقدمة جدا وغير مسبوقة في تاريخ البشرية..

ولا يفسح هذا التقدم البحثي الهائل المجال أمام فهم ماضينا وحاضرنا بعمق فحسب، بل إنه يمكننا كذلك وبشكل دقيق جدا من استشراف مستقبلنا ومعرفة ما ينتظرنا بشكل مفصل؛ فالدهر في عصر الثورة الصناعية الرابعة أصبح غير قادر على إخفاء أي شيء عنا..

وحتى إن فاجأنا أحيانا ببعض الأحداث الطارئة، فإن لشعوب العالم الذكي ما يكفي من المعارف والمهارات والموارد لتتعامل معه بكفاءة عالية ولتنتصر في جل معاركه.

ولعلّ المتابع للشأن التنموي الدولي، وبخاصة للفكر التنموي المعاصر الذي يوجّه حكومات الدول المتقدمة، ليدرك بعمق أن مثل هذه الأفكار تمثّل جوهر التنمية المستدامة كمقاربة تنموية رائدة تسعى إلى إدامة رخاء الشعوب وازدهارها واستقرارها.

مهما كانت الظروف والمتغيرات، من خلال تعزيز تنافسية اقتصاداتها وتقوية مجتمعاتها وحثها على حسن التصرف في مواردها بأنواعها .

في الحقيقة، إن ما تنشره بعض المؤسسات الدولية الكبرى والشريكة لبلادنا من بيانات دقيقة يتم تحصيلها وفقا لمنهجيات علمية صارمة يؤكد أن تونس، خلافا لجميع الدول المتقدمة، لا تسير في الاتجاه الصحيح وأن مستقبل الشعب التونسي في السنوات القليلة القادمة لا يبشّر بأي خير، حيث لن تتمكّن بلادنا من تحقيق نسب نمو جيدة وتحسين إنتاجيتها وإصلاح اقتصادها والتخلص من أزمة الدين الخارجي، على نحو خاص.

مثل هذه القراءات الاستشرافية ليس ادعاءات أو مغالطات تتحامل على بلادنا، بل هي توقعات موثقة يُفترض أن نتعامل معها بجدية ومسؤولية ومهنية حتى لا تستمر معاناة الشعب التونسي التي طال أمدها.

ومن المؤشرات الاقتصادية الكلية الأساسية التي تبرهن أن تونس لا تسير في الدرب المطلوب يبرز المؤشر الخاص بنسبة النمو السنوي الذي يتوقع أن تحققه بلادنا خلال السنوات القادمة.

فبحسب ما نشره صندوق النقد الدولي في منتصف شهر أفريل 2020، فإن تونس ستحقق نسبة نمو سنوي تقدر بـ3.3% مع نهاية العام 2025. وتبعا لنسب النمو الضعيف هذه، فإن الدخل الفردي السنوي للمواطن التونسي سيصل إلى حوالي 3565 دولار أمريكي مع نهاية العام 2025، وهو دخل قد حققه المواطن التونسي منذ العام 2007 بحسب قاعدة بيانات البنك الدولي، مما يعني عمليا أن المواطن التونسي سيكون قد خسر 18 سنة من جهده التنموي بحلول العام 2025.

بل إن مثل هذه البيانات تؤكد في جوهرها أننا بصدد التراجع والتقهقر على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي.. ففي الوقت الذي ستسوء فيه أحوال المواطن التونسي، ستحقق دول كثيرة، بما في ذلك بعض البلدان المجاورة، قفزات تنموية هامة ستزيد في شعورنا بالإحباط وستعرض قطعا التجربة التونسية إلى مخاطر ضخمة..

وبالإضافة إلى نسبة النمو الضعيفة المتوقع أن تحققها بلادنا في السنوات القادمة وما يترتب عنها من ضعف في الدخل الفردي السنوي للمواطن التونسي، يقدّر صندوق النقد الدولي أن الأداء الاقتصادي لبلادنا، وبخاصة ما يتعلّق بالعمل والإنتاج، سيكون دون المأمول في الأعوام القادمة، حيث سيبلغ عجز الميزان التجاري مع نهاية العام 2025 حوالي 5.92 مليار دولار أمريكي، أي حوالي 17 ألف مليار تونسي من المليمات.

