ميزانية الدولة للعام 2020… تحديات مالية كبرى تنتظر تونس
كتب :عماد بن عبد الله السديري
جميعنا نتفق من حيث المبدأ أن تحويل أي برامج سياسية أو تصورات تنموية إلى واقع ملموس يستوجب توفر موارد مالية كافية. ومثلما يحدث في معظم دول العالم، فإن توفر هذه الموارد الكافية يبقى من التحديات الأهم التي قد تواجه أي فريق حكومي، وبخاصة في الدول التي تواجه صعوبات اقتصادية وتسعى في الآن ذاته إلى تحقيق معدلات نمو أفضل. ولعلنا في السياق التونسي على نحو خاص معنيون أكثر من أي وقت مضى بالاهتمام بالمسائل المالية والاقتصادية والتعمق في فهمها، بعد أن عشنا سنوات من التأزم التنموي غير المسبوق، وبعد كذلك أن انتهينا منذ أيام قليلة من انتخابات تشريعية ورئاسية حملت الكثير من الوعود وينتظر منها الشعب التونسي، وبخاصة فئة الشباب المحبط والغاضب، الكثير والكثير.
أبرز ملامح ميزانية العام 2020
بحسب ما كشفت عنه الحكومة التونسية، فإن حجم ميزانية الدولة للعام 2020 سيبلغ حوالي 47 مليار دولار تونسي، أي ما يعادل حوالي 16.5 مليار دولار أمريكي. وبحسب القانون التونسي، فإن يوم 15 أكتوبر من كل عام يمثّل آخر أجل لإحالة مشروع الميزانية على مجلس نواب الشعب. أما يوم 31 ديسمبر من كل عام فيمثّل آخر أجل لمصادقة مجلس نواب الشعب على الميزانية في نسختها النهائية.
والمطلع على الخطوط العريضة لمشروع ميزانية الدولة التونسية للعام 2020 يكتشف أنها تنطوي على عدد من المخاطر المالية الكبرى التي تعكس هشاشة الوضع التنموي في بلادنا وعجز الحكومات السابقة والنخب السياسية الحاكمة عن تجاوزه أو حتى البدء في طرح بدائل لتجاوزه.
ولعلّ أبرز ما يشدّ الانتباه في مشروع ميزانية العام 2020 أن كتلة الأجور الموجهة إلى الموظفين التونسيين ستبلغ حوالي 42% من ميزانية الدولة، أي حوالي 20 مليار دينار تونسي. ويعود ارتفاع كتلة الأجور في تونس إلى الالتزام الذي قطعته الحكومات السابقة بالانطلاق في تنفيذ الأقساط الجديدة للزيادات في الأجور في القطاع العام والوظيفة العمومية بداية من العام 2020 وذلك بناءً على اتفاقيات سابقة مع الاتحاد العام التونسي للشغل. ويعتبر ارتفاع كتلة الأجور في تونس خطرا حقيقيا يهدد توازن المالية العمومية ويحدّ من قدرة الحكومات القادمة على طرح بدائل تنموية جادة. بل إن تونس تعيش تناقضا غريبا وغير منطقي في حقيقة الأمر، إذ شهدت في السنوات الأخيرة توجهين متناقضين، تميّز الأوّل بتراجع حاد في معدلات الإنتاج نتيجة لسلسلة من الإضرابات والاحتجاجات الوطنية والجهوية والمحلية التي ألحقت الكثير من الأذى بإنتاجية الدولة التونسية وحجم الصادرات إلى الخارج وحتى قدرة بلادنا على استقطاب الاستثمارات الأجنبية. أما التوجّه الثاني فقد تميّز بارتفاع كتلة الأجور في تونس بشكل مستمر لتصل في العام 2020 إلى حوالي 20 مليار دينار تونسي، وهو مبلغ غير مسبوق في تاريخ المالية التونسية.
وبالإضافة إلى كتلة الأجور، ستجد الدولة نفسها مجبرة على تخصيص حوالي 12% من الميزانية لدعم بعض المواد الغذائية الأساسية والمحروقات والخدمات ذات الصلة بالنقل. ووفقا لهذه النسبة، فإن المبلغ الإجمالي الذي سيتم تخصيصه لمنظومة الدعم سيصل إلى حوالي 5.5 مليار دينار تونسي. بل إن هذا المبلغ مرشّح للارتفاع بشكل كبير في حال ارتفعت أسعار البترول في السوق العالمية. كما إن المطالب الاجتماعية المتزايدة لفئات واسعة من الشعب التونسي واستمرار ارتفاع نسبة التضخم ما بين 6% و7% سيزيد في الضغوطات على الحكومة التونسية لتزيد في حجم الموارد المالية الموجهة لمنظومة الدعم.
