في المراجعة المستوجبة على الإسلاميين..وماذا عن الآخرين؟
د.خالد شوكات*
أتذكر جيّدًا البرنامج الحواري الذي بثّته قناة العربية سنة 2007، عقب بثها سلسلة وثائقية بعنوان “زمن بورقيبة”، وكان برنامجا من انتاج الصديق العزيز الصحفي اللبناني الكبير غسَّان مكحل، استضاف خلاله ثلاثة متحدّثين رئيسيين، الاستاذ محمد مزالي رحمه الله عبر الاقمار الصناعية من باريس، والدكتور عبد الجليل التميمي المؤرخ الكبير المتخصص في الدراسات العثمانية والموريسكية، وكاتب هذه الأسطر في استديوهات القناة في دبي، وكان موضوع البرنامج التعليق على ما ورد في الوثائقيات عن الزعيم الخالد أب الاستقلال وقائد مسيرة بناء الدولة الوطنية المستقلة. كانت منطلقات ضيوف البرنامج في الحوار متباينة.
سي محمد رحمه الله جاء الى النقاش من خلفيته كمظلوم يتطلع الى رفع الظلم الذي سلَّط عليه اخر سنتين من حكم الزعيم الراحل، والدكتور عبد الجليل الذي كان صاحب مؤسسة بحثية تكاد تكون رائدة في مجالها زمن الرئيس بن علي وكان هدفه اثارة قضايا حقوق الانسان، بينما كنت راغبا شخصيا في الانتصار لشخصية زعيم البلاد الذي وضع في عزلة وإقامة جبرية ما يقارب اثنتي عشرة عاما قبل أن توافيه المنيّة ولم يتم انصافه منذ غادر السلطة في نوفمبر 1987.
وقد استحضرت قصة هذا البرنامج، من باب الرغبة في اثارة قضية اساسية هي موضوع المقال، ألا وهي مسألة المراجعات الفكرية والسياسية المستوجبة على العائلات السياسية والأيديولوجية الكبرى، فقد احتج الدكتور التميمي حينها على الزعيم بورقيبة بانه كان حاكما فرديا تسلطيا ألغى التعددية السياسية وأقام نظام حزب واحد وعطّل الديمقراطية عقودا.
كان تفاعلي معه حينها نقديا، اذ قلت غير نادم “لم تكن جميع المشاريع السياسية المعارضة للزعيم بورقيبة حينها ديمقراطية..جميع تيارات المعارضة، اليسارية والقومية العربية والإسلامية، كانت تحمل بدائل اكثر استبدادا وطغيانا وديكتاتورية من نظام الزعيم بورقيبة، وختمت قولي بان الديمقراطية هي اكتشاف جماعي يكاد يكون حدثَ لدى العائلات السياسية الكبرى في ازمنة متقاربة، وان الجميع مطالب باستكمال مراجعاته الديمقراطية..”.
والحقيقة ان مسار المراجعة هذا سواء في هذه النقطة تحديدا، أي الديمقراطية، أو في نقاط اخرى لا تقل أهمية، ما يزال مسارا متعطّلا لدى الجميع، مترددا ومفتقداً للمصداقية، بل لعلَّ تعثر هذا المسار في المراجعة والإصلاح الفكري والسياسي، احد الاسباب الرئيسية، لتعثر مسار الانتقال الديمقراطي الراهن، فالديمقراطية لا تتحقق بأنصاف الديمقراطيين وأرباعهم، كما لا يمكن إقامة الديمقراطية دون ديمقراطيين حقيقيين استكملوا مراجعاتهم وعملهم النقدي وتحوّلهم من الإطلاقية الى النسبية ومن نفي الاخر الى القبول به حقّاً.
أذكر إنني كنت في برنامج حواري على قناة الميادين سنة 2017، حين أعلن الرئيس الباجي عن عسكرة مواقع الثروات الطبيعية حماية للإنتاج وضمانا لتدفقه، وكان معي في ذات البرنامج صديق عزيز من التيار القومي العربي لا داعي لذكر اسمه، تحدث حينها عبر الاقمار الصناعية من دمشق ، وكان يهاجم الرئيس الباجي بشراسة لتجاوزه حسب زعمه الاعراف الديمقراطية وعسكرته البلاد.
