كتب المهدي عبد الجواد: “حكومة المشيشي .. المليح يبطى”
المهدي عبد الجواد
شرعت حكومة الكفاءات المستقلة في عملها في ظروف موضوعية صعبة، تميزت بأزمة اقتصادية ومالية متفاقمة، وتأثيراتها الاجتماعية المتزايدة، ناهيك على حالة الاحتقان الاجتماعي وتفجر احتجاجات مهمة مست عُصَبَ الاقتصاد الوطني بقطاعي الطاقة والمناجم، هذا علاوة على الموجة الثانية من انتشار وباء الكوررونا كل ذلك وسط تواصل الانقسام السياسي بين الأحزاب والكتل البرلمانية الذي يزيد كل يوم في ارتفاع منسوب انعدام الثقة في العملية السياسية والديمقراطية برمتها، ويزيد في تحويل تونس إلى بلد يسير “على موجات متنافرة” فكلّ شخص على هواه.
-
صعوبات موروثة
يتناسى الكثيرون ان جزءا من الأزمة التي تعيشها تونس تعود بجذورها الى فتررات تاريخية سابقة للثورة، وموروثة حتى منذ ستينات القرن الماضي. فأزمة المؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية وصندوق الدعم قديمة متوارثة، وحوكمة القطاع العمومي والثقل البيروقراطي وتآكل المرافق العمومية من صحة وتعليم ونقل ليس من منجزات الثورة ولا من التأثيرات السلبية للثورة، بل ان ثورة الكرامة قامت مثلا على التفاوت الجهوي وعلى انعدام التنمية بها، وخاصة على “عدم توطين” جزء من ثروات المناطق الداخلية بشكل يُراكم فيها الثروة ويساهم في النمو الاقتصادي والاجتماعي.
ان الثورة كانت رئيسيا ثورة اجتماعية أضافت إليها النّخب السياسية وخاصة “المدينية” طابعا سياسيا ديمقراطيا، وهو ما يُفسّر انكباب “النّخب” على استكمال المسارات السياسية والدستورية مقابل إهمالها للأولويات الاجتماعية التي ثار الناس من اجلها. ولذلك زادت السياسات العمومية وطرائق الحوكمة بعد الثورة في مزيد الصعوبات، وزاد خاصة الدفع بــ “الهواة” لمراكز القرار، وتوزيع المسؤوليات التنفيذية في كل المسؤوليات بحسب الانتماء السياسي والجهوي والعائلي بمنطق “الزبونية” و للهيمنة على “الحُكم” ومن اجل خلق شبكات نفوذ متعددة، زاد في تعميق هذه الصعوبات الى قاد البلاد الى شفا الافلاس التام، وسط عملية ترذيل كلية للعملية السياسية و”تنمّر” جماعي على “السلطة”، حتى من داخلها.
-
فرصة المشيشي
هذه الوضعية الصعبة، وان كانت ظاهريا مُعيقة للعمل الحكومي، فانها تمثل فرصة حقيقية للمشيشي وحكومته للنجاح. فرئيس الحكومة نفسه، وأغلب وزرائه جاؤوا من رحم “الادارة” اي انهم مُمارسون للسلطة من موقع آخر، رافقوا الدولة وسياساتها وصاحبوا ما عرفته من تحولات وتغيّرات طيلة عشريتين، واعون بمواطن “الفساد” قبل الثورة وبمواطنه الانحراف بالسياسات بعدها. إذ ان اطارات الادارة التونسية “مفخرة” دولة الاستقلال، لهم من المهارات والقدرات ما يسمح لهم بتشخيص العلل وتحديد مسارات اصلاحها، وهم موجودون اليوم في هرم سلسلة القيادة في فرصة تاريخية نادرة لاعادة عقارب الساعة الى اتجاهاتها الصحيحة.
كما يحظى السيد المشيشي بثقة كبيرة وضعها فيه اغلب التونسيين لتخليصهم من فترة صعبة تميزت بــ “حكم السياسيين الهواة” على ما كان فيها من انجازات لعل أهمها “تواصل الدولة واشتغال مرافقها العمومية”. وله مع ذلك سند برلماني مهم يسير نحو الاستقرار بما يسمح له بتمرير مشاريع القوانين الضرورية في مجلس نواب الشعب، وعلى رأسها قوانين الصرف والإنعاش والطوارئ الاقتصادي والقوانين المتعلقة بالإصلاحات الكُبرى التي تأخر انتظارها، هذا علاوة على ما قد يجد المشيشيي نفسه مطالبٌ بالقيام به من إجراءات تتعلق ببعض المؤسسات العمومية وإصلاح الصناديق.
تبدو عملية الانطلاق بطيئة وهادئة وبلا “ضجيج” لعلها اختيار من الحكومة، فرضته الوضعية الصعبة والمعقدة التي وجدت عليها الحال، وهو ما يتطلب تقليب النظر والتمحيص والتثبت قبل اخذ القرارات، إذ يُدرك أعضاء الفريق الحكومي انهم يحملون آمالا قد تكون “الفرصة الأخيرة” لإنقاذ البلاد والعباد والمؤسسات، وتقويم الانحراف الذي يمسّ كل مناحي الحياة في تونس. هذا البطء يترافق مع موجات ايجابية، لعل أهمها عودة العمل في منطقة الحوض المنجمي وتحميل الفسفاط الى مناطق التصنيع بقابس وصفاقس والصخيرة. كما ان اتفاقا قد يتم الإعلان عليه خلال ساعات يقضي بتحرير “الفانا” في منطقة الكامور وفضّ الاعتصام بما يضمن عودة شركات النفط والغاز للعمل بجنوب التونسي وهو ما سيكون له الوقع الايجابي على ميزان الطاقة وعلى الموارد المالية للدولة. ينضاف إلى ذلك المؤشرات الايجابية في القطاع الفلاحي وخاصة صابات الغلال الموسمي المُعدّة للتصدير من قوارص ورمان، إضافة إلى التمور والزيتون. كلها مؤشرات توحي بإمكانية تعبئة موارد مالية للدولة تُغلق بها ميزانية سنة 2020، وتفتتح بها ميزانية 2021، التي قد تتدعم بموارد ضخمة تتأتى من “المصالحات المصرفية والجبائية” وعمليات إدماج السيولة والمالية الهائلة النائمة في القطاع غير المهيكل والتهريب والتهرب.
-
المحاذير
على رئيس الحكومة ووزراؤه الخروج اليوم من حالة “الصمت” ومثلما عليهم مواجهة “المصاعب” وأعباء الحُكم عليهم مواجهة “الرأي العام”، عبر صياغة سياسة تواصلية قائمة على الوضوح والشفافية. وضوح الرؤيا والأهداف وشفافية السياسات. إذ نعتقد ان الحضور الإعلامي إلى حد اليوم غير كاف ولا مُحكم، فثمة حيرة لدى الرأي العام بخصوص مواضيع كان يُمكن للحكومة تجاوزها بالمحافظة على “نقطة إعلامية” يومية من قصر الحكومة تتعلق بالمستجدات ناهيك على إعلام يتعلق بالكورونا والاقتصاد والتربية والوضع الأمني عموما. فليس اخطر على الحكومة من إحساس المواطنين بكونهم متروكون لحال سبيلهم يُواجهون مشاغل حياتهم بمفردهم، إذ تعوّد التونسيون على “الدولة الراعية” و الــ “الحاكم الكبير”، تصوران لم يعودا في وارد السياسة اليوم لكنها طاغيا الحضور في الأذهان.
على المشيشي أيضا ان يُبرهن انه قائد فريق، يفرض كلمته ورأيه وله جرأة القائد وشجاعة الضابط في الحروب، فنحن معه في حروب متعددة الجبهات، وحسنا فعل بإقالة وزير الثقافة ولكن ذلك غير كاف. فعليه القيام بعملية تنشيط للجهاز التنفيذي الـت “مترهل” والمنقوص، فعشرات المعتمديات دون معتمد، والكثير من الولاة يتوجب تغييرهم ناهيك عن ثورة حقيقية داخل الإدارة التي يعرفها المشيشي أكثر من غيره. عليه مواجهة الأحزاب والكتل البرلمانية والمنظمات الوطنية بحقيقة الأمور و بما ستقوم به الحكومة من إصلاحات في إطار تصور مستقبلي واضح، ويتحمل الجميع مسؤولياتهم فيه. فيكفي من التردد ومن الحذر، فقد دقت ساعة الجدّ والتحديات الكُبرى، لان علينا خوض هذه المعارك اليوم وليس غدا.
Comments