قيس سعيّد والخطاب السياسيّ الملغّز: بين التزقّف والازدقاف
شعبان العبيدي
بعد أيّام من الترقّب لما ستؤول إليه أمور الشدّ والجذب بين السلطات الثلاث، وبعد التّجوير الوزاري الذي أقدم عليه رئيس الحكومة المشيشي لسدّ الشغور الحاصل واستبدال مجموعة من الوزراء، وعرض حكومته الثانية على مجلس النّواب ونيله الثقة بأغلبية مريحة. وبعد أن أكّد خــــــــــلال كلمته استناد هذا التّحوير الذي قام به إلى تقييم دقيق لفريقه، في حين كنّا نسمع من الأحزاب المكوّنة لحزامه السياسي قبل أسابيع من إقدامه على هذا التحوير نقدها لعدد من الوزراء وإعلانها عدم رضاها على عملهــــــــم أدائيا وتواصليا، هذا إضافة إلى حادثة إقالة وزير الدّاخلية الذي فتح باب الأقاويل في رغبة المشيشي و حزامه السياسي في تصفية وزراء القصر أو رئيس الجمهورية، ممّا يؤكّد أنّ التّحوير المجرى كان في واقــــــع الأمر نتاج تخطيط مسبّق وتفاهم بين رئيس الحكومة و الائتلاف الدّاعم له. وقد ظهر حزب “قلب تـــونس” أكثر تمسّكا بذلك ودفاعا عنه.
قيس سعيد يرفض التحوير
بعد كلّ هذه اللّعبة جيّدة الحبك مع قناعة الجميع بضعف الحكومة الجديدة و تعثّرها في مواجهة الأزمة الصحيّة والاقتصاديّة والاجتماعية وهو ما ظهر على الأقـــــــــلّ من خلال الشعارات التي رفعت خلال التحرّكات الاحتجاجية، والتي جاءت مطالبة باستقالة الحكـــــــــومة و تغيير منظومة الحكم، تمسّك الرئيس قيس سعيد سواء خلال اجتماع مجلس الأمن القومي أو بالأمس لقاؤه بالأمين العام لاتحاد الشغل و بعـــــــــد زيارته الأخيرة نهاية الأسبوع لوزرارة الدّاخلية وجولته في شارع الثورة أين تجمّعت حوله مجموعات من المواطنين وتحادثهم معه حول تأزم وضعهم الاجتماعي وتعبيرهم عن مساندتهم له في وقوفه ضدّ منظومة الحكم، وتأكيده كعادته وفاءه لمطالب الشعب والدّفاع عن حقوقه
كان التقاء الرئيس قيس سعيد بالأمين العام لاتحاد الشغل، الذي بعث هو الآخر برسالة قويّة من داخل أروقة اجتماع الهيئة الإدارية الوطنية يحمّل فيها أطراف الحكم مسؤولية الأزمة وانسداد الأفق في الخروج من أزمة الحكومة بعد التّحوير الجديد، وكأنّ هذا اللّقاء جاء ليوضّح فيه رئيس الجمهورية عدم مسؤوليته عن الأزمة وتبرئه ممّا آل إليه الوضع الحكومي من عطالة.
كانت كلمة رئيس الجمهورية كالعادة قائمة على لغة مشفّرة وإغراق في الضبابية والمجاز، ولعلّ تعمّد الفريق الرئاسي لنقلها إلى الشّعب كان مقصودا وموجّها ضدّ خصوم القصر، وأساسا ضدّ رئيس الحكومة الذي خرج لتوّه من عباءة القصر ليتصرّف حسب ما يخوّله له الدّستور من حقوق، ومن جهة أخرى ضدّ حزامه السياسي الذي بات واضحا للعيان أنّ قيس سعيد يقف في مواجهة هذا الائتلاف ولا يفوّت الفرصة كلّ مرّة أتيحت له فيها مخاطبة الشعب.