أما فيما يخص باب التداين الخارجي، فيبلغ حجم الديون الخارجية المستحقة في العام 2020 حوالي 12 مليار دينار تونسي، أي حوالي 25% من إجمالي ميزانية الدولة التونسية في العام 2020. وبحسب ما أعلنت عنه الحكومة التونسية، فإن بلادنا ستتوجه مجددا إلى بعض الجهات المالية الداخلية والدولية للحصول على قروض جديدة يصل حجمها إلى حوالي 12 مليار دينار تونسي لتمويل ميزانية العام 2020، منها 3 مليار دينار تونسي من السوق الداخلية و9 مليار دينار تونسي من السوق العالمية. وبفهم هذه المعطيات ببعض من الانتباه، يتبيّن أن الحكومة التونسية ستسعى عمليا إلى دفع ديونها الخارجية المستحقة من خلال التداين مرّة أخرى؛ وهو إجراء يؤكد العجز المحيّر الذي تعاني منه الطبقة الحاكمة في تونس، وبخاصة في قدرتها على استنباط حلول جديدة وبديلة لمواجهة الفشل الاقتصادي.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن حجم الديون الخارجية المتخلدة بذمة الدولة التونسية قد بلغت 34.6 مليار دولار أمريكي، أي حوالي 97 مليار دينار تونسي، بحسب آخر تقرير نشره البنك الدولي بشأن التداين الخارجي عبر العالم في شهر أكتوبر 2019. وباحتساب نسبة التداين الخارجي التي بلغت حوالي96% من الناتج المحلي الإجمالي (PIB)، يتبيّن أن الحكومة التونسية قد تجاوزت الخط الأحمر المسموح به فيما يخص معدلات التداين الخارجي التي أوصت بها دراسة صادرة عن البنك الدولي، إذ لا ينبغي أن تتجاوز نسبة التداين الخارجي 77% من حجم الناتج المحلي الإجمالي في دول مثل تونس (فئة الدول ذات الدخل الفردي المتوسط المنخفض.)
التبعات المتوقعة لميزانية العام 2020
بالإضافة إلى النفقات الخاصة بالأجور والدعم والتداين الخارجي، ستخصص الحكومة التونسية حوالي 13% من الميزانية، أي حوالي 6 مليار دينار تونسي، للمشاريع والمبادرات التنموية التي من المتوقع أن يتم تنفيذها في جميع جهات الجمهورية. أما فيما يخص باقي النفقات، فستخصص بلادنا ما نسبته 8% من الميزانية، أي حوالي 4 مليار دينار تونسي، لتوفير التمويل اللازم لتغطية أعمال ومستلزمات جميع الوزارات والمؤسسات التابعة للدولة، مثل دعم الصناديق الاجتماعية وتوفير الاعتمادات المالية الخاصة ببعض النفقات الطارئة.
وباحتساب حجم كلّ من كتلة الأجور والدعم والتداين الخارجي، يتبيّن أن الحكومة التونسية ستخصص عمليا حوالي 80% من الميزانية لأبواب ونفقات غير قابلة للتفاوض أو التراجع عنها، فأي إخلال بتلك الالتزامات سيؤدي آليا إلى تداعيات خطيرة إما على صورة البلاد في الخارج أو على الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي في تونس.
أولا، الاستمرار في الاعتماد على الخارج لتمويل جزء هام من الميزانية:
وفقا لما صرّح به السيد توفيق الراجحي الوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالإصلاحات الكبرى، فإن توفير التمويل الخارجي للميزانية يستوجب توفّر علاقة إيجابية ومستدامة مع صندوق النقد الدولي الذي يمنح قروضا ميسرة بنسبة فائدة لا تتجاوز 2 بالمائة. أما إذا فشلت الدبلوماسية التونسية في التفاوض مع صندوق النقد الدولي، فإن ذلك سيعرّض تمويل ميزانية الدولة خلال العام 2020 للخطر وسيدفع بلادنا إما إلى عدم احترام التزاماتها الدولية أو إلى التوجه إلى السوق المالية العالمية التي غالبا ما تمنح قروضا بنسب فائدة مرتفعة جدا. وعليه، فإن بلادنا ستجد نفسها مضطرة مرة أخرى إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي والقبول بشروطه إن أرادت أن تتجنّب بعض التداعيات السلبية داخليا وخارجيا.
ثانيا، استمرار أزمة المديونية في تونس:
بحسب الأرقام التي كشفت عنها الحكومة التونسية، ستبقى نسبة التداين الخارجي في بلادنا مرتفعة جدا. ورغم إن الديون التونسية ستنخفض بحوالي 3 مليار دينار تونسي مقارنة بالعام 2019، نتيجة للاقتراض الداخلي، إلا إنها لن تقلّ عن 33.5 مليار دولار أمريكي مع نهاية العام 2020، أي أكثر من 93% من حجم الناتج المحلي الإجمالي (PIB) للبلاد التونسية. وتعتبر هذه النسبة مرتفعة جدا وذات تأثيرات سلبية كثيرة على المشهد التنموي التونسي، حيث بيّنت بعض الدراسات ذات الصلة أن تجاوز دول مثل تونس نسبة التداين الخارجي بنقطة واحدة فوق نسبة 77% من الناتج المحلي الإجمالي (PIB) قد يؤدي إلى خسارة حوالي 1.7% من نسبة النمو الاقتصادي سنويا. وهو أمر تعيه الحكومة التونسية الحالية التي ترى أن تونس قادرة على تحقيق نسبة نمو تساوي 2% لا غير في العام 2020. أما بعض المؤسسات المالية والبحثية المتخصصة، فتتوقّع أن تونس لن تكون قادرة إلا على تحقيق نسبة نمو اقتصادي تساوي 1.9% لا غير.
ثالثا، التداين من أجل تغطية النفقات وليس التنمية الحقيقة:
ببعض من العمق في قراءة البيانات التي كشفت عنها الحكومة التونسية، يتبيّن أن بلادنا ستخصص 6 مليار دينار تونسي فقط للتنمية على مستوى وطني وجهوي ومحلي، في حين إنها تخطط للحصول على 9 مليار دينار تونسي في ذات العام من جهات مالية دولية لتمويل ميزانية العام 2020. وتكشف هذه البيانات عن حقيقة مؤلمة وخطيرة مفادها أن الشعب التونسي اليوم قد أصبح يتداين بشكل متزايد لتغطية بعض النفقات السنوية المتكرّرة مثل التأجير العمومي. كما تكشف هذه البيانات أن تونس لن تستفيد على المديين المتوسط والبعيد من هذه الديون المتراكمة بسبب عدم استثمارها في قطاعات منتجة أو ذات تنافسية عالية. بل إن تدني الميزانية المخصصة للتنمية في العام 2020 سيجعل من فرص تغيير المنوال التنموي أو البحث عن بدائل تنموية جادة في العام 2020 أمرا صعبا إلى حد ما، وهو ما ستكون له حتما تداعيات على المشهدين السياسي والاجتماعي في بلادنا، إن لم تستوعب جميع الأطراف الفاعلة خطورة الوضع المالي ومحدودية الفرص على أرض الواقع.
رابعا، استمرار انخفاض نسبة النموّ:
بحسب توقعات الحكومة التونسية ستبلغ نسبة النمو في العام 2020 حوالي 2%، وهي نسبة ضعيفة ستزيد من إمكانية سقوط بلادنا مجددا في أزمة سياسية واجتماعية حادة، خاصّة إن تعمدت بعض الأطراف تجاهل التحديات المالية والاقتصادية المشار إليها آنفا. في الواقع، لن تتمكّن الحكومة القادمة، بنسبة نمو تقدّر بـ2%، من الاستجابة لسقف التوقعات المرتفعة في بلادنا بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة. فالمؤشرات التنمويّة العامة لا تبشّر بأي تغيير جذري في المشهد التنموي التونسي خلال العام 2020. بل على خلاف ذلك، وبحسب توقعات صندوق النقد الدولي على موقعه الرسميّ، فإن الدخل الفردي للمواطن التونسي يُتوقّع أن يتراجع إلى حوالي 2950 دولار أمريكي في العام 2020، أي إلى مستوى أقل مما كان عليه الدخل الفردي للمواطن التونسي في العام 2005. كما إن هذه البيانات المالية تؤكد على عدم وجود فرص كافية في السنة القادمة للحد من معدلات الفقر والبطالة في البلاد. بل في أحسن الظروف قد تتمكّن تونس من الحفاظ على ذات النسب وتمنع تدهورها.
أي مستقبل لتونس إذن؟
أعتقد شخصيا أنه لا ينبغي أن يرفع الشعب التونسي من سقف توقعاته المالية والتنموية كثيرا خلال العام 2020. فالموارد المالية المتوفرة للدولة لن تسمح بإحداث نقلة ذات دلالة كبيرة في واقع الشعب التونسي خلال العام القادم. بل إني أرى أنه على الجهات الفاعلة في المشهدين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي في تونس أن يسعوا إلى ضمان استقرار بلادنا وحمايتها من أية انزلاقات ممكنة في العام 2020، في ظل توتر الأوضاع في الدول المجاورة وباقي دول الشرق الأوسط، وتنامي السياسات الحمائية على مستوى العالم، وما قد ينتج عنه من تراجع في النمو العالمي وبخاصة في الدول الأوروبية التي تمثّل الشريك الاقتصادي الأهم لتونس.
في المقابل يمكن للشعب التونسي، بما فيه من أحزاب ومنظمات وكفاءات وطاقات، أن يحوّل العام 2020 إلى ورشة عمل كبرى للتفكير في الواقع التونسي بعمق والبحث الجاد عن بدائل ناجعة وحلول ذكيّة ومجدية لتجاوز ما عاناه من إخفاق تنموي مؤلم ومذلّ أحيانا خلال الفترات السابقة. ورغم ضعف الميزانية المخصصة للتنمية، والمقدرة بـ6 مليار دينار تونسي، ومحدودية الميزانية المخصصة لباقي النفقات، والمقدرة بـ4 مليار دينار تونسي، إلا إن حسن التصرف في تلك الموارد المالية بذكاء شديد ووفقا لمقاربة إستراتيجية دقيقة وقائم على أسس علمية وبحثية صلبة قد يسهم في تهيئة الظروف الملائمة لتنطلق تونس في تحقيق نتائج تنموية باهرة في وقت قياسي. إلى جانب ذلك، فإن تخصيص حوالي 20 مليار دينار تونسي لرواتب الموظفين التونسيين يجب أن يقترن بالحث على العمل الجاد وتشجيع الابتكار والإنتاج وترسيخ مبادئ المساءلة والمحاسبة، وبخاصة في القطاعات الحكومية الخدمية التي شهدت في السنوات الأخيرة انفلاتا شاملا في التقيد بأنظمة العمل وأداء الواجب المناط بكل موظف على أحسن وجه.
وحتى لا تزداد الأوضاع التنموية سوءا في المرحلة القادمة، فإنه ينبغي كذلك على جميع الأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة أن تدرك جيدا أن الحفاظ على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي في بلادنا ينبغي أن يكون أولوية مطلقة إن كنا جادين في رغبتنا في طيّ صفحة التخبط والتخلف والانحطاط. أما أية محاولات، مهما كان مصدرها ومهما كانت وجاهتها، للدخول في صراعات اجتماعية أو سياسية عنيفة، فإنها ستلحق حتما الكثير من الأذى ببلادنا وقدرتها على تجاوزها مأزقها المالي والتنموي المتجذّر. وفي هذا السياق، من المهم على نحو خاص أن يدرك الاتحاد العام التونسي للشغل، وكذا الشباب التونسي العاطل عن العمل، أن أي مطالبات عنيفة بالزيادة في الأجور أو التشغيل المستعجل في الفترة القادمة ستدفع الحكومة التونسية آليا إلى اللجوء إلى مزيد من التداين الخارجي، وهو خيار خطير سيغرق البلاد في مشاكل إضافية وسيعمق الشعور بالإحباط على مستوى وطني واسع خلال العام 2020 والسنوات التي تليه. بل إن أية تحركات اجتماعية جديدة في العام 2020 لن تتسبب إلا في أضرار إضافية ستضعف الاقتصاد التونسي وتحد من قدرته على التعافي وترسّخ التبعية للخارج أكثر فأكثر.
في الأثناء تبقى أبواب الأمل مفتوحة على مصراعيها في تونس إن توفرت الأخلاق (الأخلاق) والمعارف والخبرات اللازمة. فبإمكان بلادنا أن تنجح في إصلاح بعض القطاعات الإستراتيجية وذات الأولوية بما يتوفر لديها من موارد مالية وبشرية إن صدقت القيادات الجديدة في وعودها وإن تجنبت الانغماس في بعض المهاترات السياسية والمعارك الإيديولوجية التي لطالما عانت منها الشعوب المتخلفة.
إن بلادنا تمتلك من الفرص والدعائم والموارد ما يؤهلها لإرساء منوال تنموي بديل تكون له القدرة الكافية على تحويل طموحات الشعب التونسي إلى واقع ملموس في وقت قياسي. فالفشل التنموي السابق لم ينتج عن ندرة في الموارد المالية أو البشرية أو عن غياب سند مجتمعي قوي أو إرادة شعبية صادقة، بل هو في الواقع الأمر نتاج مباشر لتخبط معرفي خطير في توجيه مطالب الشعب التونسي وتأطير طموحاته ورسم السياسات التنموية الملائمة وإيجاد بدائل ناجعة وحلول ذكية ومجدية لما واجهته بلادنا من تحديات متنوّعة.
Comments