عدنان منصر: العولمة مستمرة و ستكون لأزمة الكورونا نتائج هامة في مستوى الانتاج الثقافي والأكاديمي
*** لا أعتقد أن الأمور ستعود للوراء في موضوع العولمة و سيكون لهذه الأزمة نتائج هامة في مستوى الانتاج الثقافي والأكاديمي
*** اجراءات الحكومة في التعاطي مع ازمة الكورونا تكشف عن أن هناك رؤية متكاملة لمواجهة هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة
*** الأزمة لم تخترقنا مثلما اخترقت اقتصادات أقوى من اقتصادنا بكثير وانهارت بسببها منظومات صحية أقوى من منظومتنا الصحية بكثير أيضا
*** أعتقد أننا في مرحلة سبات سياسي وحزبي كواحد من استتباعات أزمة الكورونا، لكن ليس معنى ذلك أن الصراعات السياسية توقفت، وأن أسبابها زالت
*** متوقع أن تشهد العودة السياسية في الخريف القادم انفجار بعض التوترات، إذا لم يقع الاحتياط لذلك منذ الآن بتهدئة الحرب الباردة بين مكونات الائتلاف الحاكم
*** انتقاد رئيس الجمهورية للمنظومة يأتي هنا كسياسة واضحة للحد من تأثير أخطاء الحكومة على شرعيته وعلى شعبيته، من هذا المنطلق هي إذا سياسة واعية
*** الصراع الأمريكي الصيني، والتقهقر الأوروبي، هي عناصر بدأت تتضح سنوات قبل أزمة الكورونا
*** الحرب الديبلوماسية الانسانية التي انطلقت أسابيع قليلة بعد انتشار الكورونا على المستوى العالمي هي مظهر آخر من مظاهر الصراع بين القطب الأمريكي المهيمن والقطب الصيني الصاعد
*** لا أعتقد أن الأمور ستعود للوراء في موضوع العولمة، بل ما أعتقده هو أن تركيبة هذه العولمة وترتيب الدول المستفيدة منها هو الذي سيشهد تحويرا
*** أمام انتشار المعرفة السطحية، ومحدودية حضور المثقف في وسائل الاعلام التقليدية، فإنه لا خيار للمثقف إلا التلاؤم مع العصر، ودخول معترك وسائل التواصل الاجتماعي
*** دور المثقف هو المساعدة بالأفكار، تنضيج النقاش داخل المجتمع، وإضاءة الطريق أمام أصحاب القرار السياسي
*** سيكون لهذه الأزمة نتائج على مستوى الانتاج الثقافي والأكاديمي، فقط يجب الانتظار قليلا، لاعتبارات موضوعية لا غير، لست متشائما بتاتا في هذا الخصوص.
حوار: علاء حافظي
متابعة للوضع المستجد الذي فرضه انتشار وباء الكورونا (الكوغيد- 19)، ومن أجل رصد التفاعلات، سواء المتعلقة بالظرف السياسي الاني، المتصل بطريقة معالجة الأزمة من قبل الحكومة، أو في علاقة بالنقاش الكوني الذي فرضه الوباء، من خلال بداية الحديث عن توقع حصول تحولات جيو سياسية وفكرية هامة ما بعد الكورونا، نحاول في هذا الحوار مع السياسي المستقل والأكاديمي المختص في التاريخ، عدنان منصر الاجابة عن الأسئلة التالية:
كيف تقيمون اداء الحكومة مع أزمة كورونا في مستوى التعاطي مع أزمة مستجدة وغير مسبوقة أحدثت حالة من الارتباك الكوني؟ لا حضنا مجرد اجراءات بلا رؤية وبلا فلسفة عام سواء للحكم أو لإدارة الشأن العام عموما؟ أداء المنظومة الحزبية كان تقريبا غائبة سواء التي في الحكم أو المعارضة. وربما أيضا المجتمع المدني كان هو أيضا أداؤه محتشما بالمقارنة مع الانتضارات التي تعلق عليه؟ كيف ترون تأثير الأزمة على المشهد السياسي المستقبلي /على الفاعلين السياسيين والأحزاب/ وخصوصا على “ظاهرة قيس سعيد” الذي استمر في نقد السيستام من داخله؟ برأيكم ماهي التحولات الفكرية والجيو- ستراتيجية المقبلة وهل يمكن مجاراة التسرع الذي يقول بنهاية زعامة امريكا للعالم ونهاية العولمة؟ استمر أيضا غياب نقاش وطني حول الأزمة تشارك فيه النخب والمثقفين فهل ازدادت عزلة المثقف التونسي أم أن هناك ارادة لإقصائه من المساهمة في المشاركة في الشأن العام وفي صنع القرار؟
كيف تقيمون أداء الحكومة مع أزمة كورونا في مستوى التعاطي مع أزمة مستجدة وغير مسبوقة أحدثت حالة من الارتباك الكوني؟ لاحظنا مجرد اجراءات بلا رؤية وبلا فلسفة عامة سواء للحكم أو لإدارة الشأن العام عموما؟
أعتقد أنه من غير العدل القول بأننا لاحظنا إجراءات بلا رؤية وبلا فلسفة سواء للحكم أو لإدارة الشأن العام عموما. ذلك أنه من غير العادل أولا بالنسبة للسياق: لم يمض على تكليف الحكومة سوى بضع أيام حتى توجب عليها مواجهة أزمة صحية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، وهو في حد ذاته أمرا لم يحصل لأي حكومة قبل الحكومة الحالية. هذا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار بغض النظر عن موقفنا السياسي من هذه الحكومة.
أعتقد أن أي حكومة تكون ملزمة في هذا السياق بأن تحسن التصرف في إمكانياتها الصحية في مواجهة انعكاسات الوباء، أن تزيد في هذه الإمكانيات، ثم أن تخفف من العدد المحتمل للمصابين أو للضحايا، و هذه الآن مهمة منجزة.
يكفي أن نقارن بغيرنا من البلدان القريبة والبعيدة لنفهم أننا في حال أفضل بكثير، بفضل احتياطات السلطات الصحية وقرارات الحكومة. على الأقل، الأسرة الطبية لم تشغل كلها بالمرضى، وعدد الوفيات لم يتجاوز الأربعين، وهو في حد ذاته نتيجة تشبه المعجزة.
أما بالنسبة للرؤية التي قلتم أن الحكومة تفتقد إليها، فلست موافقا أيضا. عندما تنظر في الاجراءات المتخذة، سواء على مستوى فرض الحجر الصحي العام، مع صعوبة ذلك بالنظر للوضع الاقتصادي المتأزم أصلا، وعندما تنظر للإجراءات المصاحبة التي اتخذتها الحكومة سواء على مستوى اسناد المؤسسات الاقتصادية أو على مستوى مساعدة العائلات المعوزة ومساعدة أولئك الذين توقفوا عن الشغل بسبب الحجر الصحي العام، على مستوى إجلاء التونسيين العالقين بالخارج، على مستوى فضاءات الحجر الصحي، وعلى مستوى الاحتياط باستيراد الأدوية والتجهيزات الصحية، تفهم ببساطة أن هناك رؤية متكاملة لمواجهة هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة.
لم يحدث أبدا حتى في دول أفضل منا اقتصاديا أن قامت الدولة بصرف مساعدات مالية لخمس السكان. هذا لم يحصل أبدا. لذلك أعتقد أنه من العادل على الأقل أن نعترف بذلك، وأن الأزمة لم تخترقنا مثلما اخترقت اقتصادات أقوى من اقتصادنا بكثير وانهارت بسببها منظومات صحية أقوى من منظومتنا الصحية بكثير أيضا.
أداء المنظومة الحزبية كان تقريبا غائبة سواء التي في الحكم أو المعارضة. وربما أيضا المجتمع المدني كان هو أيضا أداؤه محتشما بالمقارنة مع الانتضارات التي تعلق عليه؟
هذا أيضا ليس رأيي. دعنا نتفق أيضا على مبدأ: ليس دور المنظومات الحزبية أن تتصدى للأزمات الصحية. في أزمة مثل التي نعيشها يجب أن يكون هناك خطة مركزية تتبناها الدولة، وتعدد المبادرات ربما لا يكون نتيجته إلا تشويش عمل هذه الخطة والأجهزة القائمة عليها.
الأحزاب تشتغل في السياسة وليس في التصدي للأوبئة، وحسن السياسة يقتضي الالتزام بالخطة المركزية التي تضعها الدولة بأجهزتها المختلفة.
بالنسبة للمجتمع المدني دعنا نتفق أيضا أن هذه الأزمة كانت مفاجئة، وبالرغم مما يتطلبه تحرك المجتمع المدني من وضع خطط، ومن تعبئة الطاقات والموارد لتنفيذها، فقد رأينا نشاطا كبيرا لمنظمات مثل الهلال الأحمر، والكشافة التونسية، والاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي، كما رأينا تعدد المبادرات الشبابية على مستوى توزيع المساعدات على العائلات الضعيفة، ورأينا أيضا مخابر وكليات وطلبة وتقنيين ومهندسين يشتغلون بكثير من الجرأة والجدية على توفير التجهيزات الطبية والصحية للتخفيف من حاجتنا للتوريد في هذه المواد، وللمساعدة على حسن أداء المنظومة الصحية الوطنية.
