قراءات: سجناء الكوفيد
تقديم وترجمة: شعبان العبيدي
Courrier Internationalنشرت الأسبوعية الفرنسية “كوري أنترناسيونال” في عددها الأخير 1561 من 1 إلى 7 أكتوبر مقالا للكاتبة ” كلير كرارد” مديرة تحريرها. أعادت فيه طرح سؤال مركزي فرضه وباء كوفيد 19 حول قضية الحجر الصحّي بين تهديد الديمقراطية الغربية وأسسها وبين الخوف من التمهيد لعودة الديكتاتورية تحت غطاء المحافظة على الأمن وحفظ الأرواح البشرية.
إشكالية انبثقت خلال الموجة الأولى التي ضربت بقوّة صادمة بلدان أوروبا القديمة مثل إيطاليا وإسبانيا وخلّفت عددا مفزعا من الضحايا يوميا ومشاهد أليمة وجراحا نفسية وعقلية لا يمكن أن تندمل بسرعة.
وكان بعض الفلاسفة المعاصرين منهم “جورجيو أغامبن” و” جيجيك”، وها هي الكاتبة الصحفية تعيد اليوم طرح السؤال بالنّظر إلى زاويتين من حيث مخلفاته وآثاره من جهة ثم من حيث مخاوف المفكرين من تحويل هذه الذرائع المتّخذة تحت عنوان الإجراءات الطارئة إلى مقدّمات تمهّد لعودة الديكتاتورية خاصّة لدى شعوب مازالت ذكرتها القريبة تحنّ إليها وتراها خلاصا من الفوضى وغياب الأمن كما في بلدان أمريكا اللاّتينية.
وليس من المستبعد عندنا نحن العرب الّذين مازلنا نعتبر الحريّة ليست حقّا طبيعيا نمارسه ضمن القانون المنظم للحقوق والواجبات وإنّما هي حريّة العبيد، فكلّما هزّت بلدننا أحداث وجرائم أو أوبئة و كوارث طبيعية إلاّ هرعنا إلى معبد الزعيم المخلّص نمدّ له أكفّ الضراعة حتّى يعود إلينا بسياطه وكلابه ويسوقنا سوقا نحو المجتمع السجن.
لذلك يبدو لي أنّ قراءة هذا المقال وقفة لمراجعة خوفنا الهائل من كورونا، وأن نسائل أنفسنا بالمثل: كيف يمكن أن ينتعش اقتصادنا ونخفف عذابات الطبقات المعدمة والعمّال غير النظاميين و تستعيد الشركات دورتها الاقتصادية إذا وقفنا نصفق للخطابات الشعبوية المستمرّة والمقنّعة بخطاب ديني إذا نحن لم نقتنع أنّه علينا الأخذ بأسباب الحماية ومواصلة الحياة، وأنّه لا بدّ أن ندفع ثمنا للحياة واستمرارها وثمنا للحفاظ على استقلالية بلادنا وانتعاشها.
وجد الكثير من العدّائين والمارّة العابرين، في المجتمعات التي يفترض أنها حرّة وليبرالية أنفسهم مستهدفين من ملاحقة طائرات “الدرون” بدون طيار، تتعقبهم وتخضعهم لمراقبة مستمرة من طرف الشرطة. وهم يحاولون إقناعنا بقولهم: إنّ كلّ تلك الإجراءات ماهي إلاّ تدابير مؤقتة من أجل محاصرة الكوفيد 19.
لكن الوقت يمرّ وقد حانت اللّحظة الحاسمة لنطرح السّؤال: إلى متى هذه الإجراءات المؤقتة أو تدابير الطوارئ المحمومة وغير المنطقيّة؟ وقد تساءل “يوهان نوربيرغ” الصحفي والمؤرّخ السّويدي في مقال مطوّل له على أعمدة الصحيفة البريطانية الأسبوعية “المشاهد” الذي نفتتح به ملفنا هذا الأسبوع: ما هي إجابات مجتمعاتنا على الحجر الصحي؟.
وباعتبار هذا الصحفيّ السويديّ مدافعا شرسا على العولمة والحريّات الشخصية فإنّه يبدي قلقه بشأن تحوّل هذه الإجراءات إلى انتهاكات محتملة قد تهدّد الدّيمقراطية الغربية وتخوّفه من غياب النقاش فيها حول كلّ إجراء جديد يتمّ اتّخاذه. ويشير أساسا إلى معارضته المطلقة لغلق الحدود تحت ضغط دعاوي الحمائية والقومية.
مثلما ينبّه إلى مخاطر هذه التدابير، متمثلا بقولة “ميلتون فريدمــان” (لا يوجد شيء أكثر ديمومة من خطة مؤقتة للحكومة).ففي الوقت الذي أعلنت فيه عدّة دول عن تدابير جديدة لمحاولة تدعيم احتواء الكوفيد (في إسرائيل بعد اسبانيا وكندا)، شاهدنا مظاهرات مناهضة للحجر الصحيّ في الأيام الأخيرة في كلّ مرسيليا ثمّ في ألمانيا وبريطانيا أخيرا، تعبّر عن رغبة أصحابها في معرفة إلى مدى ستدوم هذه الإجراءات الذي أصبح شيئا فشيئا سؤالا رئيسيا.
ومن الأكيد أنّه كان بين المحتجّين في برلين، وفي لندن مع نهاية الأسبوع الماضي متطرفون ومتآمرون. لكنّ الأمر اليوم بات يتعلقّ بأمر آخر. هناك اليوم ضرب من الاحتقان في مواجهة هذه القرارات التي تعتبر منفردة، والتي اتّخذت دون تشاور. ويبدو أنّ الإجماع السياسي خلال الأشهر الأولى في مواجهة الوباء ذهب هباء منثورا.
فلأول مرّة منذ بداية انتشار الوباء في آذار (مارس) نرى الحكومة الفرنسية تواجه مقاومة عارمة لقرارتها كما كتب ابن فرنكفورت “ألجمين زايتنغ” مبرزا كيف فشلت فرنسا في إقامة تنسيق أو تعاون بين السلطات الجهوية التي وعد بها الرئيس، وفشلت في تقديم تصوّر أو برتوكول صحيّ تدعمه الأغلبية، كما تشرح ذلك الصحيفة الألمانية، التي ترى هذه الطريقة في الحكم قائمة على المركزية تضع موضع اتهام وتساؤل «وحشية القرارات الفوقية المسقطة من أعلى هرم السلطة “.
كذلك الأمر في المملكة المتحدة، لم تكن استراتيجية “بوريس جونسن” لتُفهم بالكاد فهما جيّدا. بل يجب أن يقال إنّه من أجل فرض وتبرير القيود الجديدة وضع الوزير الأوّل البريطانيّ إصبعه، مناورا، على حبّ البريطانيين للحريّة. ولكن الرّسالة لم تصل. وغرّدت اللايدي تلغراف “اتركوا الناس يقدّرون المخاطر التي تعترضهم لأنّ الملايين منهم يريدون ممارسة حياة طبيعية”.
ورغم كلّ هذه المعارضة نرى دور الدّولة يتعاظم في كلّ مكان من العالم، سواء أكان ذلك من أجل وضع خطط لدفع قوي لعجلة الاقتصاد أو من أجل اتخاذ إجراءات خاصّة. هذا هو الحال في أمريكا اللاتينية: فإنّه بفضل الوباء في كلّ من البرازيل والمكسيك استعاد الجيش سلطته في الشوارع وفي الدوائر القريبة من السّلطة (في قارّة أين تبقى ذكريات الديكتاتورية خلال سنتي 1970 و1980 حيّة مغرية). أين تقدّم قوات حفظ النظام نفسها ضامنة للنظام وحافظة بالأساس للأمن. لكنّ هذا الدّور المسند للثكنات العسكرية يثير اليوم الكثير من المخاوف كما كتبت صحيفة “دولة البرازيل”.
لكنّ دولة السّويد لا تواجه مثل هذه المشاكل الّتي نواجهها، لأنّها اعتمدت على توجيه مواطنيها وتحسيسهم ورفضت كلّ إجراء للحجر الصحيّ الصّارم. حيث بقيت المدارس والمطاعم وقاعات الرّياضة دائما مفتوحة. وبعد أن دفعت البلاد ثمنا باهظا من الضحايا جراء فيروس كورونا، تبدو اليوم في وضع جيد صحيّا واقتصاديا كما أوردت جريدة “نيوس ستاتسمان” البريطانية. فهل يجب إذن أن نستلهم الحلول من النموذج السويدي؟
ولكن كما يقول “كرونيكور” روسي على موقع “قازيتا. ري” لقد أظهرت ممارسة الحكم تحت الخوف حدودها (يريدون منّا أن نصدّق أنّ المحافظة على النّظام لا يمكن أن تتمّ إذا توقف النّاس عن الخوف فتحلّ الفوضى). ومع ذلك فقد حدث عكس ذلك تماما. وسيكون من الضروري بالنّسبة إلى الحكومات استعادة ثقة المواطنين وإقناعهم أنّه لدينا الكثير لنكسبه عبر فتح مجتمعاتنا والتعايش مع الفيروس بدل من إغلاقها كما يشرح ذلك “يوهان نوربيرج” هانك شيء تغير وقد أظهرته هذه الأزمة بكلّ وحشية حين قال:
“الجديد بالنسبة إلينا اليوم ليس الفيروس، وإنّما هو ردّ فعلنا. فعاجلا أم آجلا سنصادف وباء أكثر خطورة، أو نصادف بعض الأزمات المدمّرة الأخرى. فهل سنكون مستعدّين للتّضحية هذه المرّة؟”.
Comments