هل تشعل الشعبوية نار ثورة جديدة مدمّرة ؟
شعبان العبيدي
كنّا تابعنا المشهد السياسي الجديد الذي أفرزته الانتخابات التشريعية والرئاسيّة من خلال قراءة موضوعية في عديد المقالات حاولت رصد المخاوف والانتظارات، ومدى قدرة السلطة المتعدّدة الرؤوس على تحقيق هدف إنقاذ البلاد والخروج بها من دوامة الضعف والإنهاك والرضوخ إلى مرحلة استعادة عافيتها وقيامها بأدوارها الاجتماعية والاقتصادية والحمائية، لكنّ تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن.
فقد بدأت السنة السياسية الجديدة بفوضى عارمة في البرلمان وتصاعد الخطاب الشعبوي المردّد لشعار يلهب أفئدة الثورجية العمياء (الشعب يريد) وسقوط مدوّ لحكومة الرئيس بعد أن سقط القناع عن وجهها بتهمة تضارب المصالح. وكانت بدايات الانتشار لوباء كوفيد 19 ضربة أخرى أغرقت الدّولة في مزيد من الأزمات المالية والاجتماعية والاقتصادية. فازداد الوضع العامّ تأزما. وبقي النقاش الدّائر تحت قبّة البرلمان وفي وسائل الإعلام يستهلك في قضايا هامشية والمزايدات ومحاولات تصفية الحسابات الأيديولوجية الّتي وجدت لها قنوات وإذاعات “إعلاميون جواّلون” من المتاجرين بقضايا البلاد أبواق زعيق ونهيق لمواصلة برنامج الإثارة وشحن العدوات والوقوف ضدّ كلّ سعيّ إلى رأب الصدع السياسي والاجتماعي. وهو ما زاد من خلخلة وضع البلاد، ولم يستفد من هذا الفراغ إلاّ المهرّبون والإرهابيون والخارجون عن القانون وحزب الدّستوري الحر.
كانت طلعات رئيس الجمهورية وزياراته المفاجئة وخطاباته المنمّقة بلسان عربيّ فصيح وما يقدّمه للمجتمع و “أبناء الثورة” كما يقول ” حمادي الرديسي” ضربا من اليوتوبيا الاجتماعية التي تجمع بين الأفكار الشيوعيّة و أفكار الكنيسة المسيحية، حلما يتقاسمه مؤيّدوه من خلال إصراره على التمسّك برفع شعار الثورة (الشعب يريد)، في الوقت الذي تبقى رغبات الجمهور وشعاراته الهلامية التي لا يمكن تحقيقها إلاّ بتصوّر تنمويّ تتبنّاه الدّولة في شكل مخطّط مدروس يراعي الاختلال بين الجهات وسبل التنمية وطرق تمويلها، ولكنّ خطابات رئيس الجمهورية الزعيم الشعبوي غذّت لدى مريديه و لدى كلّ الذين فعل فيهم أفيون الزعيم المخلّص نزعة التمرّد على الدّولة والخروج عن القوانين وذلك بتحويل أشكال الاحتجاج السلمي إلى عمليات بلطجة و قطع للطرق واعتداء على مصادر الثروة والإنتاج، والدّولة لم تحرّك ساكنا.
بالإضافة إلى هذا التوجّه الذي ساعد على أن تنطلي حيلة الخلاص الأفلاطوني من الفساد والفقر والتهميش والانتقال إلى جمهورية الحقّ والشرعية والمشروعية والحكم المحلّي على جمهور في غالبيته مثقل طيلة عقود بالقهر مسكون بهاجس العدالة الاجتماعية المطلقة والمتعطّش لاستعادة شخصية الزعيم الفرد نظيف اليد أو حتّى الزعيم الديكتاتوري، وهو ما سمعناه ونسمعه من حنين لزمن النظام السابق. جاء رئيس الحكومة الجديد بعد الإطاحة بسلفه من ظلّ الإدارة والوزارة إلى قصر الحكومة بالقصبة. ووجد نفسه في مواجهة منذ البدء مع رئيس الجمهورية، وهو ما دفعه إلى البحث عن سبد وغطاء سياسي وجده في ائتلاف الكرامة والنهضة وقلب تونس.
لكن يبدو أنّ رئيس الحكومة وهو يسعى إلى تبني طريقة أخرى تمكّنه من كسب شرعيّة جماهيرية يفتقدها، قد أشعل نار الثورة من جديد عن غير وعي، وذلك من خلال الحوار الذي خاضه عن طريق وفد يمثل حكومته مع تنسيقية الكامور، والتي وإنّ كانت تعبّر عن مشاغل مشروعة لشباب من جهة من جهات البلاد، فإنّ الطّرق التي وقع اتّباعها في تحدّي القوانين و تكليف الدّولة خسارة بآلاف المليارات من خلال غلق مصفاة النفط غير مقبولة في ظلّ دولة لها مؤسّسات وفي ظل وجود مجتمع مدني ومنظّمات قادرة على خلق حوار وطني شامل حول قضايا التشغيل والتنمية-ويبدو أنّ فرح رئيس الحكومة بالحوار وما تمخّض عنه من اتّفاق بين الدّولة و بين دولة الكامور هو الفتيل الذي أشعل التحرّكات الجهوية اليوم من الكاف إلى صفاقس والصخيرة وقابس إلى القصرين و قفصة وفي انتظار إضرابات عامّة في باجة والقيروان وفي كلّ الجهات والولايات. وبدأت التحرّكات تتّبع النموذج الكاموريّ الذي بيّن لأبناء الجهات كيفية أخذ الدّولة وإرضاخها وأساليب جرّها إلى أن تجريّ حوارات واتّفاقات مع مختلف الجهات.
وهو ما يتطلّب من حكومة السيد المشيشي تكوين أكثر من وفد ومحاولة الإسراع في بعث لجان تفاوضية لإطفاء الحرائق واندلاع النّيران في مختلف مناطق البلاد، بعد التهديد والشروع فيه من طرف الثوار الجدد بالجهات في غلق كلّ منهم حسب جهته مضخّات النفط والغاز والماء والكهرباء، ومن منهم لا يجد من هذه المصادر ما يفاوض به سيلجأ إلى غلق الطرق والاعتداء على المواطنين.
لقد أشعل الخطاب الشعبوي المتمدّد النّار في البلاد من جديد، وهو المسؤول على ما يجري اليوم من اضطرابات وتهديد بغلق كلّ مصادر الطاقة والتزوّد والإنتاج شعورا من أبناء الجهات بحيف الدّولة وسفسطتها وخداعها. وبعد أن فقدوا كلّ أمل في شبح أحزاب سياسية التقت على مشروع وضع يدها على كرسي الحكم وتقاسمه والتغاضي عن الفساد وتوظيفه في معاركها وضمان بقائها، بل انكشف للجميع أنّ رموزها ورموز المنظمات وكلاهما يرفع شعارات الدّفاع عن الشغالين والفقراء والعاطلين هم مشاريع مستبدّين جدد ولكن بمظهر آخر.
فكيف سيواجه الرؤساء هذه الثورة التي اندلعت في الجهات في ظلّ التخبّط الذي تعيشه مؤسساتها أمام الوضع الوبائي والمعاناة الكبرى في مختلف المؤسسات الصحيّة والتربوية واهتراء البنية التحتية التي كشفتها الأمطار الأخيرة وجعلت منّا بلدا يموت شعبه بين ضربات الإرهاب والإجرام وبين غول البالوعات؟ بماذا سيواجه الرئيسان الممثلان للسلطة التنفيذية هذه الاحتجاجات، وهل يخرج رئيس الجمهورية عن صمته ليحفظ الأمن ويحمي مصادر الإنتاج؟ فها هي الجماهير الثائرة التي وعدها بتحقيق شعار (الشعب يريد) فكيف ومن أين وماذا يقدّم لهم، ألغة الأمن واحترام القانون وحماية الدّولة في ظلّ وضع وبائي مضطرب وتهديدات إرهابية أم يخرج معهم مساندا؟ وهل يملك رئيس الحكومة ما به يستجيب لطلبات الثائرين الجدد؟ ثمّ هل هي صدفة أن تندلع هذه التحرّكات جميعها في هذا التوقيت بالذّات وخاصّة بعد أن حقّق أبناء تنسيقية الكامور مطالبهم بعد اعتصام طويل، هل هي تحرّكات عفوية شعورا بالضيم والحيف أم أنّ الجمعيات والمنظمات والأحزاب السياسية الخفيّة العناوين هي التي تعدّ موقد قدر الثورة الجديدة؟
لا بدّ أن يدرك الجميع بما فيهم الثوار الجدد في الجهات أنّ العمد إلى تعطيل ما تبقى من رئة الإنتاج والتمرّد على كلّ الأجهزة والتهديد بقطع إمدادات الماء والغاز والكهرباء وربما الغذاء هو تعميق لمعاناة الشعب في واقع الأمر وإنهاكا للدّولة وتهديدا للأمن العام الذي سيقود لا محالة إلى تهديم بيتنا بأيدينا، وأنّ الاحتجاج والتعبير لا يكون بهذه الأساليب الكامورية وتكتيكات الجيش الأحمر.
Comments