كنت مستغربا من درجة الانفصام التي كان عليها الصديق، واستحضرت عددا كبيرا من أصدقائي القوميين العرب من الذين لا يتذكرون الاحتجاج بالديمقراطية الا في بلادهم تونس، اما في بلدان عربية شقيقة فلا بأس من أن تحكم بأنظمة عسكرية وديكتاتورية تسوس شعبوبها بالحديد والنار، وتساءلت ان كان القوميون العرب في تونس او غيرها قد استكملوا فعلا مراجعاتهم سواء تجاه موقفهم من الديمقراطية او موقفهم من الدولة القطرية، وهل فعلوا مثلا ما طالبوا الإسلاميين بفعله أم أن العلة في الاخوان المسلمين فحسب.
ومن المفاجآت المتعلقة بالمراجعات ما توقفت عنده في سلوك كثير من اليساريين أيضاً، ممن أسميتهم مرة في سياق احدى المناكفات الفكرية ب”يسار الكافيار وبقايا الاستعمار”، فهذا اليسار الذي عندنا بدا لي ان المراجعة الوحيدة التي استكملها هي تخليه عن “الصراع الطبقي”، اي دفاعه عن الطبقات الفقيرة والمسحوقة، فيما نرى جماعات منه لم يبق لديها من “المادية العلمية” سوى كراهية الدين والنقمة على مظاهر هوية بلادنا العربية الاسلامية والدفاع عن قضايا هامشية مستفزة لذات شعبنا، وأتساءل من باب الاحترام والتقدير الى اي مدى يبدو اليسار التونسي قد استكمل مراجعاته النقدية ليس فقط في موضوع الهوية الدينية والثقافية، بل حتى في موضوع الديمقراطية والقبول بالتعددية واحترام الاخر.
يبقى بيت القصيد عندي متصلا بالعائلة السياسية التي انتمي اليها فكريا منذ بداية التسعينيات بكل صدق واخلاص، وتتلمذت فيها على ايدي شخصيات من طراز رفيع وعطاء للوطن غير محدود وكبير، من قبيل الاستاذ محمد مزالي والأستاذ الباجي قائد السبسي، واللذين لا أشك ابدا في طينتها الديمقراطية وقناعتهما الراسخة بالتعددية.
ان ما أظهرته الوقائع والاحداث خلال السنوات القليلة الماضية، اثبت ان المراجعات التي ظهرت بعض مؤشراتها بعد الثورة، لم تكن استراتيجية وعميقة لدى عدد كبير ممن يَرَوْن انفسهم “دساترة” بل من الضرورات التكتيكية التي أملتها الأحداث القاهرة، وانه لا مانع لدى هؤلاء ان توفرت الفرصة في المساعدة على عودة التسلط والديكتاتورية، بل لا مانع في تطوير نسخة فاشية إقصائية للحزب الدستوري، لم تحصل حتى في أوج قوة النظام البورقيبي او نظام بن علي، وهذا مؤشر خطير على انحراف فكري وسلوكي يلام الآخرون على إتيانه، وكبر مقتا عند الله ان يقول الانسان ما لا يفعل وان يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
المراجعة والنقد والتغيير حاجة تونسية جماعية في رأيي ولا تخص تيارا دون سواه، لكن الانسان بطبعه لا يرى عيوبه بل يروقه الاهتمام بعيوب الاخرين والاجتهاد في بيانها.. غير ان سؤلا بقي عالقا في نفسي قبل الختام: هل لدينا فعلا رغبة في ان يتغيّر الآخرون..
ولماذا عندما يتغيّرون نشكك في انهم تغيّروا مهما فعلوا.. ولماذا نجعل من انفسنا “موديلا” (مثالا نموذجيا) لا يقبل النقد او التشكيك وما على الاخرين الا النسج على منواله حتى يكونوا وطنيين او حداثيين او تقدميين ونمنحهم شهادة غفران..
أليس هذا منطقاً سلفيا لا يمت للديمقراطية بصلة، ثم هل تستقيم المراجعات في ظل سيادة الهواجس الأمنية والأيديولوجية الموروثة من عهود الاستبداد، الذي يزرع كل الرذائل كما يقول الكواكبي رحمه الله!؟ *رئيس المعهد العربي للديمقراطية
Comments