وثيقة/ في ذكرى “الخميس الاسود 26 جانفي 1978”: إتحاد الشغل يُنعشُ الذاكرة .. الاتحاد .. دور وطني وسياسي مستمر ومتجدد
جمع و اعدا: المهدي عبد الجواد
على هامش إحياء الذكرى الرابعة والأربعين لما بات يُعرف بالخميس الاسود، انعقدت اليوم ندوة نقابية هامة حضرها شهود عيان على الاحداث، روى كل واحد منهم “قصته”. وقد تم تسجيل هذه الشهادات التي نعتقد انها ستكون مادة خصبة للدارسين والمؤرخين. وقد دارت مجمل التدخلات حول المحاور التالية:
-
44 سنة مرّت دون كشف المتسببين الحقيقيين عن الأحداث
-
مازلنا لا نعرف العدد الحقيقي للشهداء والضحايا..
-
أرشيف الاتحاد مازال مُصادرا وفي دهاليز الداخلية وآن الأوان لاسترجاعه واطلاع الرأي العام عليه…
-
معركة الاستقلالية مازالت راهنة على “السلطة” وعلى التيارات والاحزاب السياسية .
-
الاتحاد منظمة تأسست على قيمة “الوطنية” وستحافظ على ذلك..
-
كتابة الذاكرة الوطنية والنقابية والتعريف بتاريخ الاتحاد واحب وأمانة…
-
بناء تونس الجديدة الديمقراطية يمرّ عبر التصالح مع الذاكرة….
واخترنا اليوم شهادة حية للقيادي النقابي السابق عبد المجيد الصحراوي الذي يروي “للتونسيين” في هذه الشهادة المطوّلة تفاصيل الاحداث والمحاكمات…..
وللتونسيين عودة في سلسلة مقالات وشهادات على أهم تاريخ المنظمة وهي تستعد لمؤتمرها القادم…
-
مقدمة
ولد الاتحاد العام التونسي للشغل في خضم المعركة الوطنية ضد الاستعمار، وقدّم خيرة مناضليه، وفي مقدّمتهم مؤسسه الشهيد فرحات حشاد الذي استشهد دفاعا عن استقلال البلاد وحرية شعبها ومن أجل عزّة الوطن ولا شك أن استشهاده كان دافعا لتأجيج حماسة الوطنيين لتندلع الثورة التي أدت لاستقلال البلاد وبذلك فإن الزعيم الخالد خدم القضية حيا وميتا، وخلافا لما توقعه الكثيرون ولما راهن عليه الاستعمار فإن المسيرة النضالية لهذه المنظمة العتيدة لم تتوقف بعد نيل الاستقلال مثلما حصل للكثير من المنظمات النقابية بالأقطار العربية، بل انخرط الاتحاد العام التونسي للشغل بكل ثقله الاجتماعي ورصيده التاريخي المجيد في نضال شعبنا من أجل التقدم والحرية وقدم من أجل ذلك البرامج الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.
وقد واجه الاتحاد تصدى لسياسات الاحتواء والتدجين ومحاولات فرض خيارات تنمويّة لا تلبّي طموحات الشغالين وعموم شعبنا في بناء تنمية متوازنة وعادلة، وبفضل مواقفه الجريئة وتصديه لسياسات الحكم الفردي والحزب الواحد، استطاع الاتحاد العام التونسي للشغل أن يبرز على الساحة الوطنية كقوّة اجتماعية رائدة تعكس تطلّعات سائر الفئات الشعبية في الحرية والتقدم. وسرعان ما تحوّل إلى هدف لقوى القمع والتسلّط التي حاصرته بكل الوسائل في محاولة لتدجينه وإسكات صوته المناضل.
لذلك فلقد واجه الاتحاد بعد الاستقلال سلسلة من المحن والمصاعب وتحمّل مناضلوه السجون وشتى ألوان التعذيب والملاحقة، كما خاض في الستينات والسبعينات والثمانينات العديد من المواجهات دفاعا عن استقلاليته وحقّه في تمثيل الشغالين بمنآي عن كلّ أشكال الوصاية .
لقد كانت أزمات 65 و 78 و 85 عناوين تاريخية بارزة لهذه الملحمة التي خاضها النقابيون والشغالون من أجل الذود عن حرية العمل النقابي والدفاع عن حرمة منظمتهم والنضال من أجل تكريس حق الشغالين في التنمية العادلة وحق شعبنا في الحرية والديمقراطية.
ولقد بلغت هذه المعركة ذروتها في احداث 26 جانفي 1978 التي مثلت منعرجا تاريخيا حاسما في مسييرة منظمتنا، وسائر المنظمات الوطنية والنسائية والشبابية، وفتحت أمامها آفاقا أرحب لمواصلة نضالها من اجل ترسيخ حريتها وفرض كيانها المستقل وتعزيز مكانتها ودورها في النضال الاجتماعي والديمقراطي ببلادنا.
-
انخراطي في العمل النقابي
في ظل هذه المكاسب وفي ظل هذه الأرضية المستندة إلى تاريخ نضالي عريق والمرتكزة على واقع نضالي نشيط، انخرطت شخصيا في العمل النقابي وبدأته شابا في الوقت الذي عرف الاتحاد خلاله قفزة نضالية نوعية تمحورت حول تحقيق جملة من المطالب المادية والأدبية للعمال والاجتماعية.
