عالم الاجتماع رضا بوكراع يكتب عن: “اللحظة الشعبويّة واللحظة الديمقراطية في عالمنا اليوم” /2 من3/
رضا بوكراع
إن قيام النظم الشعبوية، يعد بمثابة الزوبعة في سماء الديمقراطية، ولكن لابد أن تكون الزوبعة مكتملة، حتى يولد القائد الشعبوي، المؤسس لنظام سياسي شعبوي. والزوبعة المكتملة تشتمل على عناصر مختلفة ومتنوعة، تختلف وتتنوع حسب السياقات الاجتماعية، التي تعرف الظاهرة الشعبوية.
ولذلك السبب نلاحظ أن الظاهرة الشعبوية، تظهر في أنظمة تكون الزوبعة فيها مكتملة، ولا تظهر في أخرى، حيث لم تتوفر العناصر المولدة للزوبعة. فهي تظهر في البرازيل ولا تظهر ي الأرجنتين، وهي تظهر في بريطانيا والولايات المتحدة والفيليبين وفي إيطاليا، ولا تظهر في فرنسا أو ألمانيا، رغم تواجد أحزاب شعبوية-فاشية، في كل منهما لم تصل بعد إلى الحكم.
ومن أهم العناصر الهيكلية المولّدة للنظم والحركات الشعبوية، وهن أو ضعف الاندماج الاجتماعي، وتآكل الطبقات الاجتماعية وتذرّرها ومنها الطبقة الوسطى والطبقة العمالية وطبقة الفلاحين، لتُكوّن كيانا مذررا غير متجانس، يتحوّل إلى فريسة سهلة للإيديولوجية الشعبويّة، التي تتوجّه إلى هذا الكيان بصفتها حلاّ للنيوليبرالية، وأزمة العولمة وتداعياتها على حياتهم اليوميّة.
ومن خصائص النظم الشعبوية، بروز قيادات كارزماتية متحررة في خطابها، من كل القيود وتختص بشخصية استثنائية، وتكاد تكون غريبة وعنيفة في تعاملها مع المحيط القومي والدولي، ويتميز القائد باستعماله لشبكات التواصل الاجتماعي للوصول إلى الحكم والبقاء فيه.
ففي البرازيل تظافرت العناصر التالية المؤدية لميلاد Bolsonaro :
- ارتفاع نسبة الإجرام
- ارتفاع منسوب الفساد
- تضامن الطبقة الشغلية مع القوى اليمينية
- هيمنة إيديولوجية دينية محافظة معادية للعلم والنخبة.
وفي الولايات المتحدة، التي تعرف انتصار Trump اعتمادا على الشرائح الاجتماعية الخاسرة في مسار العولمة، تلك العولمة التي تتسبب في انهيار الصّنَاغَة القومية لصالح بلدان آسيا، واعتمد Trump أيضا على الأصوات المتأتية من الولايات المتحدة الأمريكية المنتجة للفحمَ، وسّوقَ النظرية الحمائية وشكّك في النظرية العلمية للتّغير المناخي، واعتمد Trump على أصوات ذوي التوجه الديني الإنجيلي، المناهضين للعلم والعقلانية واللائكية، والمعادين لنخبة المدن الكبرى في الولايات المتحدة، وTrump يتوجّه مباشرة للشعب مستعملا شبكات التواصل الاجتماعي، ومُجمّدا لكل الوسائط المؤسساتية من أحزاب ومؤسسات حكومية واعلام تقليدي.
يعتمد Trump على التغريدات في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” ، التي تكون بالضرورة قصيرة، قصد المغالطة وفرض الأحكام المسبقة، التي ترضي الطبقات المحافظة، والتي تكن العداء للنخبة الثقافية والنخبة السياسية.
أما في بريطانيا فيعتبر البريكسيت، أي الخروج من الاتحاد الأوروبي، انتصارا للشعبوية، في أقدم ديمقراطية في العالم، والبروكسيت جاء نتيجة لتأزم العلاقة بين حزب العمال وحزب المحافظين، وظهور حزب شعبوي قوي يستعلم المغالطة ويغتنم أزمة الطبقات الاجتماعية، التي تردّي وضْعها نتيجة الانخراط في العولمة، وقد نجح الاتّجاه الشّعبوي، في إقناعها أن ذاك التردي من بطالة وعدم استقرار في الشغل وضعف الحماية الاجتماعية والصحية، راجعٌ إلى الخضوع إلى بيروقراطية Bruxellesبروكسال (عاصمة الاتحاد الأوروبي)، وإلى توافد الهجرة المتأتية من بلدان الاتحاد الأوروبي المتخلفة، كبولونيا مثلا.
قسم البروكسيت البريطانيين إلى قسمين متعادين، وشلّ البرلمان مده ثلاثة سنوات، وتسبب في تنظيم انتخابات تشريعيّة مرتين، انتصر في آخرها Boris Johson وهو قائد شعبوي، استعمل المغالطة والطرق الملتوية، وانتهى إلى التحصل على أصوات الطبقة الشعبية في الشمال، التي كانت تاريخيا تُعطي أصواتها إلى حزب العمال.
ولا شك أن ظهور الشعبوية في الولايات المتحدة، يرجع إلى السياسة المالية التي انتهجها Clinton ، والتي أدت إلى الأزمة الاقتصادية لسنة 2008. ولا شك أن ظهور الشعبوية في بريطانيا يرجع إلى سياسة Tatcher النيوليرالية في ثمانينيات القرن الماضي.
في فرنسا، نشير الى أن ظهور أحزاب شعبوية يسارية Melanchon وأحزاب يمينية Marie Lepen لا يمكن فصله عن التوجه الليبرالي المالي للسياسة الاقتصادية، التي انتهجها Mitterand ، واُنهيار اليسار الذي فقد توجهه الاشتراكي، وانخرط في المنظومة الليبرالية، وبذلك فقد قاعدته الانتخابية التي توجهت إلى الأحزاب الشعبوية.
كما لّدت في أوروبا الشرقية ونذكر منها المجر وبولونيا، نظما شعبوية تتعارض مع القيم الديمقراطية، التي انبنى عليها الاتحاد الأوروبي، والمتمثلة في الحرية الفردية والجماعية وحرية الصحافة واستقلالية الفضاء وإقامة القضاء الدستوري. وظهر في أوكرانيا قائدا شعبويّا Zelensby كان منتجًا لمسلسل تلفزي يلعب فيه دور الأستاذ الأمين والمتخلّق والمقاوم للفساد.
نعلم أن بلدان أوروبا الشرقية خرجت من نظم تسلطية شيوعية وانخرطت في منظومة سياسية غربية لم تتبناها كليا ولم تستوعب آليتها.
فالثقافة الديمقراطية بقيت غريبة عنها بل أنتجت ديمقراطية خاصة بها أطلقت عليها الديمقراطية اللاليبرالية التي أبقت على القيم التقليدية المحافظة المبينة على السلطة وخاصة سلطة الدولة وسلطة الكنيسة وسلطة الوطن والهوية القومية ولا شك أن ذلك يرجع إلى هيمنة الطبقات الريفية في البنية الاجتماعية والتي تعطي أصواتها للقائد الذي يمثل السلطة والقيم التقليدية Orban.
تعرف تونس شكلا من أشكال الشعبوية، تمثل في انتخاب رئيس للجمهورية، غير متحزب ورافض للأحزاب وللديمقراطية التمثيلية ومناديا بديمقراطية مباشرة تنطلق من القاعدة المحلية لتصل إلى قمة الدولة ومرجعها يبقى الشعب.
نشأت بعد ثورة 14 جانفي 2011 في تونس ديمقراطية تمثيلية مريضة ومشلولة عاجزة على إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها والتي تفاقمت بعد الثورة، فالديمقراطية لا تقتصر وتختزل في الانتخابات وحرية الصحافة، فإذا لم تتوفر في الديمقراطية قدرة الإنجاز فإنها تولد بالضرورة القائد الشعبوي، الذي ينتخب لا لأدائه بل عقابا للطبقة الحاكمة العاجزة والمشبوه في نظافتها وصدقها.
وكان الاقتراع العام suffrage universel بمثابة المنفذ وحصان طروادة الذي تسربت منه إمكانية قيام نظام شعبوي.
وهنا نشير الى أن انتخاب رئيسا شعبويا، هو مؤشر ينبِّئ بإمكانية “الزوبعة الشعبوية”، التي تهدد سماء الديمقراطية التونسية، نتيجة لازمة الديمقراطية الحادة .
ولكن ليست بالزوبعة المكتملة لأن النظام السياسي ليس نظاماً رئاسياً ولا يوجد فيه حزب مهيمن ولأن مصدر السلطة يبقى البرلمان ولأن الرئيس المنتخب متشبث بالقانون. وما دام القانون سيد الموقف وما دامت جميع الأحزاب ضعيفة ومتشتّتة فإن تونس محمية من “الزوبعة الشعبوية”. ولكن تونس غير محمية من اللحظة الديمقراطية مستقبلا، وأزمة الديمقراطية التمثيلية المزيفة، تولد أيضا إمكانية الحراك المطالبة بالديمقراطية الحق.
أما في القارة الآسيوية، فلا يمكن أن ننسى الهند، الذي انتخب مودي نَارِنْدَرَا من خارج حزب المؤتمر، الذي كان ينتج رؤساء الحكومات، وهو يأتي من حزب عسكري موازي في نظام برلماني، وهو يعتمد على الهوية القومية الهندوسية ويقصي المسلمين ويعاديهم ، وخاصة منهم المهاجرين، ومودي قائد شعبوي محاط بأثرياء الهند، ويمارس خطابا شعبويا يعتمد على العداء للآخر وعلى الهوية القومية المنغلقة.
وقد أنتخب مودي للمرة الثانية ، من دون أن يكون أداؤه الاقتصادي والاجتماعي خادما لمن انتخبوه، وهو ينتعش من التقاليد التي تكرس هيمنة العنصر الهندوسي على حساب الفئات الأخرى من المجتمع الهندي.
ولابد من ذكر Rodrigo Duterte رئيس جمهورية الفيليبين الذي تَميَّزَ بخطاب عنيف ومتحرر من كل القواعد القانونية وخاصة منها حقوق الإنسان وخطابه يعكس الحالة الأمنية المتردّية وهشاشة الاقتصاد القومي وانعدام بديل ذي مصداقية في نظام رئاسي يعتمد على الاقتراع العام.
كل هذه النماذج من النظم الشعبوية ، تدخل نشازا في اشتغال الديمقراطية، وتعرضها إلى التشويه والمسخ في قيمها الكونية.
ولا يمكن أن ننسى ثلاثة نماذج لما يسمى بالديمقراطية السيادية التسلطية، والتي تعتمد على قيادات شعبوية، لأنها تخاطب مباشرة الشعب وتتناغم مع وجدانه ونزعاته التقليدية وتوجهاته الدينية.
وهي الديمقراطية السيادية الروسية التي تعتمد على شخصية Poutine ذات اتجاه يطمح إلى إحياء الإمبراطورية الروسية وهيمنة سيطرتها داخليا وخارجياً.
المثال الثاني للديمقراطية السيادية هو المعمول به في تركيا التي تعتمد وتتمحور حول شخصية أردوغان ذي الاتجاه السلطاني، الذي يطمح إلى إحياء الامبراطورية العثمانية، بناء على الهوية الإسلامية التقليدية، مناقضا بذلك الصبغة العلمانية للدستور التركي.
المثال الثالث ل ” الديمقراطية السيادية”، قطعا هو المثال الإيراني الذي يعتمد على رجال الدين، كسلطة عليا غير منتخبة، ومرجعيتها ولاية فقيه. وتستعمل الآليات الديمقراطية من انتخابات تشريعية ورئاسية، تأتي بقيادات شعبوية محافظة، يشتد اتجاهها المحافظ بقدر ما تتوتر علاقتها مع الولايات المتحدة، تلك القيادات التي تجسمت مثلا في أحمد نجاد ويمكن أن تتجدد في شخصية مماثلة إثر الانتخابات المقبلة.
Comments