هذا في حد ذاته أمر ممتاز، ولا أعتقد أننا كنا نحتاج لأكثر من ذلك، فهذا في حد ذاته كثير بالنظر لطبيعة السياق، ولمحدودية الامكانيات، وهو أيضا قابل للتحسن.
كيف ترون تأثير الأزمة على المشهد السياسي المستقبلي وعلى الفاعلين السياسيين والأحزاب وخصوصا على ظاهرة قيس سعيد الذي استمر في نقد السيستام من داخله؟
أعتقد أننا في مرحلة سبات سياسي وحزبي كواحد من استتباعات أزمة الكورونا. لكن ليس معنى ذلك أن الصراعات السياسية توقفت، وأن أسبابها زالت. بالعكس، هي فترة استراحة من الصراعات السياسية الظاهرة، لأن أي صراعات علنية سينظر إليها على أساس أنها قلة ذوق في هذا السياق.
لا يخفى على أحد أن الظروف التي نشأت في خضمها الحكومة، والتجاذبات التي ميزتها بين الأحزاب المكونة لها بصفة خاصة، تركت جروحا نرى من حين لآخر كيف تعبر عن نفسها. ستعود هذه التجاذبات داخل الائتلاف الحاكم للظهور بطريقة عكسية مع تراجع الاهتمام العام بالكورونا وعودة الحياة لطبيعتها. هذا أمر متوقع، حيث سيكون فصل الصيف فصل تسخين لهذه التناقضات لنشهد مع العودة السياسية في الخريف القادم انفجار بعض التوترات، إذا لم يقع الاحتياط لذلك منذ الآن بتهدئة الحرب الباردة بين مكونات الائئتلاف الحاكم.
أصلا، يصبح من الصعب أكثر فأكثر الحديث عن ائتلاف حاكم بالمعنى المتعارف عليه، بوصفه تضامنا بين أحزاب مختلفة من أجل تنفيذ برنامج حكم. نحن بوجه من الوجوه إزاء ائتلاف حاكم بحكم الضرورة، وهو أمر يشبه كثيرا الصورة العامة التي كان عليها الائتلاف الداعم لحكومة الشاهد.
بطبيعة الحال ستسعى المعارضة، أو جزء منها على الأقل، لاستغلال الاستتباعات الاجتماعية للأزمة للانقضاض على الحكومة ومحاولة قلب التوازنات الحالية، ولكن لا أعتقد أنه بالامكان القول أن ضمانات نجاح ذلك متوفرة.
في كل الحالات، هناك عنصر قوي داعم للحكومة في هذه المعادلة الطريفة، وهو رئيس الجمهورية. لا يجب أن نقلل من اعتبار الشعبية الساحقة التي يمتاز بها، بغض النظر عن الوسائل التي تستعمل للحفاظ على هذه الشعبية.
انتقاد رئيس الجمهورية للمنظومة يأتي هنا كسياسة واضحة للحد من تأثير أخطاء الحكومة على شرعيته وعلى شعبيته. من هذا المنطلق هي إذا سياسة واعية. هناك عنصر آخر لا يجب أن نهمله، وهو بالغ التأثير في الرأي العام: وهو أن رئيس الجمهورية الآن فوق المنظومة الحزبية، وعلاقاته بجميع الأحزاب هي نظريا علاقة حياد. هذا يجعله أقل تأثرا بالإخفاقات التي تمنى بها المنظومة الحزبية في نظر الرأي العام.
برأيكم ماهي التحولات الفكرية والجيو ستراتيجية المقبلة ما بعد الكورونا ؟ وهل يمكن مجاراة التسرع الذي يقول بنهاية زعامة أمريكا للعالم ونهاية العولمة؟
أعتقد أنه من المتسرع جدا الحديث في هذا الشأن لجملة من الأسباب المنهجية والموضوعية. أول هذه الأسباب هو أننا لم نخرج بعد من أزمة الكورونا، فليست بعد وراءنا بالطريقة التي تسمح لنا بالحديث عنها كأنها ظاهرة انتهت وأننا نقوم الآن بتحليل نتائجها. ثم إنه لا أحد يدري أي تحولات قد تأخذها الكورونا في الفترة المقبلة، ذلك أنه حتى على المستوى الطبي، ليس هناك أجوبة نهائية على الكثير من الأسئلة الهامة.
مع ذلك، فإن الصراع الأمريكي الصيني، والتقهقر الأوروبي، هي عناصر بدأت تتضح سنوات قبل أزمة الكورونا، ولعل التنافس على شبكة الاتصالات من الجيل الخامس هو أحد تمظهرات هذا الصراع، وما أدى إليه من حرب تجارية طاحنة لم تنتصر فيها الولايات المتحدة.
من الأكيد أيضا أن سهولة الاتصال بين مختلف أنحاء العالم، والحرية الكبيرة في تنقل السلع والأشخاص في إطار ما سمي بالعولمة كان سببا أساسيا في الانتشار السريع والمخيف للكورونا، يبدو هذا اليوم قناعة راسخة، مما جعل انغلاق الدول على نفسها وإيقاف الرحلات والمبادلات عنصرا أساسيا في مكافحة الوباء، صحيا على الأقل.
الحرب الديبلوماسية الانسانية التي انطلقت أسابيع قليلة بعد انتشار الكورونا على المستوى العالمي هو مظهر آخر من مظاهر الصراع بين القطب الأمريكي المهيمن والقطب الصيني الصاعد.
العولمة تعطي للقطب الصيني آفاقا واسعة للانتشار الاقتصادي، رغم أنها صيغت أساسا من أجل بسط السيطرة الأمريكية على العالم. من هذا المنطلق، لا أعتقد أن الأمور ستعود للوراء في موضوع العولمة، بل ما أعتقده هو أن تركيبة هذه العولمة وترتيب الدول المستفيدة منها هو الذي سيشهد تحويرا.
أعود وأؤكد على أنه مازال مبكرا جدا الجزم بالتطورات الكبرى، ما نقوم به هنا هو مجرد وضع توقعات للتوجهات الكبرى.
نلاحظ غياب لنقاش وطني حول الأزمة تشارك فيه النخب والمثقفين فهل ازدادت عزلة المثقف التونسي أم أن هناك إرادة لاقصائه من المساهمة ومن المشاركة في الشأن العام وفي صنع القرار؟
أنا من الذين يعتقدون أنه لا يمكن بتاتا إقصاء المثقف، إذا كان الأمر يتعلق فقط بالممارسة الثقافية الحرة. هذه مضمونة بكل المقاييس ولا أعتقد أن هناك إمكانية لمنع المثقف من التفكير والمساهمة بالاقتراح. قد يكون هناك تقصير من بعض المثقفين، نوع من الكسل، ونوع من الاستنكاف عن التواصل، نعم هذا موجود، لكن لا أحد يمكن أن يلغي المثقف ودوره.
يبقى أن على المثقف اختيار الفضاءات التي تسمح بتبليغ رؤيته، والتي تجعله قادرا على التواصل مع الناس، وهذا يتطلب تحيينا لفهم المثقف لما معنى التواصل في هذا العصر. من سوء الحظ، مع تراجع الكتاب، ومع انتشار المعرفة السطحية، ومحدودية حضور المثقف في وسائل الاعلام التقليدية، فإنه لا خيار للمثقف إلا التلاؤم مع العصر، ودخول معترك وسائل التواصل الاجتماعي.
دور المثقف هو المساعدة بالأفكار، تنضيج النقاش داخل المجتمع، وإضاءة الطريق أمام أصحاب القرار السياسي. أعتقد أن هناك أحيانا صعوبة في التلاؤم مع الضرورات الواقعية الجديدة.
أما بالنسبة لموضوع غياب النقاش الوطني، فأعتقد أنه ينبع من نظرة معينة، كلاسيكية ومتحجرة، لفكرة النقاش الوطني. الناس، وبخاصة أثناء الحجر الصحي، ليسوا في حاجة للاجتماع في قاعة مكيفة من أجل التفكير. التفكير الجماعي، تبادل الأفكار، تقديم الرؤى، لم يعد متوقفا على الالتقاء المادي بين المشاركين، فالتكنولوجيا تقدم حلولا سهلة وكثيرة من أجل تجاوز هذا الشكل الكلاسيكي.
هناك عمل تلقائي يقوم به كثير من المثقفين، حلقات نقاش ومحاضرات وكتابات تحاول التفكير في الأزمة. ربما ما ينقص هو الجهد التأليفي لهذه الأفكار، ولكن لا يجب أن ننسى أننا نتحدث بعد أقل من شهرين من اندلاع أزمة الكورونا. سيكون لهذه الأزمة نتائج على مستوى الانتاج الثقافي والأكاديمي، فقط يجب الانتظار قليلا، لاعتبارات موضوعية لا غير. لست متشائما بتاتا في هذا الخصوص.
Comments