والسؤال الذي يطرح: ما السرّ الذي يجعل رئيس الجمهـــــــورية يكرّر ويردّد كلّ مرّة وقوفه ضدّ المتآمرين والخونة والأذرع التي تخدم أجندات خارجيّة؟ ومن يعيّـــــــن بالضبط بهذه الأوصاف التي ترتقي إلى جرائم ضدّ الدّولة؟ هل فعلا يملك القصر حقائق استخباراتية عمّا يجري من فساد سياسي حزبي خاصّة وأنّ هذه التّهم يتبادلها السياسيون خارج وتحت قبّة البــــــــــرلمان ويكشفون من خلالها معركة محاور خارجية خليجية ولوبيات داخلية تشقّ البلاد وتسعى إلى ضـــــرب استقرارها والإجهاض على حلم المسار الدّيمقراطي؟
قيس سعيد .. ضد الجميع
يبدو أنّ هذا الإصرار من القصر على وسم طرف بالخيانة والعمالة والفساد لا يخصّ الحكومة فحسب بل يتعدّاه إلى موقفه من المشهد السياسيّ وخاصّة أحزاب الائتلاف الحاكم التي باتت في مرمى نيــــــــــران المنظّمات ورأس السلطة التنفيذية والحراك الاجتماعي، وهو ما يرشّح الوضع لمزيد من الشّــــــــــــرخ والقطيعة قد يؤدّيان إلى انتخابات تشريعيّة مبكّرة أو استفتاء مثلما تسعى لذلك المعارضة الّتي واتتها ريح القصر، وخصوصا ما يجري اليوم من سعي حثيث على قدم وساق لتقديم عريضة سحب الثقة من رئيس مجلس النوّاب.
كان رئيس الجمهورية ذكيّا في كسب ودّ الاتّحاد والتّذكير بأنّه جزء منه ومحاولة جــــرّ المنظمة الشغيلة للاصطفاف وراءه مع بقية تلوينات المعارضة، ليحشد أكبر قدر ممكن من الحزام السياسي والمدني حوله يمكنه من قلب الطاولة على الخصوم، وهو تقريبا نفس السيناريو الّي كان قد قام به الرئيس المرحــــــوم الباجي قائد السبسي ضدّ يوسف الشّاهد في تعليق وثيقة قرطاج2 الّتي فشلت لسبب وحيد هي النقطة 64 وهي إقصاء الشّاهد من الحكم. فهل يكون هذا مصير حكومة المشيشي وبالتّالي انتهاء حكومتي الــرّئيس الأولى والثّانية وبالتّالي التوّجه نحو انتخابات مبكّرة وحلّ البرلمان؟ وهل البلاد قادرة على تحمّـــــل هذا المأزق في ظلّ الوضع الوبائي والاقتصادي والاجتماعي شديد الخطورة؟
قيس سعيد .. الرئيس الساخر
أمّا القسم الثّاني من كلمة الرّئيس فقد جاءت قطعية في عدم قبوله للتحوير الوزاري وتمسّكه بعدم حضور الوزراء الذين عبّر عن تعلّق شبهات فساد بهم أو شبهات تضارب مصالح، معبّرا عن انفتاحه للحـــــوار طبعا معر رئيس الحكومة وحزامه السياسي، ليترك للمشيشي إمكانية تغيير هؤلاء الوزراء والعودة إلى بيت الطّاعة لأنّه لا حلّ له اليوم غير ذلك.
حمل قيس سعيد بأسلوب فكه ساخر على طرفين في رسالته يمكن استشفافهما من توظيفه لمشهد ساخـــر من رسالة الغفران للمعريّ، أين عبث فيها بالشيخ ابن القارح. وقد أثار هذا التضمين في كلمته رواد مواقع التواصل وبات طرفة من الخطاب السياسي للرئيس. يذكّرني بما كتبه الصّحفي السويدي عن خطابات “دونالد ترمب” بعد الانتخابات الرئاسية عنوانه “كركرة: سأكتب من الآن فصاعدا مثلما يتكلّم الرئيس ترمب”. حيث فاجأت هذه الصّورة الكوميدية في جنّة المعريّ والبعيدة عن أذهـــــــان الجماهير المتوّجه إليهم المواقف، وربّما صدمت الطبوبي نفسه، وأثارت استغرابه، فبقي يتســـاءل: ماذا يقصد الرئيس “بستّ إن أعياك أمري فاحمليني زقفونة”؟
جدل قانوني ودستوري
كلام سعيد يبدو انه موجه اساسا إلى زملائه أساتذة القانـــــون من جهة والذين اعتبرهم الرئيس والفقيه الدّستوريّ والإمام حسب منطوقه ومعجمه أنّهم تلقّفوا مسألة أداء اليمين الدستورية على ظاهرها وذهبوا في اتّجاه اعتبارها إجراء شكليا وليس للرئيس الحقّ في تعطيلـــه. بل عليه “فورا” وبعد مرور التحوير الوزاريّ تسمية الوزراء المعيّنين وتنظيم مـــــــــوكب رسمي لأداء اليمين، وليس لديه سلطة تقديرية في المسألة.
لكنّ قيس سعيد جاءهم من الخلف واعتبر أنّ أداء اليميـــــن مسألة جوهرية لا ترتبط بالقانون الدستوري بل بالقانون الإداري، لأن الإدارة ملزمة بمبدأ المشــروعيـــة عندما تمارس مهامها وحتّى تكون قراراتها متّفقة مع القوانين النّافذة بمعناها الــــــواسع، وتتجسّد أعمال السلطة التنفيذية في مستويين أوّلهما العمــــــــل الإداري وهي موضوع القانون الإداري وثانيهما أعال الحكومة وهي من موضوعات القانون الدّستـــــوريّ. وبهذا الانزياح واتّخاذ مقام المؤول للقانــــــــون ولفقه القضاء تحوّل قيس سعيد من رمز للسلطة الجمهورية إلى فقيه دستوري.
واعتبــــــر بالتّالي أنّ فريقا من زملائه الجامعيين اختطفوا الحدث وأولوه بسرعة وتزقّفوه على حدّ قول معاوية حين سمع بتولّــــي عمر رضي اللّه عنه الخلافة (لو بلغ هذا الأمر إلينا بني عبد مناف تزقّفناه تزقّف الأُكرة). أو هم على تسرّعهم ولهفتهم في تمرير الأمر مثل الشيخ ابن القارح وهو يتوسّل الجارية أن تترفّق به وتزقفنه على ظهـــرها ليمرّ كيفما كان الأمر حتّى وإن كان المرور في مشهد ساخر.
الغنوشي و الائتلاف الحاكم
وأمّا الطّرف الثاني الذي بعث له قيس سعيد بهذه الرسالة المشفّرة من ركام التّراث وهو يفهمها جيّدا فهو حزام المشيشي والمشيشي نفسه وفي مقدّمتهم الشيخ المسنّ رئيس المجلس الّذي كان قد بعث برسالتيــن متتاليتين يدعو فيهما رئيس الجمهورية إلى إتمام مراسيم أداء اليمين حسب ما يمليه الدّستــــــور.
فجاء ردّ ساكـــن قرطاج: بأن تمهّل أيّها الشّيخ فلن تجديك الوساطات ولا القرابات والعجلة. فأنت مثلك في هذه العجــــلة لتظهر نصرك على القصر وإقصاء رئيس الجمهورية، وتشرّع بالتّالي لجنّة أو مكان يملــــؤه الفاسدون والمتسلّقون-وهو يقصد هنا حليفه الآخر-لن تمرّ على الصراط رغم صكّ التّوبة والجـــواز الذي منحته لحكومة المشيشي.
ولا تعتبروني زُقفة أو لقمة سائغة أو كرة تقاذفـــــونها أو تسلبونني إرادتي. فجاءت الصّورة المشهديّة مثلا رمزيا وإيحاء مشبعا بالسّخرية من الخصوم. ولا شكّ أنّ هذا التوظيف المثير لنصّ بعيد كلّ البعد عن عقلية المخاطبين سيظلّ محفوظا في ذاكرة طرائف الخطاب السياسي وآلياته الجديدة الدّخيلة عليه الّتي رأيناها مع بعض رؤساء النّزعة الشعبوية في العالـــم في الولايات المتحدّة والبرازيل وإيطاليا.
Comments