في بلاد الأشياء الأخيرة أو “ديستوبيا العدم”
شعبان العبيدي
من فرط ثقل الأحداث المؤلمة الّتي تعيشها بلادنا، وما يفاجئنا كلّ يوم وكلّ لحظة من فواجع وغرائب وأحداث، وما ينتشر على صفحات التواصل ومنابر إعلام البوز والشحن المدفوع الأجر من هذيان وحروب ومناورات ومخطّطات تعجز معها عن توصيف ما يجري، وأنت تتابع التحاليل والقراءات التي صنع لها بارونات المال والفساد وأعداء الديمقراطية وجوها وسمتها بألقاب الخبراء والنقاد والمفكرين لم أجد إلاّ أن أدق عليه وغوص في رواية ” بول أوستر” التي أخذت من عنوانها عنوانا لهذا الخطاب.
نحن في بلد الموت الجديد المفاجئ، فبعد أن تحوّل موت الوباء إلى حقيقة نتعايش معها، حملنا طوفان الموت الغادر من موت الإهمال إلى موت الاحتراق إلى موت البالوعات فموت المصاعد الألكترونية أخيرا، هذا البلد وعذرا بلدي يصد ق عليه وصف بطلة الرواية “آنا بلوم” التي تركت عالمها المترف لترتحل بحثا عن أخيها الصحفيّ المختفي في بلاد مجهولة هي بلاد الموت والعدم والسواد (مكان لا يعيش فيه غير العميان) حيث كلّ شيء يتداعى ويضمحلّ وحيث يموتون ويرفض الأطفال أن يولدوا، هذه الميتات الشنيعة أو المتوحّدة التي باتت أكثر شيوعا وتحوّلت إلى نوع من شعائر الثورة المختنقة.
حتّى الأطباء والأبرياء حرموا من أن يموتوا موتة طبيعية ويلفظوا أنفاسهم الأخيرة في سكون على أسرّتهم وبين ذويهم، باتوا يموتون على أبواب المستشفيات وفي المصاعد والبرك والأودية في حين ينجح محرّكو اللعبة المدمّرة في البقاء والنجاة من عوالم القتل والموت. فماذا بعد وقد انقلب هذا البلد إلى عالم شبح يحطّم القلوب ويبتلع الأرواح وينهش لحوم الأبرياء مثلما كان الأمر في المعسكرات النّازية؟.
نحن في بلد يوظّف فيه المحتالون والدجّالون والمخادعون من كلّ الفئات من الثقفوت والصادحون على صفحات التواصل كلّ حدث مثلهم مثل الصيادين الذين يعترضون الضّحايا ويعيدون لفّ الأخبار بأنواعها في خرق أفكارهم البالية وعقائدهم المتكلّسة ونزواتهم حتّى يخرجونها إخراجا جديدا كما يشتهون يشحنون به أتباعهم ويساهمون في مزيد إشعال النّار وتفكيك المجتمع لتوسيع دائرة العدم في بلاد الأشياء الأخيرة.
نحن في بلد انسحبت منه الدّولة وأصبح دورها يقتصر على صناعة الخطابة وإبراز التعاطف ونقد الوضع مع الناقدين من الجماهير وكأنّها باتت دولة معارضة لنفسها، واقتصر دورها على رفع الجثث وحماية مقرّاتها لتترك للقدر مقود القيادة.
نحن في بلد يؤوّل فيه كلّ شيء ويُقلب فيه كل عمل ليصبح تهمة لمن قاموا به، حينها يصبح تخفيف برامج التدريس من طرف لجان التفقد بسبب الظرف الاستثنائي الدّراسي تهمة ومؤامرة تخرج من إطارها لنسب للعدوّ الوحيد. ويصبح تعطّل المصعد تهمة للعدوّ الوحيد، ويخرج بعض الذرأ ممن نطقوا بعد الثورة حين فقدوا حضن الشعب التي كانت توفّر لهم وظيفة ثانية تعطّلت بعد الثورة، فقلبوا وظيفة الوشاية والعسس إلى ترقية إلى رتبة محلّلين بارزين.
بلد الأشياء الأخيرة أو ديستوبيا العدم يرشّح بلادنا بفضل هؤلاء جميعا، وبفضل المخادعين والمحتالين الذين يتصيدون كلّ حدث ل مزيد حقن جسد المجتمع بالحقد والأكاذيب والتأويلات المغرضة أو الدّعاوي الصريحة على ألسنة بعض مراهقي السياسة أو المتعلّطين الذين يبحثون لأنفسهم عن موقع جديد.
وتصبح اللغة الواحدة المتحدث بها لغة أشباح يصنعون منها أنماطا متنوّعة للحديث عن الوضع بالسباب والنفاق والكذب والادّعاء. في بلد الأشياء الأخيرة أين حلّ العدم يحوّل المتعلّمون والقاعدون والجامعيون والصحفيون الهشيم إلى وقود لمزيد نشر اليأس والذعر ومعاقبتهم على الاختيار ولعبة الديمقراطية. في بلد الأشياء الأخيرة لم أهل العلم والباحثونّ والموظفون يتوجهون إلى العمل بل أصبح كلّهم وأنامله طوال اليوم على أزرار الحاسوب يلتقط مثل ملتقطي الكرة خارج الميدان الأخبار ويتصيدون الفرص لتوظيفها ضدّ العدّو الأوّل.
في بلد الأشياء الأخيرة والعدم يسعى هؤلاء المرتزقة والمرضى لا من منطلق الحرص على المجتمع وتدعيم وحدته وجمع الكلمة على إيجاد الحلول الكفيلة بإخراج البلاد من دسيتوبيا الموت إلى مراتع الحياة، السنوات العشر الماضية، وكانت قبل أفضل ممّا هي عليه اليوم. يقول لها مثقفوك ومحللّوك وخبراؤك أنّ الوضع في ظلّ الديكتاتورية السّابقة أفضل. فكلّما عادوا بك إلى الماضي ازداد العالم جمالا. وزادت رغبتهم يدعو رئيس الجمهورية إلى الانقلاب على الدّستور. أو يدعو البعض إلى الانقلاب لأنّ العبودية ثقافة واستحمار يعشقها الحمقى والأغبياء في حين كان رجال الإصلاح في هذا البلد وفي أواخر القرن التاسع عشر يحثّون التونسيين على التمسّك بالحريّة والعمل على التخلّق بها لأنّ الأمّة الفرنسية والأمريكية لم تنهض وتتخلّص من العبودية الكنسية إلاّ بها ودفعت في سبيلها الغالي والنفيس.
في بلد الأشياء الأخيرة التي لا يمكن أن يكون بعدها أكثر دمارا من هذا، كلّ هؤلاء أعداء البلاد يراقبونها حتّى تلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت ببطء. يريدونها أن تنهار على الجميع عقابا لهم. لكن هذا البلد رغم الجراح لن يسقط ولن ينهار لأنّ الذين يحملونه بسواعد العمل ويحرسون حدوده وهم الذين ينعتهم السفلة ب”وراء البلايك” والنساء العاملات في الأحراش والمزارع و العاشقون لتربته لن يفرّطوا فيه ولن يفرّطوا في نسيم الحريّة الذي هب ّ من ربوعهم.
Comments