الجديد

كتب منذر بالضيافي: العودة ل”التوافق ”  .. ضرورة لا خيار

منذر بالضيافي

في مواجهة الأزمة الشاملة والمركبة التي تعصف بتونس اليوم، تعالت الأصوات الى ضرورة التعجيل بإنجاز مؤتمر وطني للإنقاذ،  البداية كانت من قبل رموز سياسية، على غرار محسن مرزوق ونجيب الشابي ورضا بلحاج ويوسف الشاهد .

وهي دعوات تدعمت، بتأكيد رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، في أكثر من مناسبة على ضرورة تفعيل الحوار و “أن البلاد لا يمكن أن تحكم الا بالتوافق”، وفق تعبيره.

ولعل ما يجعل هذه “الدعوات”، ترتقي الى “المطلب المجتمعي والوطني”، هو بداية تبنيها من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل (مهندس وراعي الحوار الوطني 2013)،  وهو ما تأكد من خلال اللقاءات التي أجراها هذا الأسبوع الأمين العام للمنظمة، نورالدين الطبوبي، خاصة مع كل من الرئيس قيس سعيد والشيخ راشد الغنوشي.

لقاءات علق عليها الأمين العام المساعد للمنظمة الشغيلة، سامي الطاهري بكونها تندرج ضمن تحرك الاتحاد العام التونسي للشغل، لإعداد مبادرة وطنية شاملة، سيتقدم بها لاحقا إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد، وفق ما أفاد به الطاهري، في تصريح لوكالة تونس افريقيا للأنباء (وات).

الذي تابع ” بأن هذه المبادرة ، التي يعمل على إعدادها فريق من نخبة الخبراء المختصين، تشمل مقترحات وتشخيصا للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وقد لقيت فكرة إطلاقها ترحيبا من رئيس الجمهورية في آخر لقاء جمعه بأمين عام الاتحاد ”

برغم الاجماع على أن “التوافق” الذي حكم تونس بلا منجز اقتصادي واجتماعي، الا أن هذا لا يبخسه الدور البارز والمؤثر، في ارساء حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، في فترة انتقالية اتسمت – ولا تزال – بهيمنة مظاهر التوتر والانقسام السياسي والايديولوجي الذي كانت له انعكاسات مجتمعية سلبية، وبالتالي فان “حسنات” التوافق هي أكثر من “سيئاته” خاصة اذا ما تعلق الأمر  بكونه بصدد التحول، الى “مطلب وطني ” ، يكون مقدمة ضرورية تمهد للشروع في الانقاذ.

استطاعت تونس، أن تشذ عما يميز خاصة فترات ما بعد الثورات أو الانتفاضات، من تقلبات تصل حد الانزلاق نحو الحرب الأهلية أو الفوضى وانهيار الدولة والاجتماع السياسي.

في تونس كان – ولا يزال – الوضع مغايرا تماما، برغم تتالي الخيبات والاخفاقات التي وصلت ما يشير الى فرضية سيناريو الانزلاق نحو المكروه، اذا ما استمرت حالة الاحتقان السياسي والصراع بين مؤسسات الحكم، و مع ذلك فان كلى القوى الوطنية والمجتمعية تشدد على تمسكها باعطاء المجال للحل السياسي  القائم على “الحوار” و “التعايش” بين كل الفرقاء، وحسن ادارة التناقضات وعدم الدفع بها الى نقطة اللاعودة، وهو ما قامت به النخبة السياسية في أوت 2013.

برغم تراجع التحمس للانتقال الديمقراطي، فان صوته لم يخفت بعد، وأن الوضع  في تونس يبقى مع ذلك مرشح أكثر لسيناريو التوفق لبناء نموذج ديمقراطي، برغم الصعوبات المتمثلة اساسا في تأخر الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وما قد يرافقها من حراك احتجاجي، فضلا عن محيط اقليمي ودولي مضطرب زادته أزمة الكورونا قسوة وشدة.

لقد تمكنت النخبة السياسية، من تجاوز كل العقبات التي كانت تهدد تجربة الانتقال الديمقراطي، خاصة بعد صعود الإسلاميين للحكم، وما صاحبها من تصاعد للاستقطاب الإيديولوجي، كاد ينهي المسار ويدخل البلاد في موجة من التناحر والصراع، لولا توفق الفاعلين الرئيسيين، و هنا أريد أن أركز على السياسيين منهم، تحديدا شخصية الباجي قائد السبسي، الذي قاد المعارضة وأعاد التوازن للحياة السياسية، و أقصى “النهضة” الإسلامية مرتين من الحكم، الأولى عبر حوار وطني، والثانية عبر استحقاق انتخابي ديمقراطي جاء بحزبه “نداء تونس” للحكم، واستحقاق آخر رئاسي صعده للرئاسة، كأول رئيس منتخب بعد 14 جانفي2011.

قام الباجي قائد السبسي، بتكثيف الضغط السياسي على الإسلاميين، بفضل النجاح في حشد  الرأي العام الوطني، وخاصة الاعلام والنخب و المرأة، ما دفع الإسلاميين إلى التراجع ليفرض عليهم مراجعات ما تزال في دائرة الاختبار، أدت – لحد الآن – إلى عقلنة خطابهم وممارستهم السياسية، التي اعتبرها السبسي بمثابة شرط أساسي،  لإدماجهم في الحقل السياسي.

شدد الباجي قائد السبسي في سلسلة الحوارات التي أجريتها معه ونشرتها في كتاب *، على أنه “وضع أمام راشد الغنوشي، رئيس “النهضة” شروطا قبل الحوار، خاصة في لقاء باريس الشهير، الذي جمع بينهما في صائفة 2013 (15 أوت 2013)، في فترة تميزت بتصاعد التوتر السياسي، والاستقطاب الايديولوجي، بين الاسلاميين وخصومهم في المعارضة بقيادة رئيس “نداء تونس”، وذلك بعد اغتيال كل من القيادي اليساري شكري بلعيد (فيفري 2013) والنائب بالتأسيسي محمد البراهمي (جويلية 2013)، الذي أدخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار، وبرزت مخاوف جدية من الانزلاق نحو الحرب الأهلية.

وضع السبسي شروطا للقبول “بالحوار” و “التعايش” و القبول “بادماج الاسلاميين” في الحياة السياسية، تتلخص في التبرؤ بصفة علنية من الانتماء للإسلام السياسي المتشدد ولتنظيم الاخوان” العالمي ، وهو ما أكد عليه الباجي للغنوشي خلال لقاء باريس.

قبول الغنوشي بطلبات السبسي، ساعد على تنقية المناخ السياسي وبالتالي على تحقيق الاستقرار السياسي المطلوب وهو موقف أشاد به السبسي، و قال لي أن الغنوشي “سياسي أدرك المخاطر التي تعصف بالبلاد”، وأنه اختار “المصلحة الوطنية” وتبنى شعاره: “الوطن قبل الأحزاب”.

مكنت التسوية السياسية، التي انطلقت من لقاء باريس وتدعمت في جلسات الحوار الوطني، من التوصل الى “توافق تاريخي” حصل لأول مرة في المنطقة العربية، بين “التيار الوطني الحداثي” و”التيار الاسلامي”،  وهو توافق  لعب فيه الباجي قائد السبسي دورا رئيسيا – الى جانب راشد الغنوشي – ما جعل مهمة الرباعي (الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد الصناعة والتجارة، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، الهيئة الوطنية للمحامين) سالكة لتنفيذ خارطة طريق الحوار الوطني.

اتفاق سياسي، بين “الشيخين” (راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي)، مكن من الوصول الى اتفاق، عبد الطريق للتسريع بوضع الدستور وقبل ذلك التوافق على النقاط الخلافية في المسودة الأولى، و على استقالة حكومة علي العريض، و تشكيل حكومة مستقلة برئاسة مهدي جمعة والانصراف للإعداد للاستحقاقات الانتخابية، التي تمت في مناخ ايجابي وقبل الجميع بنتائجها، ليفسح المجال بكل سلاسة إلى تشكيل حكومة ائتلافية، حكومة “تعايش” بين “نداء تونس” و “النهضة”، الأمر الذي مكن من تحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي، سمح باستمرار مسار الانتقال الديمقراطي، الذي  ما يزال استقرارا هشا.

ان هذه الاستعادة ضرورية لفهم ما حصل والاستفادة منه، من أجل انطلاق “ملحمة الانقاذ الوطني”، التي لا يجب أن تتأخر، لان أوضاع البلاد والعباد لم تعد تتحمل، هذا  “العبث” الذي تدار به البلاد اليوم، والذي  ينذر – لو استمر – بخراب العمران.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP