ملف التنظيم السري لحركة النهضة، ما قبل وما بعد؟؟
المنصف عاشور *
لقد سبق وان نبهنا، ان البلاد دخلت منذ فترة ليست بالوجيزة مرحلة التقلبات والتغيرات المفاجئة، والاحداث المتسارعة، وهو ما أصبح يؤثر على العلاقات بين الاطراف السياسية وموازين القوى بينها، ويفرز تحالفات وتحالفات مضادة في كثير من الأحيان غير مبدئية وغير طبيعية، وغير مستقرة طالما انها غير قائمة على المبادئ والبرامج المشتركة. وقد أكدت الأحداث التي عشناها الأسبوع المنقضي هذه السمة الرئيسيّة في المشهد الحزبي والسياسي ويبدو ان البلاد قادمة على تحولات عميقة، كلما اقتربنا من المواعيد الانتخابية في 2019.
مشهد الوضع العام بالبلاد، تبرز بعض ملامحه و عناوينه من خلال افتتاح السنة البرلمانية الجديدة، خارطة جديدة في واقع المجموعات البرلمانية، وبروز تكتلات جديدة في علاقة بالموقف من الحكومة، وبإعادة تشكل المشهد الحزبي، بعد ما عرفه من انقسام وتشتت واستقالات، وبالخصوص انحلال حزب حركة نداء تونس وتفاقم أزمته.
بالرغم من أهمية وخطورة الرهانات القانونية التي تنتظر نواب الشعب للاستكمال بناء المؤسسات المستقلة الداعمة لمسار الانتقال الديمقراطي ولقضايا التنمية بشكل عام، فإن الواقع الهيكلي والسياسي لأغلب الكتل النيابية، باستثناء كتلة حركة النهضة، لا يبعث على الارتياح ولا يخلو من هشاشة وتشرذم.
مشهد سياسي متحرك
لعل ما يؤكد مخاوفنا من انخرام التوازن لفائدة حركة النهضة، ما برز عشية انطلاق الْيَوْمَ الافتتاحي للسنة البرلمانية الجديدة ، من استحالة تمرير قانون يتعلق ببعث هيئة وطنية مستقلة في مجال حقوق الانسان، نظرا لعدم توفر النصاب القانوني في غياب النواب. وكذلك ما لاحظناه في الأيام البرلمانية التي نظمتها كل من كتلة نداء تونس والكتلة الجديدة (كتلة الائتلاف الوطني)، من صعوبات في التعبئة وضعف في الانضباط، والذي لم يتجاوز فيها الحضور نصف مجموع كل كتلة على حدة. وهو ما يكشف ويفسر ربما الخلفية الحقيقية لتردد رئيس الحكومة للتقدم للبرلمان، للظفر بتجديد الثقة لحكومته رغم الدعاية المكثفة والانتصارية للمتعاطفين معه، وادعاءاتهم المتواصلة بحصولهم على ما يفوق 109 نائب داعم للاستقرار الحكومي.
تزامنا مع البداية المتعثرة للحياة البرلمانية في سنتها الاخيرة من العهدة النيابية، تبدو الحياة السياسية هي بدورها مفتوحة على كل السيناريوهات. ويصعب التكهن بآفاق تطورها واستشراف ملامح الاتجاهات المستقبلية، ويتصدرها معطيين أساسيين، أولهما ما جاء في الحديث التلفزي الأخير للرئيس الباجي قايد السبسي، وإعلانه نهاية التوافق مع حركة النهضة، ودخول مرحلة القطيعة بين الشيخين. وثانيهما الندوة الصحفية التي نظمتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي، والذي لا نبالغ ان قلنا إنهما ساهما في خلق مناخ إعلامي وسياسي، وطنيا وخاصة دوليا، أحرج بشكل كبير قادة حركة النهضة. وعلى عكس الأزمات الماضية لم تفلح الى حد الساعة في الرد على الاتهامات الموجهة ضدها وخاصة فيما يتعلق باحتفاظهم بجهاز سري له علاقة بالجهات الأمنية والعسكرية والتنظيمات الإرهابية والشبكات الدولية. حدثين شدا اليهما انتباه الأوساط الدبلوماسية والإعلامية، التي اعتبرت أن هذا الحدثان قد يشكلان منعرجا جديدا في الحياة السياسية ببلادنا.
تحديات الانتقال الديمقراطي
بناء على ما سبق من المفروض العمل على رسم ملامح المستقبل بوضوح عبر إرساء عقد أخلاقي ومعنوي وسياسي للمرحلة القادمة.
فِي هذا الإطار اعتقد ان التقييم الجدي والنقدي والمسؤول يقودنا الى الاستنتاجات الجوهرية التالية:
1/ اعتبار السمة الرئيسيّة والتحدي الأول للانتقال الديمقراطي الْيَوْمَ في تونس يتمثل في انخرام التوازن الحزبي والسياسي بين حركة النهضة من جهة وباقي القوى السياسية من جهة أخرى.
2/ الإقرار بأن قوة حركة النهضة يعود بالأساس إلى تشتت وانقسام جزء هام من حساسيات ومجموعات وشخصيات ممثلة لشرائح هامة من الطبقة الوسطى.
3/ اعتبار الخلاف مع حركة النهضة يقوم على عنصرين أساسيين يتمثل الاول في عدم قطعهم مع الاسلام السياسي والتيارات الأصولية المتطرفة والعنيفة وسعيهم الى تغيير نمط عيش التونسيات والتونسيين وضرب مكتسبات دولة الاستقلال العصرية. في حين يتمثل العنصر الثاني الذي لا يقل أهمية في انعدام التجربة لديهم في إدارة شؤون الدولة والبلاد وفقدانهم للكفاءات المؤهلة لذلك.
4/ اعلان القطيعة النهائية مع خيار التوافق تحت أية تعلة كانت والذي اثبتت التجربة فشله وآثاره الوخيمة على الصعيدين المجتمعي والاقتصادي نتيجة تواصل خطر الاٍرهاب وتنامي الجماعات المتطرفة والسلوكيات المتخلفة وتقهقر المكتسبات العصرية من جهة، والعجز على الاستجابة لحاجيات التونسيين والتونسيات في العيش الكريم وتحسين نوعية الحياة من جهة اخرى. وهو ما يستوجب القطع مع خيار الشراكة في الحكم وما سمي بالتوافق في إدارة شؤون البلاد والالتزام بنهج الحكم عَلى قاعدة تحالف أوسع قوى مدنية ووسطية عصرية على أساس برنامج أدنى اقتصادي واجتماعي مشترك وان تعذر ذلك التزام موقع المعارضة للائتلاف التي تقوده حركة النهضة.
5/ التأكيد على ان الالتزام بخيار عدم إشراك حركة النهضة في إدارة شؤون البلاد أو عدم قبول المشاركة معها لا يعني بالمرة الدعوة الى استئصالها من المشهد الحزبي وسيكون التعامل معها على أساس الصراع حول البرامج والسياسات وكذلك حول الخيارات التربوية والثقافية وموقع تونس في الساحة الإقليمية والدولية. كل ذلك طالما التزمت بمدنية الدولة والفصل بين المجال الخاص والمجال العام.
وفِي الأخير نعتقد أن من بين أهم الرهانات التي من المرتقب أن تدور حولها الحملة الانتخابية لسنة 2019، تلك المتعلقة بالقضايا الاجتماعية. ولكن كذلك قضايا الأمن والحوكمة ومكافحة الفساد و الانتهازية السياسية دون تغييب كامل للمسائل المجتمعية والفردية، ليبقى الفيصل القدرة على استقطاب الناخبين على قاعدة قوة المقترحات ووجاهتها ونأمل أن يتشكل المشهد الانتخابي بتواجد قطبين رئيسيين يتكون الاول بالأساس من حركة النهضة مع بعض الحساسيات المتحالفة معها في حين يتشكل الثاني من التنظيمات التي نجحت في اعادة بناء نفسها بدأً بنداء تونس وكل المبادرات المتفرعة أو القريبة منه، دون إهمال الأطراف الاخرى التي قد تحدث المفاجأة في صورة وقوع اقتراع يعاقب فيه الناخب الائتلاف الحاكم.
وقد تنفس الصعداء جانب كبير من الطبقة السياسية وعدد من شركاء تونس بمجرد تأكيد رئيس الجمهورية عزمه وحرصه على تنظيم الانتخابات في آجالها مبددا كثيرا من المخاوف. وعلى أهمية هذا الالتزام من أعلى هرم السلطة، الذي يرجع له قرار دعوة الناخبين للقيام بواجبهم الانتخابي، فإننا نحذر من المقاربات الانتخابوية والتي تعطي أهمية مطلقة للجوانب القانونية والتنظيمية وإلى حد ما التقنية في تصورها للعملية الانتخابية وعادة ما تهمل الجوانب المتعلقة بالمناخ السياسي والإعلامي والمالي وبالمضامين وبالخصوص بمدى ضمان تكافئ الفرص والمجالات لمختلف الفاعلين السياسيين واحترام شفافية ونزاهة المسار الانتخابي وحيادية المرفق العام ومؤسسات الدولة. ودون مبالغة وبعيد عن كل تشكيك في مستقبل العملية الانتخابية فإننا ننبه الى المخاطر التي تحيط بها من الان والمتعلقة بالتجاذبات حول هيئة الانتخابات والمحكمة الدستورية التي بفعل ضغوطات الأحزاب والكبيرة منها بالخصوص قد تفقد جانبا مهما من مصداقيتها ويدفع بالكثيرين الى الريبة والتشكيك في نزاهة الانتخابات وعدم الاعتراف بنتائجها ويدفع بالبلاد نحو الاحتقان والازمات السياسية.
أسئلة الانتقال السياسي
ما يصح على الهيئات المستقلة يصح كذلك على أداء المؤسسات الإعلامية خاصة وأن وضعها الراهن يطرح أكثر من سؤال على خلفية علاقاتها وارتباطاتها بعالم المال والنفوذ والسياسة والأجندات الشخصية. وصرنا لا نجد صعوبة لتحديد الخط التحريري لعديد وسائل الاعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ووسائل التواصل الاجتماعي بمجرد التعرف عن الممولين ورجال الاعمال التي تقف وراءها. دون السقوط في التعميم ومع واجب التحية للمخلصين من رجال الاعلام الذين ثبتوا عن مبادئهم وقاوموا من اجل الحفاظ عن استقلاليتهم ورفضوا الاصطفاف وراء زيد أو عمر. ولابد من التذكير بان قيمة الحرية لا تتجزأ وهي مسالة مبدئية واخلاقية وشاملة لا تخضع لمبدأ الكيل بمكيالين كأن تكون صحفيا ناقدا شديد النقد الى حد التجريح والاساءة وعدم احترام ضيوفه باسم حرية التعبير والجرأة والظهور بمظهر المجامل وحتى المطلب لضيوف اخرين. وهنا يسقط قناع الجرأة وينكشف المستور …
ولسائل ان يسأل هل تتوفر اليوم لدى معشر القوى الوسطية والتقدمية إمكانيات التفوق وكسب المعركة الانتخابية القادمة؟ الجواب هو قطعا لا. ولكن هل هذا ممكن على المدى المتوسط والبعيد؟ الجواب هو قطعا نعم ولكن بشروط لا بد من ان تتحقق. لعل أهمها التخلص من الانحرافات التي سقطت فيها طيلة السنوات التي تلت جانفي 2011، والقطع مع داء الانقسامات و آفة التشرذم والزعامات المتورمةً، والخلط بينما هو أساسي وثانوي وبينما هو آجل وما هو عاجل، وتجاوز متاهات التوريث واعتماد الآليات الديمقراطية والتسيير الجماعي لفض خلافاتها، والتمكن من الاقتراب اكثر من الناس والإنصات لمشاغلهم والتعبير عن طموحاتهم، و ذلك للتصالح مع مناصريها واستعادة ثقتهم وزرع الأمل فيهم وبالتالي استرجاع لديهم نخوة المشاركة في الشأن العام والإيمان بأهمية دورهم في تغيير المعادلة السياسية.
المقاربة ليست بالضرورة حزبية ولا يمكن ان تكون عمودية وفوقية بل هي بالأساس مواطنية وتشاركية وتعتمد سياسة القرب والاتصال المباشر البورقيبية لضمان أوسع وفاق ممكن حول البرامج والمقترحات لتجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة.
- ناشط ومحلل سيايسي
Comments