الجديد

كورونا واستعاراتها    

                                                                                  

شعبان العبيدي                                                                                             

لا شكّ أنّ كلّ مرحلة فاصلة تمرّ بها البشرية تخلف فيها علامات وتوقيعات على المستوى الجنسي والعلمي والثقافي، وخصوصا على مستوى اللّغة. وطبيعيّ أن يظهر ذلك في المستوى الاستعاريّ الذي تحمله الخطابات والملفوظات السياسيّة والعلمية، نتيجة أثر السياق التّاريخي وتفاعله مع البنية الذهنية الدّلالية في الترميز.

فالاستعارة شكل فكري وليست ظاهرة لغوية تعبيرية وشعورية، ولا قطعة من قطع اللّغة في رقعة الشطرنج.

بل هي عملية ذهنية، يمكن تبينها على مستوى تفسير حركيتها ونموّها وتوالدها مثل نوع من السلالات المجازية تطورت باستخدامها مع مرور الوقت مثل تطور نمو الجنين. وقد يؤدّي هذا التعرّف على ديناميتها إلى تقليل انزعاجنا من التغيير الدّلالي المحرج مرّة واحدة، عندما يتحوّل معنى ما من صورته الفضائية أو الثقافية إلى دلالة جديدة.

في حين تموت الاستعارة الأولى وتدخل إلى مدارج المعجم ومعانيه القياسية. وهذا في حدّ ذاته دلالة على ما تتمتّع به الاستعارة من كشف لعملية الإدراك، وتجدّدها بتجدّد سياقات تفاعل الذهن مع العناصر الحوارية للوجود عند كلّ أمّة، والعلاقات بين الأمم التي تنكشف عبر اللّغات وأفعال الكلام والخطابات وأكثر من ذلك عبر الاستعارات الحاوية لمنطق القيم والأفكار والمواقف.

من هنا يمكننا أن نعتبر الاستعارة وسيلة مشروعة للإدراك، ومسألة دلالية وإعادة ترتيب لأثاث الوعي، تعلب دورا مهما في مفهمة جملة من تصوّراتنا ومواقفنا ورؤيتنا للعالم والآخر في ظلّ هذا الوضع الوبائي الصّادم، مثلما تلعب دورا في تحديد هذه الظاهرة الطّبيعية عبر الاستعارات العلمية أو المفهومية.

تتمثّل الاستعارة الأولى في استعارة علمية أطلقت على هذا الفريوس كوفيد2 وهي “الفيروس التاجي” الذي فاجأ العالم وغزاه، وأثار جدلا كبيرا بين الأطباء وعلماء الفيروس من جهة وبين السياسيين من جهة ثانية.

ومن هنا كان التعامل معه في الخطابات العلمية والسياسية والصحفية والأدبية تعاملا استعاريا محمّلا بمواقف وانفعالات ومخاوف. إذ ذهب العلماء إلى إطلاق استعارة الفيروس التاجي عليه، باعتباره يمثل فصيلة من الأوبئة الجديدة.

وقامت هذه الاستعارة على إسقاط صورة سياسيّة “التاج الملكي «محمّلة بدلالات السّلطة والمناعة والقوّة في صورة التّاج المرصّع بالذهب والجواهر من ناحية شكله الخارجي ودائريته النصفية على محور آخر طبيعيّ هو الشّكل الخارجي للفيروس اللاّمرئي ونتوءاته الّتي ترصّعه، في ذلك الطوق الذي يحيطه ويمنحه مناعة وسلطة وقوّة.

بشكل أظهر العلم في مستوييه علم الوبئة وعلم الطبّ عدم النّجاعة، وظلّ هؤلاء يلاحقونه لمعرفة تكوينه والقضاء عليه، ولكنّه إلى اليوم يكشف بضحاياه حقائق جديدة تظهر غلبته. وتؤّكد من جديد أنّ زيف تنبؤ خبراء الصحّة بالانتصار النهائي على الأوبئة والأمراض المعدية مع نهاية القرن العشرين. فلا يجدون من حلّ إلاّ الالتجاء إلى التّدابير الوقائية.

أمّا على مستوى الخطاب السياسيّ فقد أظهرت شبكات التواصل الاجتماعي في بداية انتشار الفيروس صورة ملوّنة بالأسود كعلامة تصاحبها استعارتان فضائيتان” الفيروس الصيني” و”فيروس ووهان”. وكوّنت العلامة البصرية استعادة قائمة على التشبيه لتسمية وباء الكوليرا “الموت الأسود” مع الاستعارة المكانية التي تحدّد الفيروس بمنبته الجغرافي معينا للخطاب السياسي للرئيس “ترمب” والمسؤولين في اليابان وآسيا لاتّهام الصّين واعتبارها بؤرة للوباء معادية للإنسانية، ومصدّرا للموت والهمجية والبربرية والتوحّش من خلال ثقافتها الغذائية.

ولعلّ صعود أصوات خبراء علم الأوبئة المناصرين لدعوى المؤامرة تدعّم هذا العداء، وتفتح على حقيقة الصّراع العالمي والهويّات وتنامي النّزعات القوميّة، الّتي وجدت لها في هذا الوباء حججا لتغذية العداء السياسي القديم بين قطبي العالم والعداء الاقتصادي تحت مبرّرات ثقافية وعلميّة و أنثروبولوجية.

تظهر في السياقات الفلسفية والأدبية استعارات أخرى للتعامل مع هذا الوباء، منها “استعارة الغيستابو” الّتي استعملها “جاك أنالي”، وهي استعارة تمثيلية شعرية أسقط فيها صورة الطيف اللاّمرئيّ المخاتل على صورة الفيروس غير المرئيّ، حتّى يجسّد من خلالها شدّته التدميرية وما يثيره من خوف وهلع كما تثيره الأطياف الشريرة في المعتقدات القديمة.

وهو عند الفيلسوف الفرنسي “ميشال أنفري” عدوّ يخطر غاضبا وساخرا من الإنسان الحديث وترسانته وسياسته في التّعامل معه، ويراه علامة على تحوّل يعقب هذه الحرب غير المتكافئة على المستويات الجيوسياسية، وإعلانا على نهاية الرّأسمالية أو بداية العودة إلى الشيوعية عند “جيجيك”. وترتبط هذه المخاوف والمشاعر الإنسانية والأحلام في ظهور نظام سياسيّ قائم على الرعاية والسياسة الحيوية المهتمّة بالإنسان باستعارة الحرب سواء هي حرب ضدّ الوباء أو حرب بين الأنا والآخر المختلف اقتصاديا وسياسيّا وثقافيا. وتحيل هذه الاستعارة البنيوية على استراتيجيات المقاومة والتّدابير التي اتّخذتها الدّول في الوقاية بمختلف أنواعها من تباعد اجتماعي وحجر صحيّ             و إعلان حالات الطوارئ و عزلة، ليست في واقع الأمر جديدة بل هي تدابير قديمة تاريخيّة التجأ لها الإنسان في الوقاية من مختلف الأوبئة.

وهي تحيل كذلك على حرب أخرى بين الخطاب العلميّ الرّسميّ وبين الخطاب التأمري الذي يقوده حسب” ألكسندر المعطي” في كتابه “الاختلاف: المواقف، العقائد، الأيديولوجيات” لعلماء من خارج الدائرة الأكاديمية مثل ” لوك مونتنييه” المتحصّل على جائزة نوبل عام 2008 و غيره الذين يرغبون في الاستفادة من وسائل الإعلام لاستعادة مواقعهم أو خدمة مواقف أيديولوجية وانتخابية، وغالبا ما توجّه هذه القراءات التآمرية للعلم إلى التّشكيك في العلم بل ” أصبحت المؤامؤة سلاحا سياسيا حقيقيا يستخدمه بعض النّاس لأغراض تجارية أو انتخابيّة” .

نجد جملة من الاستعارات في الخطاب الفلسفي والأدبي مثل الفيروس الجدلي والغريب والمسافر لبناء معاني الخوف والرّهاب والاضطراب الذي أحدثه الفيروس في إنسان العصر. فعبرها يحدّد الانسان عالمه الدّاخلي المضطرب وعلاقته بالعدوّ الخارجي اللاّمرئي اعتمادا على آليات الإسقاط والمشابهة.

هي استعارات بنيوية يُبنين من خلالها الفرد عالمه ومواقفه ومشاعره، ويحمّلها دلالات الخوف والرّهاب والاضطراب والهلع وهو منسحب من ميدان المعركة، تنوب عنه في القتال جموع الجيش الأبيض وأجهزة السلطة الرّقابية. وهكذا تكشف لنا مقولة هذه الاستعارات من ناحية ثانية رهبتنا من الموت وتجبرنا على تغيير سلوكنا وحياتنا. مثلما تصاحب استعارة الحرب عملية دلالية سيكون لها أثر في السياسات البعدية للوباء حين تغيرت الترسانة العسكرية المعتمدة في الحروب التقليدية إلى ترسانة علاجية طبيّة ووقائية صحيّة.

وربما تدعونا إلى استعادة مفهوم “الشرطة الطبيّة” التي ظهرت في فرنسا سنة 1822 لمواجهة الطاعون. وكشفت كذلك على منطق جديد قديم عند “فوكو” هو إقصاء المصابين والموتى بهذا الفيروس حتّى عن إيجاد مثوى في المقابر الرسميّة. وكيف ينظر إلى الموتى باعتبارهم ملوّثات ويتم حرقهم              أو منعهم من التمتع بحق الدفن وأنّه ليس لهم الحق في جنازة حقيقية، وبهذا يتمّ محو إخواننا من البشر، وهو ما سيؤثر على العلاقات الإنسانية في المستقبل، بعد مرحلة فُقدت فيها كل الأبعاد الاجتماعية وكل رحمة وعاطفة.

فقد كسر هذا الفيروس أنساق القيم والسلوكيات التي يتمّ اتباعها سواء داخل الجماعة        أو بين الجماعات، حتّى الدين تهاوى واكتشفنا موت الإله وموت القيم والإنسانية، أمام الخوف من التلوّث الطّقسي. وهو ما ردّ عليه “روكو رونشي” بمقال حمل عنوانه استعارة “مجتمع المتخلّفين”. في حين عبّرت جملة من الاستعارات الأخرى مثل” بيرا كورونا” مع “ديفيا دزيفيدي” و”شاج موهان” على الاستجابة الكبيرة عند الإنسان للحجر والعزلة والسّجن، وهي تدابير استئنائية تتخذها السّلطة السياسيّة في مواجهة الوباء. تجسيدا لهشاشة الإنسان المعاصر وطواعيته. في حين يذهب “روكو رونشي” في مقال بعنوان “فضائل الفيروس” معتمدا استعارة قيمية إلى أنّ هذا الفيروس التّاجيّ أصبح نوعا من الاستعارة المعممّة والحامل الرّمزي للحالة البشرية في مرحلة ما بعد الحداثة بقوله ” إنّ ما حدث قبل أربعين عاما مع فيروس نقص المناعة يعيد نفسه اليوم)

وفي الردّ على “أغامبن” ذهب كل من “ديفيا دويفيدي” و “شاج موهان” في مقال” مجتمع المتخلفين” إلى استعمال استعارة “بيرا كورونا” كوسيلة لبيان استجابات الإنسان للحجر والتدابير الاستثنائية من جهة، وما يعبّر به عن نظريات المؤامرة الّتي حوّلت هذا الوباء لنشر خطابات عنصرية ضدّ الشعب الصيني، وأكّدت ضياع قيمة الإنسان أمام إكسير آلهة التقنية.

وهي استعارة بقدر ما تؤدّي دلالة سلبية على الموت والمعاناة تدفعنا إلى التّساؤل عن معنى التّوفير والحياة أمام هذا الموت الزّاحف. مثلما يشير “روكو رونشي” إلى أنه من فضائل فيروس كورونا أنّه أصبح نوعا من الاستعارة المعممّة تقريبا والرّاسب الرّمزي للحالة البشرية في فترة ما بعد الحداثة. (إن ما حدث قبل أربعين عاما مع فيروس نقص المناعة يعيد نفسه اليوم) فهي استعارة تحمل عنده في وجهها الخفي صور “الاستثناء” في التدابير السياسيّة التي حوّلت هذا الفيروس إلى رمز للشعبوية والسيادية استعادة للاّهوت السياسيّ في ق20 . مثلما تشير هذه الاستعارة إلى أنّ حالتنا البشرية التي نسيناها من أنّنا بشر محدودون وناقصون، فهذا الفيروس هنا لتذكيرنا بنقصنا وإنسانيتنا التي هجرناها، وهذا الفيروس من فضائله أنّه صدمة لتقييم سياساتنا. و أمّا ما اتّصل بالفيروس من معاني العزلة و السجن والرقابة فهي مرتبطة كذلك بالسياسة والسلطة.

إن غلبة استعارة الحرب على الخطاب الكوروني السياسي والطبيّ أمر مفهوم عند “أغامبن” لأنّها فعلا هي حرب ضدّ عدوّ غير مرئي قادر على الاستكانة في أيّ إنسان، وهي حرب أكثر عبثية لأنّها من جهة ثانية حرب أهلية  بما أن العدو داخلنا وليس خارجنا، وليس الحاضر ما يقلق فقط بل تداعياته في المستقبل.

مثلما اعتبر”فردريك كيك” أن اسم المرض “سارس كوفيد 2” يثير في حدّ ذاته القلق ويبعث تشويشا نفسيا لما يثره الاسم الأول من ذكريات مؤلمة لتجنب استخدام “متلازمة هونغ كونغ”. في حين يعتمد “إدقار موران” استعارة الفيروس التطهيري ليلتقي مع “روكو رونشي” في  يالوظيفة التطهيرية لأسلوب حياتنا            و تعليمنا أهمية المسار المشترك الإنساني والتّضامن الدّولي ويخلصنا من الأنانية والانغلاق الأناني للدوّل ويحملنا مستقبلا على تغيير نموذج التنمية كما جاء على لسان الرئيس الفرنسي “الانغلاق القومي” بدل الأوروبي.

كما يوجّه البشرية إلى البحث عن مسارات جديدة تعزّز الخدمات العامة. وهذا ما عناه “روكو رونشي” في مقاله “فضائل الفيروس” كوفيد 2 الشبيه بالسّعال الووهاني، الذي يجعل من الضروري تطبيق الذّكاء البراغماتي السياسي لقائد السفينة وهو الحاكم ليمتلك فضيلة القيادة والتحكّم، ويعيد ترتيب أسبقياته التي تركتها السياسة التقليدية جانبا، فبعد “ووهان” لا يمكن وضع جدول الأعمال إلاّ من خلال السياسة التي يجب أن تبحر عبر البحار العاصفة لعدوى لا يمكن وقفها، مثلما يشير إلى أنّ الفيروس يدعونا من جهة ثانية إلى التأمل: تأمل هشاشتنا القيمية و السياسية و العلمية و فهما جديدا للحرية التي نراها تتجسد في الجهود التي يبذلها الناس بجدية وتفان ويعمل بها آلاف الأشخاص يوميا لإبطاء انتشار الفيروس.

مثلما يحيل” جون لوك نانسي” في مقال له بعنوان” الفيروسات البشرية” عبر آلية المشابهة عن اضطرابات السّاسة في أوروبا والولايات المتحدّة  وغيرها من بلدان العالم في التعامل مع هذا الوباء حتى يعودوا أخيرا إلى تمثل شعار “اهرب بنفسك” في مقابل شعار آخر للردّ على المتحاملين “أرني ماذا صنعت أنت لمقاومة هذا الوباء” تدليلا على ما أوصلتنا له سياستنا الليبرالية و أخذنا بحياة العقل، وما هذا الفيروس إلا نتاج للعولمة وهو عابر مع التجارة الحرّة نشيط وفعال ومقاتل أمام تراجع الثقافة وتركها المكانة للرّبح والمال والجشع وهو ما يطرح مشكل نموذج التنمية الاقتصادية،

فقد كشف الوباء أنّ التمكّن التقني والسياسي لن يحوّل العالم إلاّ إلى ميدان قوى متوترة ومتأزمة ضدّ بعضها البعض تمّ تجريدها من العناصر الحضارية التي دخلت حيز التنفيذ سابقا. وها هي الوحشية المعدية للفيروس تنتشر كوحشية إدارية وسياسية وقومية بما فيها من ظلم اقتصادي واجتماعي يعمق تناقضاتنا. وها هو الموت الذي قام الغرب بتصديره بالحرب والمجاعات والدّمار يعود إلينا ويجعلنا في شبه قارات فيروسية. و إذا كانت فضيلة هذا الوباء متمثّلة في إبراز أهميّة العامل السياسيّ وأسبقيته ليس السياسة الخادعة الّتي تنذر بصعود الفاشية الجديدة التي قيل إنّ هذا الوباء سيسحب من تحت رموزها (ترمب- جونسون- سالفيني – أردوغان) ولكنّ الخطر هو من الدّاخل، منّا فينا.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP