قراءة “متفائلة” في أرقام الزرقوني
المهدي عبد الجواد*
تسرّبت من الحفل السنوي “لسيغماي كونساي” بعض الأرقام المتعلقة خاصة بنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية. ولم يكن استقبال هذه الأرقام “طيبا” في الجملة، بل انها أثارت ردود أفعال متفاوتة وإن كانت سلبية في اغلبها، بين من شكك فيها، ومن طعن في نزاهة مُقدمها، وصولا إلى الحديث على خلفيات سياسية بل ومؤامرات لإلهاء التونسيين عن مشاكلهم وتوجيه رغباتهم، كل ذلك “مباحٌ” طالما أنه يدخل في باب القراءات والتأويلات.
ولكني شخصيا أميل إلى قراءة اخرى، قد تكون مختلفة فنتائج سبر الآراء تبدو لي منطقية جدا، ولا غرابة فيها وذلك:
1/
وجود قيس سعيد في صدارة سبر الآراء أمر طبيعي، فالرجل رغم كل شيء، مازال أكثر الشخصيات السياسية الموثوق بها لدى التونسيين، وهو أكثر الشخصيات تغطية إعلامية وورودا على الألسن وذكرا في كل المواقع والجرائد والمجلات، وحضورا في المحافل والنقاش، وصوره الأكثر تبادلا وانتشارا.
فقيس سعيد هو “الحاكم” وأهل افريقية “مع الواقف”، لذلك فإن جزءا كبيرا من الأرقام نتاج ذهنية ميالة لاختيار الحاكم ونُصرته، فعامة التونسيين لا يصرفون أوقاتهم في متابعة اخبار السياسيين والاحزاب قدر اهتمامهم بتفاصيل حياتهم، لذلك يتركون شأن السياسة للحاكم اي لقيس سعيد.
كما أن فكرة “المعارضة” غريبة على عموم التونسيين، فهم حديثي عهد “بالديمقراطية”، ولذلك مازال ماعلق بصورة المعارض التي رسختها منظومة الحزب الواحد، بماهي صورة المناوئ للنظام والخائن والمعادي للدولة والمصلحة العامة والعميل وعون الخارج والاستخبارات حاضرا، خاصة وأن قيس سعيد ومفسريه يشتغلون على احياء هذه الصورة.
2/
عجز “المعارضة” على تقديم بديل حقيقي، يمكن أن يحظى بالثقة، من جهة “النظافة” وخاصة الوضوح و”القُرب” من الناس، يكون فيها في قطيعة مع “النخب” المسؤولة في تقديرهم على حال البلاد، كل هذه المعطيات التي تُبرّر وجود قيس سعيد في صدارة المشهد، تتعمّق إذا قرأنا قائمة الشخصيات التي تليه، فهي شخصيات إذا وُضعت في “الميزان” مقارنة بقيس سعيد تخسر آليا، ولا يُمكن أن تكون بأي شكل من الأشكال، عند التونسيين بديلا حقيقيا ووازنا لقيس سعيد،
فإذا كان “هؤلاء” بديلا، فمن الأفضل أن يبقى قيس سعيد ولكن الدرس الأعمق في هذه “الجذاذة” يكمن في كونها تتطابق مع وعي جماعي، لدى النخب التونسية بمختلف مشاربها، وعموم المواطنين وحتى لدى القوى الخارجية، في كون بقاء قيس سعيد يعود في جملة ما يعود لغياب بديل عقلاني وشعبي يمكن أن يُفضّله التونسيون على قيس سعيد، ويستعدون معه لخوض مغامرة التغيير العميق مع ما قد يتطلبه من تضحيات وما تحف بها من مخاطر.
إن قيس سعيد نفسه معنيٌّ بتآكل الثقة، فقد نزل إلى النصف، وإذا قمنا بمزيد تفكيك هذه النسبة واعادتها لما تقدّم فسنجد أنه لم يعُد “الحاكم” المثالي لأغلب التونسيين، فأكثر من 60% لا ينوون التصويت له، وهو ما يعني باب السباق للرئاسة قد فُتح، ولكن الطريق اليه مازال طويلا، وأن الفرصة الوحيدة لفوز قيس سعيد من جديد بها، مرهون ببقاء حال منافسيه هو نفسه، وعجز من هو “أكفأ” عن البروز وعن التعريف بنفسه وفرضها. .
وقديما قيل: “اسمع كلام اللي يبكيك” لعلها هي الحكمة التي تنطبق على وضعية الحال، فما قالته “أرقام الزرقوني” نزع أوهام الكثير من السياسيين والاحزاب، وعرّى حقيقتهم، وهي دعوة لهم للتواضع ومراجعة الذات وتغيير مقاربات العمل.
3/
تقول أرقام الزرقوني أن الساحة السياسية “قاحلة”، وأن ولادة بديل ممكنة، شريطة القطع مع هذه الأحزاب الشبيهة بالحوزات، ومع هذه الزعامات الفاقدة للثقة والعاجزة على اقناع التونسيين بجدارتها على قيادتهم.
وتقول أن اللحظة قد حانت، لينخرط “الواقفون” على الربوة في العملية السياسية والحزبية من أجل بروز جيل سياسي وطني جديد، يُجدّد المشروع الوطني ويُصالحه مع الديمقراطية..
نحن اليوم في لحظة تاريخية مهمة، تتشكل فيها تونس الجديدة. تُجدّد الدولة التونسية فيها نفسها، وتتجدّد النخبة الوطنية خطابا وسلوكا ومقاربات، ويُعاد تشكيل “العهد الوطني” لإحياء ثقة التونسيين في دولتهم ومؤسساتها، وفي المشروع الوطني والحضاري والديمقراطي لتونس.
وهو ما يفرض ايضا تنظيم عمليات سبر الآراء وضبط معاييرها، حتى تُساهم الأرقام في تجويد العملية السياسية، ويكون لها تأثير إيجابي اقتصاديا واجتماعيا.
Comments