الجديد

كتب منذر بالضيافي: نحو عالم جديد .. “القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد”

منذر بالضيافي

تتعدد المؤشرات، التي تبين وتكشف على أن “النظام العالمي القديم”، الذي اشتد عوده بعد سقوط برلين ونهاية الحقبة الشيوعية، لصالح “القطب الواحد” و “الزعامة الواحدة” للعالم، التي استفردت بها الولايات المتحدة الأمريكية، هو بصدد الاستئذان في الانصراف.

ونزعم أن الانسانية بدأت الدخول في طور انتقالي، يبرز من خلال رصد “هشاشة جميع الدول” ، المتقدمة والمتخلفة على حد السواء، عودة خطر الحروب بين الدول، واشتداد أزمة الديمقراطية الليبرالية، التي تعد لا ايديولوجية فقط للنظام الرأسمالي الغربي، بل أكثر من ذلك نمط حياتي ومجتمعي، اريد له أن يعم العالم بأسره.  

نحن في مرحلة كونية انتقالية، سمتها ستكون المزيد من “الأهوال”، وهو ما تفرضه “طقوس الانتقال الكبرى”، بين “قديم يحتضر و جديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفي هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها”، مثلما سبق و ان بين الفيلسوف الايطالي، انطونيو غرامشي، في كتابه الشهير “كراسات/دفاتر السجن”.

نحن مقبلون على عالم جديد ، مختلف تماما على الذي عرفناه وألفناه ، خلال القرن الماضي وبداية القرن الحالي، جاري تسريع التحولات والتاريخ معاl’accélération de l’histoire ، ومثلما نعلم فان للمقدمات نتائج معلومة ، لا تخطؤها العين المجردة. ذاهبون نحو عالم يكرس التفاوت الطبقي و التكنولوجي بين الدول، وضع جديد قادم – في المدى القريب جدا يحدده الخبراء في اقل من 5 سنوات – و ربما وضع مستجد سيفرض على عدد من الدول الاختفاء تماما.  

ومن مظاهر سرعة نسق التحولات التي بدأت منذ سنوات – في غفلة منا – نذكر:

*** وباء الكوفيد 19، الذي أنهى كل اليقينيات التي كانت مسلمات لدينا ودخلت معه الانسانية طور “العيش مع اللايقين” وفق عبارة عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا “ادقار موران” EDGAR MORIN

 *** التحولات_المناخية، التي قد تجعل اقطارا وحتى قارات تواجه المجاعة وانعدام الأمن الغذائى.

*** الحروب، من الحرب الاوكرانية / الروسية الى حرب غزة إسرائيل، التي هي مرشحة للتمدد – تصاعد التوتر الذي انتقل الى مواجهة جزئية بين اسرائيل وايران-، في اقليم يعد أكبر بؤرة توتر في العالم، ونعني هنا منطقة الشرق الأوسط، الغنية بالثروات والصناديق السيادية المالية الضخمة.

كما هو معلوم، فانه من وظيفة الحروب كما عرفناها عبر تاريخ الانسانية، هو اعادة رسم الخرائط و فرض تسويات جيو بوليتيكية بقوة السلاح والتكنولوجيا ايضا، فالحروب تحرك التاريخ.

*** التحولات التكنولوجية، ودخول الانسانية طور مجتمع الشبكة ( الانترنت ) وهي اليوم تدشن مرحلة الذكاء الاصطناعي ، الذي سيفرض ادارة جديدة للعالم، ستكون موكولة للشركات الكبرى العابرة للحدود، و التي يقدر بعض الخبراء انها ستكون مقدمة لمراجعة مفاهيم اساسية مثل ” السيادة” و ” الدولة الوطنية ” l’Etat nation .

ما يشغلني: اين نحن “كأمة عربية” من هذه التحولات العميقة و المتسارعة ، التي اصبحت تداهمنا، ونحن نكتفي بالفرجة، في وضع العاجز – للأسف- ؟

العيش مع اللايقين

نحن نطرق ابواب عالم جديد، ليس كسابقيه ( قطيعة Repture )، مع بروز حالة من تصاعد الشرخ الحضاري العالمي fracture mondiale، مرافق بتحولات سريعة و مركبة: مناخية، اجتماعية / سياسية/ جيو بوليتيكية و تكنولوجية خاصة، ستغير – وبدأت فعلا – حياة الأفراد والمجتمعات وكذلك ادارة العالم.

والجديد واللافت، ان هذه التغييرات فضلا عن سرعتها، فهي ايضا تتسم بالفجئية، فالتغيير سنة الله في الكون، والمجتمعات – كما الطبيعة – تأبى السكون و الثبوت، لذلك تعرف هزات بشكل مستمر ومتواتر، وقوتها تكمن في حيويتها وقدرتها على مواجهة الصدمات.

ان التحولات الجارية، خاصة في المشهد الجيو بوليتيكي الكوني، والتي كما اشرنا ذات نسق سريع، وتتسم بالفجئية، فهي كالزلزال و البراكين. اصبح من الصعب التنبأ بها، ومعارفنا النظرية ومفاهيمنا وبراديغماتنا، اصبحت عاجزة عن إدراكها والمسك بمساراتها، وعلى الإنسانية اليوم ان تعيش وتتعايش مع اللايقين.

القادم مخيف !

كما سبق و أن بينا وباستفاضة وشرح كبيرين، فان العالم من حولنا يشهد تحولات جذرية وعميقة سترسم عالم جديد، فوباء الكورونا الذي ادخل الانسانية في دوامة وكلفها خسائر بشرية واقتصادية تفوق ما حصل في الحربين الكونيتين، في طريقه نحو احداث قطيعة ابستيمولوجية مع العالم الذي سبقه.  

وأعني هنا تحديدا ” الانقلاب الرقمي” le coup d’état numérique ، الذي سيميز عالم ما بعد الكورونا، وستكون ضحية هذا ” الانقلاب العالمي” دول العالم الثالث وما تحت الثالث، واغلبها ينتمي لعالمنا العربي، و التي تراجعت خلال السنوات الاخيرة، ولن يكون بمقدورها – بوضعها الحالي-  القدرة لا على مسايرة نسق تطور العالم الجديد ولا على محاولة اللحاق به، وهذه حقيقية موضوعية لكنها مؤلمة.

هذا العالم الجديد، الذي هو في طور التشكل، وبدأت تبرز للعيان علاماته في الاقتصاد والتكنولوجيا و الحوكمة … ترافقه ايضا تحولات جيو بوليتيكية جارية وبسرعة، سترسم هي ايضا نظام اقليمي وعالمي جديد، وللأسف مرة اخرى، نجد ان الكثير من عالمنا العربي سيكون على هامشه، والكثير من دوله لا مكان لها في ما هو بصدد التخطيط له، وهي المثقلة بهمومها وازماتها المركبة والمعقدة ، وهي التي لا تملك تصور للمستقبل، دول معطلة و مجتمعات منهكة و منقسمة على نفسها.  

تجري هذه التحولات بسرعة فارقة، ستكون معها الكثير من الدول غير قادرة على مسايرتها والتكيف معها .. القادم سيكون مخيفا.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP