هشام المشيشي .. ما نحتاجُهُ
المهدي عبد الجواد
كان ظهور رئيس الحكومة هشام المشيشي في حوار تلفزي مُطوّل محل ترقّب وانتظار، ليس من عموم المواطنين التونسيين فحسب، بل وخاصة من مختلف الفاعلين السياسيين والإعلاميين والمشتغلين بالشأن العام في تونس عموما. ظهور مرقوبٌ حتى يتعرّف الجميع على شخصية هشام المشيشي “الحاكم” وحتى يتمكن هو نفسه من كشف تصوراته وبرامجه ومشاريعه للحُكم، في ظل وضع تونسي مُتميّز بالتعقيد على كلّ الأصعدة.
ونعتقد أن هذا الظهور الإعلامي كان ناجحا. فقد كشف فيه رئيس الحكومة “الشاب” على شخصية مُلمّة بالملفات المختلفة، عارفا بمشاكل الإدارة مُدركا لأسباب تعثّر السياسات العمومية، وخاصة واعيا ومُتمثّلا لتحديات اللحظة وما تستوجبه من “جرأة” وشجاعة في تحرير المبادرة السياسية والإدارية لمقاومة البيروقراطية، والدفع بملكات الخلق والإبداع، في سياق يؤمن بالدولة المسؤولة و القوية والاجتماعية.
الوزير “العارف”
بدا السيد رئيس الحكومة “عارفا” بملفاته وبكلّ التحديات التي تُواجهها حكومته. فقد تحدّث بوضوح على إجراءات مواجهة جائحة الكورونا، مبينا أنه في حالة إنصات دائمة للجنة العلمية، وان دوره كرئيس حكومة يتمثّل في “ترجمة” النتائج والمستخلصات العلمية والطبية للخبراء الى إجراءات عملية.
وضح رئيس الحكومة ان الدولة تواصل دورها كــ “دولة راعية” تقوم بواجباتها في كنف الشفافية، وان كل الإجراءات يتم اتخاذها بالتشاور وان مصاريف الجائحة الاستثنائية تخضع للرقابة. كما ألح السيد الرئيس على دور القطاع الخاص التطوعي في معاضدة الجهود العمومية، وان للدولة كامل الصلاحيات في اتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة “المخابر” التي خرجت على الجهود وقامت بالتلاعب بأثمان الاختبارات او المصحات التي ترفض استقبال مرضى الكوفيد.
لقد اعترف هشام المشيشي بوضعية الصحة العمومية، بل بوضعية القطاع العمومي من جهة نقص الموارد المالية والبشرية وتآكل التجهيزات، وبقدر ما بدا فخورا بكونه مؤمنا بدور المرفق العمومي بدا حريصا على “الإصلاح” وعلى دفع الدولة للإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه المؤسسات العمومية وخلاص ديونها المتراكمة من جهة، وتحرير الإدارة من جهة ثانية والدفع نحو إجراءات استثنائية تقطع مع البيروقراطية والتردد من جهة ثالثة وخاصة تحويل الإدارة إلى قاطرة للتنمية و انجاز للسياسات العمومية.
اعترف المشيشي ايضا بالوضعية الصعبة للمالية العمومية، ولكنه كشف بطريقة مبسّطة أهداف حكومته نهاية سنة 2020، وخاصة في أفق سنة 2021، وبقدر ما بدت اللحظة صعبة، فإن التأكيد على مفهوم الدولة المسؤولة والمُلتزمة بواجباتها كان أمرا ضروريا ومُستحبّا في كلمة السيد الرئيس.
إداري… لكنه سياسي
اعترف المشيشي بكونه ليس “سياسيا” بالمعنى التقنوي للكلمة، من جهة الانتماء الحزبي او “السجن الإيديولوجي” وإن أكد على كونه مهتم بالسياسة من جهة كونها ” نشاط بشري” وخاصة لمن كان مثله ذا تكوين قانوني ومنتم للجهاز الإداري ترجمان السياسات العمومية. ورغم هذا الاعتراف بــ “الهواية” بدا المشيشي مُحترفا.
نجح الرجل في تبيان ” اختلافه” على السياسيين المُحترفين، الذين خبرهم التونسيون طيلة عشر سنوات وتكاد الثقة تكون منعدمة فيهم. نعم “سياسي ولكن ليس من بوابة الاحزاب والفشل والغنيمة”. سياسي من باب “خدم الادارة” وخدم البلاد، ومنه إلمامه بحاجيات الدولة وأولويات الحُكم وخاصة في توجيه رسائل سياسية مهمة لكافة مكونات الساحة السياسية والحزبية.
أولى الرسائل التي توجه بها رئيس الحكومة كانت للسيد رئيس الجمهورية، ففي لغة واضحة تليق بالمقام بيّن المشيشي طبيعة علاقته برئيس الجمهورية، وسدّ نوافذ كان الكثيرون يستثمرون فيها لإفساد طبيعة التوازن بين رأسي السلطة التنفيذية “على مستوى شخصي ثمة علاقة احترام ومودة متبادلة، وعلى مستوى سياسي ثمة دستور يضبط طبيعة العلاقة” بهذا المعنى حدّد هشام المشيشي مجالات الحركة وفضاءات المناورة وطبيعة العلاقة.
نحن في دولة مؤسسات والقانون/ الدستور هو الذي يُنظّم كل ذلك وما عداه مجرّد “تدوينات فايسبوك”.
كما توجه الرئيس الى الحزام البرلماني والسياسي، فأكد انه بقدر امتنانه لمن منح حكومته الثقة، فإنه ليس أسير ضغوطاته، وأنه وحكومته يتعاملان مع كلّ القوى السياسية والبرلمانية بنفس الطريقة، ,انه يستمع ويتشاور مع الجميع على قاعدة “خدمة الصالح العام”. وفي هذا الإطار كشف المشيشي كونه يعمل على ضبط علاقة شراكة حقيقية مع اتحاد الشغل تكون قائمة على تصوّر استراتيجي يُمكنه من ضبط “خطة طويلة الأمد” يعرف فيها الجانبان بطريقة واضحة واجباتهما وحقوقهما بشكل يسمح بصياغة “تعاقد اجتماعي جديد”.
لقد بدا رئيس الحكومة هادئا في كلمته، مُلمّا بملفاته وبحاجيات الدولة. ولكنه ظهر أيضا عارفا بما يحتاجه التونسيون. ولعل أكثر نقاط القوة في كلمته، هي تعهده بخلاص كل ديون الدولة تُجاه المستثمرين والمتعاقدين معها وتجاه المؤسسات العمومية التي تُقدّر بأكثر من أربعة ألاف مليون دينار وهو ما سيكون له دوره في إعادة بناء الثقة بين المستثمرين والدولة، ومن شانه تمكين المؤسسات العمومية من جرعة أكسجين للقيام بالإصلاحات وتجديد أساطيلها والوفاء بالتزاماتها تجاه مزوديها ودائنيها ومنظوريها.
كما أكد المشيشي على التزام حكومته بغلق كل الملفات العالقة كعمال الحضائر والأساتذة النواب وان حكومته ستقوم بتطبيق كل الاتفاقيات العالقة بالكامور وقفصة والقانون 38 المتعلق بمن طالت بطالتهم. وبين رئيس الحكومة نية حكومته العمل على تسهيل الإجراءات الجبائية لتحسين قدرات الاستخلاص الجبائي وخاصة نيته العمل على توفير حوافز حقيقية لإدماج القطاعات غير المهيكلة في القطاع المُنظّم مع الحرص على التحكم في الأسعار وفي مقاومة الأسواق الموازية ومكافحة التهرب والاحتكار. كما ان اشارة رئيس الحكومة الى الدور الذي قد تلعبه البنوك وخاصة البنك المركزي في تجاوز المرحلة مهم جدا.
في الجملة بدت كلمة رئيس الحكومة الأولى كلمة واعدة، يُمكن التوقف عندها باعتبارها بادرة نوايا، ستبدو بوضوح أثناء كلمة رئيس الحكومة في مجلس نواب الشعب عند عرض قانون الميزانية. كلمة يُفترض أيضا ان تكون دورية وبنفس الجرأة والوضوح بل وأكثر. فعملية الاتصال المباشر أمر مهم ليس لبناء الثقة بين الحكومة وعموم المواطنين فقط، بل هي ضرورية للدفع نحو “توحُّد” الجهود الوطنية العامة لمواجهة هذه المرحلة الصعبة. طبعا ثمّة من “اختصّ” في الاستثمار في “الوجيعة والنّديب” لن يُعجبه العجبُ.
ولكنا نحسب حوار السيد المشيشي بداية طيبة، قال فيها ما نحتاجهُ وبين فيه ما تحتاجه تونس، واستمعنا فيه للبعض مما نحتاجه، خطاب مُطمئن واثق ليس فيه شعبوية ولا وعود بل التزامات واضحة بــ “كون الوعود في المستقبل ستكون بحسب القدرة على الوفاء بها” حتى نبني الدولة المسؤولة، التي تُقدّم المثال على الإيمان بقيم الشفافية والقانون. كلمة يُمكن ان نغفر ما قد يكون بدا فيها من تعثّر اتصالي أو مضموني، وأن يمنح رئيس الحكومة بعض تسامح في المدّة القادمة، حتى يشرع في تنفيذ ما وعد به مع بداية انجاز قانون المالية القادم.
Comments