واستمرار عجز الميزان التجاري يعتبر نتاجا مباشرا لارتفاع حجم الواردات التي من المتوقع أن تبلغ أكثر من 24.6 مليار دولار أمريكي وانحسار حجم الصادرات التي من المتوقع ألا تتجاوز 18.7 مليار دولار أمريكي مع نهاية العام 2025، علما بأن الصادرات التونسية قد بلغت حوالي 25 مليار دولار أمريكي في العام 2008. وقطعا، فإن العجز المستدام للميزان التجاري يعكس ما أصاب منظومة الإنتاج والعمل من وهن وضعف وعجز قد رصدته ووثقته تقارير دولية كثيرة في الأعوام الماضية..

وإلى جانب الإخفاقات المتعلقة بضعف نسب النمو وعجز الميزان التجاري وتراجع مستويات الإنتاج في بلادنا، كشفت توقعات صندوق النقد الدولي أن عائدات السياحة التونسية، التي يراهن عليها البعض في تونس، ستبلغ حوالي 2.33 مليار دولار أمريكي لا غير مع نهاية العام 2025، مقابل حوالي 10 مليار دولار أمريكي في المملكة المغربية وأكثر من 12 مليار دولار أمريكي في مصر في العام 2018. ومثل هذه الأرقام تؤكد أن مردودية هذا القطاع ستظل هزيلة مقارنة بدول كثيرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وذلك بسبب غياب أي خطط جادة لتطوير هذا القطاع وتحسين خدماته التي بلغت درجة خطيرة من الرداءة.

في واقع الأمر، لقد وثّقت منظمة السياحة العالمية أن ما ينفقه السائح الأجنبي في بلادنا يعتبر من بين الأدنى في منطقتنا المتوسطية، حيث تستقبل تونس سنويا ملايين من السواح الأجانب الذين لا يتجاوز معدل إنفاقهم الفردي 210 دولار أمريكي، مقابل أكثر من 1000 دولار أمريكي في مصر وأكثر من 4000 دولار أمريكي في لبنان. بل بيّن صندوق النقد الدولي أن حجم التحويلات المالية للتونسيين المقيمين بالخارج، والذين لا يتعدّى تعدادهم المليون مواطن ومواطنة، سيبلغ 2.27 مليار دولار أمريكي، وهو بذلك لا يختلف كثيرا عن حجم عائدات السياحة التونسية التي تستقبل سنويا أكثر من 8 مليون سائح أجنبي.

مثل هذه الأرقام تؤكد أن استمرارنا في الرهان على قطاع السياحة يحتاج إلى مراجعة أكيدة، وبخاصة عندما نقيّم ما تنفقه الدولة على هذا القطاع من مياه وكهرباء وغاز وأمن وبنية تحتية. وبالإضافة إلى ما سبق، فقد وثّق صندوق النقد الدولي ارتفاعا مستمرا في حجم الدين الخارجي لبلادنا، إذ من المتوقع أن يبلغ 42.2 مليار دولار أمريكي مع نهاية العام 2025، مقابل 36.7 مليار دولار أمريكي في العام 2019، وهو ما يعني أن أزمة الدين الخارجي ستستمر حتما في إثقال كاهل الاقتصاد التونسي حتى أفق العام 2025 إذا استمرت الطبقة السياسية الحاكمة في إدارة البلاد وفقا لذات السياسات التنموية التي أثبتت أنها لا تصلح.

إن تونس اليوم وغدا، كما ترصده مؤسسات دولية كبرى، لا تسير في الاتجاه الصحيح. فجميع التقارير الدولية، بما فيها من قراءات استشرافية دقيقة، تؤكد أن المستقبل لن يكن سعيدا بالنسبة لمعظم التونسيين والتونسيات إذا استمرت الطبقة السياسية في تخبطها الشامل وإيذائها غير المسؤول للأجيال الحالية والقادمة.. الحقيقة واضحة وبينة: بؤس وفقر ورداءة وتبعية للخارج. هذا ما ينتظرنا في المستقبل.

ومن أراد أن يغيّره، ويتجنّب مآسيه، عليه أن يستفيق وأن يتذكّر أن المستقبل يتشكّل اليوم وليس غدا..

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP