محمد القوماني يكتب عن "سيناريوهات ما بعد اضراب 17 جانفي 2019 .. حكومة الشاهد في مأزق"
تونس- التونسيون
بالاتفاق مع كاتب المقال، القيادي في حركة “النهضة” الأستاذ محمد القوماني، نعيد نشر مقاله الأسبوعي، الذي نشر في جريدة “الرأي العام” ( العدد92 ، تونس في 24 جانفي2019)، والذي تطرق فيه الى سيناريوهات المشهد التونسي ما بعد اضراب 17 جانفي 2019، الاضراب العام في قطاعي الوظيفة العمومية والقطاع الخاص، الذي نفذه الاتحاد العام التونسي للشغل، على خلفية فشل المفاوضات مع الحكومة، حول ملف الوظيفة العمومية.
في ما يلي نص المقال:
ما كان للإضراب العام في الوظيفة العمومية والقطاع العام أن يحصل يوم 17 جانفي 2019ن وقد كان الفشل في منعه خسارة للبلاد ولجميع الأطراف ومؤشّرا على دخول مرحلة صعبة، في معركة اتحاد الشغل مع حكومة الشاهد. وبعد القرار التصعيدي للهيئة الإدارية بالإضراب مجدّدا يومي 20 و21 فيفري القادم وبيانها الحادّ، كيف تلوح مختلف سيناريوهات المعركة المفتوحة بين منظمة الشغّالين والحكومة، في ضوء تعقّد أزمة التعليم بالإعدادي والثانوي واتساعها، بعد دخول التلاميذ على خطّ الإضرابات والاحتجاجات، وبوادر أزمة بالابتدائي والعالي، وتنامي الاحتقان الاجتماعي واستمرار الأزمة السياسية؟
بين إضرابي 1978 و 2019: تونس ما بعد الثورة أفضل
بعد التخويف من تكرار سيناريو الخميس الأسود والتداعيات الخطيرة لإضراب 26 جانفي 1978، تمّ تنفيذ إضراب 17 جانفي 2019 وما رافقه من تجمعات ومسيرات احتجاحية بالعاصمة ومختلف الولايات، وتأكّد الجميع أنّ الوضع مختلف وأنّنّأنّأأ تونس ما بعد الثورة أفضل. فقد نجح الاتحاد في تأطير الإضراب وبقية الفعاليات، وكان للقوات الحاملة للسلاح دور مميّز في حماية التحرّكات من المتربّصين من المنحرفين أو غيرهم من أصحاب أجندات الإرباك. وقد حيّ الاتحاد وأطراف حزبية وإعلامية الدور المميّز للأمن الجمهوري.
ولعلّ الحقيقة التي يتعمّد البعض إغفالها في خطاباتهم، رغم وضوحها في المقارنة بين إضرابي 1978 و2019، هي أنّ تونس تغيّرت إيجابيا بعد الثورة. وأنّ الحريات والحقوق وسلطة القانون التي جاء بها دستور الثورة مكسب لا يُستهان به. فأعمال القتل والعنف والتخريب في الأمس، لم يكن وراءها الاتّحاد الذي استمرّ في الاضطلاع بأدواره التاريخية، بل كان وراءها نظام الحكم الاستبدادي البائد، وميليشيات الحزب الدستوري الحاكم المنحلّ، وتجاوزات القوات المسلّحة المنفلة من القانون والخادمة للحاكم قبل الشعب والدولة.
ولئن رأى البعض في ما حفّ بإضراب 17 جانفي 2019، عنوان نجاح للديمقراطية ومؤشرا إضافيا على تقدّم تونس إيجابيا، فإنّ هذا المؤشر لا يجب أن يكون الشجرة التي تخفي الغابة. فقد نجح الاتحاد في شلّ البلاد إلى حدّ بعيد، وكان يوم التعطيل يوما حزينا، إذ ممارسة الإضراب حقّ دستوري وأداة نضالية بيد النقابات بلا مزايدات، لكنها تضلّ أبغض الحلال كما وصفها بوعلي المباركي، القيادي بالاتحاد العام التونسي للشغل.
ومن جهة أخرى، فإنّ بعض الأطراف في الحكومة أو من المساندين لها، الذين أبدوا بعض الاستخفاف بقرار الإضراب، لم يجتهدوا بما فيه الكفاية لمنع تنفيذه، ولم يحسنوا تقدير كلفته المادية وتداعياته السلبية الاقتصادية على صورة تونس وعلى الاستثمار وعلى تعقيد المفاوضات وتوتير العلاقات ورفع منسوب الاحتقان الاجتماعي، وعليهم أن ينتبهوا أكثر إلى مختلف سيناريوهات المعركة بعد قرار الإضراب للمرّة الثالثة بنسق تصاعدي.
تداعيات سلبية لسيناريو الاتّقاق
يبدو السيناريو المحبّذ بعد استئناف المفاوضات، هو التوصّل إلى إمضاء اتفاق بين الحكومة ومنظمة الشغالين حول قضايا الخلاف وفي مقدمتها الزيادة في أجور أعوان الوظيفة العمومية، بما يلبّي الحدّ الأدنى الذي يقبل به الاتحاد، ولا يتجاوز الحدّ الأقصى الذي قد يسبّب إخلال الحكومة بتعهّداتها تجاه الجهات المالية المانحة، وقد يقطع مع صندوق النقد الدولي خاصّة. وإذا كان هذا ممكنا نظريا، فمن يتحمّل مسؤولية إضاعة الوقت والمال في تنفيذ الإضرابين السابقين؟
وفي هذا السيناريو أيضا تُطرح أسئلة عديدة محرجة للحكومة، حسب مسار المفاوضات السابقة. فهل تمارس الحكومة صيغا من “التحيّل” للخروج من ورطتها، خاصة في تأمين القسط الأكبر من مبلغ الزيادات، باعتماد المصادر الضريبية في تحسين الأجور، التي لم يقبل بها الاتحاد؟ وهي صيغة تذكّرنا بسياسة حكم بن علي، الذي توخّى خداع عموم التونسيين بالتخفيض في وزن الخبزة الواحدة أو حجم الغاز بالقارورة المنزلية، بدل الزيادة في سعرها على سبيل المثال.
وهل فشلت كل حلول الجكومة للحدّ من نسبة كتلة الأجور الضخمة في الميزانية، ولم يبق لها سوى رفض زيادة أجور الوظيفة العمومية، بعد إمضائها على زيادة في القطاع العام، فاجأت المفاوضين في سرعة إقرارها وفي نسبتها؟ وهل تنجح مناورات توقيت الإضرابات وعناوين الزيادات في إقناع الجهات العديدة المانحة، التي لا يقلّ الإخلال بالتعهّدات معها آثارا سلبية عن الإخلال بالتعهدات مع اتحاد الشغالين؟
لن يقبل الاتحاد بما وصلت إليه مفاوضات الجولة الأولى، وهو سيخرج منتصرا رمزيا مهما حقّق من تقدّم في الجولة الثانية. أمّا الحكومة فمهما التمسنا لها من أعذار موروث الجكومات التي سبقتها، ومهما كان اتفاقها مع الاتحاد، فإنّها ستكون في موضع الخضوع. ولا شيء سيغطي عن ضعف فريقها التفاوضي. وستجد نفسها في مواجهة تداعيات سلبية على ميزانية 2019، وفي استمرار مصاعب توازنات المالية العمومية، وفي حرج المؤسسات المالية الدولية.
سيناريوهات التأزيم أو الصدام
ليس المأزق الحالي وليد المفاوضات الأخيرة. فقد أساءت الحكومة الحالية وسابقاتها إدارة ملف الوظيفة العمومية والعلاقة باتحاد الشغل. ويبدو سيناريو استجابة الحكومة لطلبات الاتحاد كاملة، مؤشرا على إنهاء العلاقة مع صندوق النقد الدولي، الذي لجأت إليه تونس في وقت سابق ولازالت تحتاجه لمواجهة مصاعبها الاقتصادية. وكلّ أزمة مع الصندوق سترتدّ سلبيا على العلاقة ببقية المانحين وبصعوبات الاقتراض مستقبلا، وبمزيد تدهور الدينار وارتفاع الأسعار وصعوبات دفع الأجور، وربما إعلان حالة إفلاس أصلا. و هذا السيناريو ليس له من نهاية سوى اضطراب الأوضاع واضطرار الحكومة إلى الاستقالة مُكرهة.
والسيناريو المقابل، وهو رفض مطالب الاتحاد المجحفة في نظر الحكومة، سيسبّب تصعيد الشغّالين لوتيرة الإضرابات كمّا ونوعا، حتى شلّ المصالح الحيوية والزحف على العاصمة من مختلف الولايات، واضطراب الأوضاع الأمنية، والتحام المحتجين بالمجرمين والفوضويّين، وخروج الأوضاع عن السيطرة، بما يفضي لنفس النتيجة السالفة. وقد تكون معركة كسر العظام بين جامعة التعليم الثانوي ووزير التربية رأس حربة في هذا الاتجاه.
وفي الحالتين الأخيرتين، يخسر الشاهد وجميع مكونات الائتلاف الحاكم، وخاصة حركة النهضة، باعتبارها الداعم الأساسي للحكومة، التي لم يخف خطاب الطبوبي يوم 17 جانفي وبيان الهيئة الإدارية للاتحاد ليوم 19 جانفي، مهاجمتها في أكثر من موضع. فضلا عن الخسارة السياسية في تعثّر خيار الاستقار الحكومي. ومن جهة أخرى يخسر الاتحاد ومنظوريه أيضا، إذا تأزّمت الأوضاع ودخلت البلاد مرحلة تصبح فيها مطالب زيادات الأجور ثانوية. وتبقى الخسارة الأكبر في تداعيات كلّ ذلك على مستقبل تجربة الانتقال الديمقراطي والاستحقاف الانتخابي لنهاية 2019 المهدّد أصلا.
وسيناريو رابع غير مُستبعد
غير بعيد عن السيناريوهين الأخيرين، يبدو اعتذار الحكومة عن الاستجابة لمطالب الاتحاد والإخلال بالتزاماتها المالية، وتقديم استقالتها طوعيّا، سيناريوها رابعا قريبا منهما في النتيجة النهائية، لكنه يبقى مختلفا فيما يفتحه من آفاق وما يؤدي إليه من خلط للأوراق.
فابتعاد الشاهد عن رئاسة الحكومة طوعيّا، برفض الخضوع للاتحاد او التسبّب في أزمة مالية للبلاد، يعطيه دفعا سياسيا ذاتيا للتفرّغ لمشروع حزبه الجديد المزمع إعلانه، وخوض معركة العودة إلى السلطة في رئاسة الحكومة او الدولة، من خلال بوابة الانتخابات وتنافس الخيارات. كما قد يعيد هذا السيناريو ترتيب المشهد السياسي وينهي الأزمة السياسية في عنوانها البارز، ويعطي أفقا يساعد على تسوية اجتماعية وسياسية تفتح طريق الاستحقاق الانتخابي نهاية العام بأقلّ التكاليف.
ختاما
في كلّ السيناريوهات سالفة الذكر تبدو الحكومة في مأزق غير خاف. ومهما أكّد الاتحاد عن الطابع الاجتماعي المطلبي لأجندته وتحركاته، فإنّ أجندة السياسية المتعاظمة، في مواجهة حكومة الشاهد ولعب أدوار متقدّمة في الحكم، والتي يتقاطع فيها مع أكثر من طرف، لا يمكن نفيها. ولن ينفصل الحلّ الاجتماعي عن الحلّ السياسي.
Comments