صُنع في إيطاليا… رغم أنه زيتون تونسي
عماد بن عبدالله السديري
تصدّر تونس حوالي 70% مما تنتجه من زيت الزيتون إلى دول الاتحاد الأوروبي. وبحسب بعض البيانات، فقد استوردت إيطاليا 39% من زيت الزيتون التونسي في العام 2015، في حين استوردت إسبانيا 28% من زيت الزيتون التونسي في ذات العام.
قد تبدو هذه الأرقام والمبادلات التجارية عادية، لكن فهمها بعمق يكشف نهبا ممنهجا للزيتون التونسي تمارسه بعض الدول والشركات الأوروبية، وفشلا وطنيا مؤلما ومحزنا في التصرّف في مواردنا الطبيعية والاستفادة منها اقتصاديا وتنمويا.
وبحسب بعض البيانات الدولية، فإن إسبانيا تعتبر المنتج الأول لزيت الزيتون في العالم. أما إيطاليا، فهي أيضا من أهم منتجي زيت الزيتون على المستوى الأوروبي والدولي، بالإضافة إلى تونس واليونان والمغرب وتركيا. ورغم ضخامة المنتوج في كل من إيطاليا وإسبانيا على نحو خاص، إلا أنهما تحرصان على استيراد كميات كبيرة من زيت الزيتون التونسي كل سنة. فما السرّ في ذلك؟
في الواقع، تسيطر الجارتان إسبانيا وإيطاليا على السوق العالمية الخاصة بالزيتون ومشتقاته، وتوجد شركات إيطالية وإسبانية كثيرة لها علامات تجارية معروفة دوليا ومتواجدة بشكل مستمر وعلى مدار العام في كبرى الأسواق العالمية. وباعتبار أن الطلب على زيت الزيتون في ازدياد مستمر، لما ثبت له من فوائد صحية كثيرة، فقد عمدت بعض الشركات الإيطالية والإسبانية، بدعم من حكوماتها، إلى الاستجابة إلى هذا الطلب العالمي المتزايد من خلال استيراد زيت الزيتون التونسي الذي لم تنجح تونس في ترويجه وتسويقه بالشكل المطلوب.
كما أن هذه الدول قد عانت في السنوات الأخيرة من تراجع حاد في إنتاجها الوطني، فحرصت على حماية تواجدها في الأسواق العالمية من خلال استيراد زيت الزيتون التونسي واستغلال العجز المستدام الذي تعاني منه بلادنا فيما يخصّ ترويج وتسويق منتوجاتنا الوطنية على نطاق دولي موسّع.
وفي هذ الصدد كشفت صحيفة لندن تايمز في شهر فيفري 2019 أن إيطاليا على سبيل المثال لن تجد زيت زيتون في مخازنها بحلول شهر أفريل 2019، حيث ذكر اللوبي الفلاحي الإيطالي كولديراتي أن محصول الزيتون في إيطاليا قد انخفض في خريف العام 2018 بنسبة 57 ٪ ليصل إلى 185000 طن فقط، وهو أدنى مستوى تحققه إيطاليا منذ 25 عام. كما كشفت كولديراتي أن تلك الكمية تغطي أربعة أشهر فقط من حاجات السوق المحلية الإيطالية، وبالتالي تحرم البلاد من توفير حاجياتها الداخلية والاستمرار في تواجدها في الأسواق الأوروبية والعالمية.
بل وبالتعمّق في دراسة هذا الملف ذي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نكتشف أن ما يتعرّض له الزيتون التونسي من سوء تصرف وطني واستغلال دولي يبعث على الألم والحزن لأسباب كثيرة. أولا، تقوم كل من الشركات الإيطالية والإسبانية ببيع زيت الزيتون أو الزيتون التونسي في الأسواق العالمية على أساس أنه منتوج إيطالي أو إسباني، إذ لا تتم الإشارة إلى موطنه الأصلي تونس. ورغم أن هذه الممارسات تعتبر تحيّلا واضحا على المستهلكين ونهبا ممنهجا لثروات دولة أخرى، إلا أنه قد تبيّن أن قوانين الاتحاد الأوروبي تسمح بعدم ذكر اسم المنتِج الأصلي وتعتبر ذلك أمرا قانونيا.
ثانيا، تبيّن كذلك أن هذه الدول تقوم باستيراد زيت الزيتون أو الزيتون التونسي بأسعار زهيدة جدا، ثم تقوم بتعبئته وتعليبه من أجل تسويقه في الأسواق العالمية وبيعه بأسعار مرتفعة جدا باعتباره منتوجا إيطاليا أو إسبانيا. وبالرجوع إلى بعض البيانات التي نشرتها بعض وسائل الإعلام المحليّة والدولية، تبيّن أن سعر الكيلوغرام الواحد من الزيتون التونسي كما يبيعه الفلاحون التونسيون في تونس قد بلغ في العام 2018 ما بين 1.5 إلى 2.5 دينار تونسي، في حين يُباع كيلوغرام الزيتون (المملّح) الإيطالي أو الإسباني (والذي هو في جزء منه تونسي الأصل) في الأسواق الفرنسيّة أو الخليجية ما بين 12 دينار إلى 50 دينار تونسي للكيلوغرام الواحد. أما سعر اللتر الواحد من زيت الزيتون البِكر الإيطالي أو الإسباني، فلا يقلّ عن 20 دينار في الأسواق الفرنسية و25 دينار تونسي في معظم الأسواق الخليجية. بل إن سعر اللتر الواحد من زيت الزيتون البيولوجي كما تبيعه محلات كارفور قد يصل في فرنسا إلى حوالي 70 دينار تونسي. وذات الأمر ينطبق على معظم الأسواق في الدول الغنية والمتقدمة.
الغريب في هذا الموضوع، أنه كان بإمكان المنتجين التونسيين أن يستفيدوا بكل يُسر من تراجع الإنتاج الإسباني والإيطالي لاكتساح الأسواق العالمية وزيادة حجم العوائد المالية التي تجنيها بلادنا من بيع ثرواتها بشكل مباشر. لكن، ذلك لم يحصل، إذ لا تزال بلادنا إلى اليوم تبيع ثرواتها عبر الوسيط الأوروبي. وبحسب تقرير أعدّته الإدارة العامة للفلاحة والتنمية الريفية في الاتحاد الأوروبي، فإن أكبر الأسواق العالمية المستهلكة لزيت الزيتون هي الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل واليابان وأستراليا وروسيا والصين؛ وهي أسواق كبرى يمكن للشركات التونسية أن تتعامل معها بشكل مباشر من أجل مضاعفة أرباحها والمساهمة أكثر فأكثر في دعم الاقتصاد التونسي.
في الحقيقة، بحسب بعض الأرقام الوطنية التونسيّة، فقد بلغت عائدات الصادرات التونسية من الزيتون التونسي ومشتقاته حوالي 2 مليار دينار تونسي في العام 2018، وهي أرقام يُمكن مضاعفتها بكل يُسر لو أحسنت الجهات المختصة في تونس التصرّف في هذا المورد الوطني المهم وعملت على إيجاد قنوات جديدة لترويجه وتسويقه بشكل مباشر في عدد من الأسواق العالمية الكبرى والبديلة، بعيدا عن احتكار الشركات الأوروبية المدعومة من الاتحاد الأوروبي. ولعلّ الحل الأمثل الذي يمكن اتباعه لتحقيق ذلك يتمثّل في التعاقد المباشر مع بعض شركات التجزئة غير الأوروبية في كل من أمريكا الشمالية أو دول الخليج العربي أو اليابان أو الصين من أجل كسر حلقة الاحتكار الأوروبي والنجاح في مضاعفة العوائد المالية لهذا القطاع الحيوي في تونس.
Comments