وحتى السياسية لبقية الفئات أهمها مقاومة الاحتكار في القطاع الخاص ووضع حد لسوء التصرف في الأملاك العمومية والحد من ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للعمال والدفاع عن كرامتهم والدفاع عن استقلالية الاتحاد ورفع الوصاية عنه من طرف الحزب الحاكم وكلها مطالب ونضالات توجت باستقالة الأخ الحبيب عاشور من الديوان السياسي للحزب تجسيما لتوجهات تلك المرحلة ومقتضياتها.
في هذه الإطار لعب عمال الشركة التونسية لصنع السيارات «ستيا» التي كنت أنتمي إليها شانها شأن عمال عديد المؤسسات الأخرى والقطاعات كالتعليم الثانوي والأساسي والمعادن والنسيج دورا أساسيا في تفعيل العمل النقابي بالجهة وفي دفع بقية القطاعات للمساهمة في النضالات النقابية التي خاضها الاتحاد في جميع أنحاء البلاد.
وفي هذا الصدد لا زلت أتذكر تلك الأحداث المؤسفة التي جدّت بمدينة قصر هلال والتي انطلقت من مؤسسة SOGITEX للنسيج حيث توقف العمال للاحتجاج على سوء التصرف الحاصل بالمؤسسة الذي اكتسى بعد ذلك طابع الإضراب الشامل وردا على هذه الحركة النضالية التي كان بالإمكان معالجتها بطريقة أخرى هوجم العمال من طرف قوات النظام العام ووقعت اصطدامات عنيفة عمّت كافة المدينة ونتيجة لذلك نشأت الحركة التضامنية في عديد المؤسسات المجاورة في صيادة وبوحجر والمكنين وغيرها مما أدى إلى تدخّل الجيش واعتقال العديد من النقابيين والعمال وحصل ذلك في أوائل شهر أكتوبر 1977.
وفي نوفمبر 1977 اجتمعت الهيئة الإدارية الموسعة للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة وقررت الإضراب العام كامل يوم 9 نوفمبر 1977 احتجاجا على التهديدات بالقتل الموجهة ضد الأخ الحبيب عاشور وضد عدد من النقابيين في الجهة وبالفعل شنّ العمال بهذه الجهة إضرابهم العام يوم 9 نوفمبر 1977 احتجاجا على التهديد باغتيال الزعيم الحبيب عاشور.
وقد شمل إضراب 9 نوفمبر كل القطاعات وخرجت الجماهير العمالية في مسيرة كبيرة تجوب شوارع مدينة سوسة رافعين الصورة الكبرى للزعيم فرحات حشاد منددين بالإرهاب ومشددين على استقلالية الاتحاد وكرامة العمال. وقد انطلقت الواقعة بالمقهى العتيق بنزل القصر بسوسة مما خلّف ردود فعل كبيرة بإعلان عدد الإضرابات الاحتجاجية المماثلة في عديد القطاعات والجهات وقد سارعت السلط إلى تطويق الحادثة بالقبض على مطلق التهديد وإحالته على المحكمة حيث نال عبد اللّه المبروك الورداني المتهم بالتهديد بالاغتيال 4 أشهرا سجنا.
من جهة أخرى تمت العديد من الإيقافات في صفوف العمال بتهمة إحداث أضرار بالممتلكات أثناء المظاهرة التي انتهت بمحاكمة العديد منهم في 21 جوان 1978.
وفي منتصف نوفمبر 1977 انعقدت الهيئة الإدارية الوطنية وأصدرت نداء إلى السلط العليا بالبلاد وخاصة إلى رئيس الدولة آنذاك من أجل تدارك الوضع قبل فوات الأوان وقد قررت الهيئة الإدارية دعوة المجلس الوطني للانعقاد وإلى اتخاذ قرارات مصيرية إن لم تقع الاستجابة إلى نداء الاتحاد المتعلق بإخراج البلاد من الأزمة بصورة سلمية.
-
وقائع ما قبل الإضراب
لكن للأسف ما من أحد استمع إلى نداء الهيئة الإدارية، بل كان أهل السلطة منشغلين بقضية أخرى يتنازعون عليها فيما بينهم وهي قضية الخلافة وتسبب الموقف من الأزمة في شرخ بين السلطة الحاكمة فانقسمت إلى نصفين وظهر ذلك للعيان يوم 23 ديسمبر 1977 حيث اعفي الطاهر بلخوجة من مهامه كوزير للداخلية وتنصيب عبد الله فرحات كبديل له واستقال ستة وزراء دفعة واحدة من حكومة الهادي نويرة مما زاد في تأزيم الوضع داخل الفريق الحكومي وسيطرة الجناح المتصلب على كل الدواليب، وإعلانه صراحة نهج العنف في التعامل مع النقابيين.
وأكبر دليل على ذلك أنه في بيان خلال تقديم ميزانية الدولة لسنة 1978 كشفت الحكومة عن انتهاجها خيار التصلب والقوة أسلوبا لمعالجة الأوضاع ولا سيما الوضع الاجتماعي ثم توالت الأحداث متسارعة والأجواء متوترة وتولى محمد الصياح مدير الحزب توسيع وتطوير دور الميليشيا لتصبح قوة موازية لقوات الأمن مما تسبب في ارتفاع وتيرة العنف والملاحقات والمضايقات على المواطنين وخاصة منهم النقابيين إلى أن كان يوم 20 جانفي 1978 ذكرى تأسيس الاتحاد.
حيث انعقد بقاعة الاتحاد الجهوي بسوسة اجتماع عام كبير بإشراف الأخ خير الدين الصالحي عضو المكتب التنفيذي الوطني وافتتحه الأخ الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بسوسة الأخ الحبيب بن عاشور بحضور العديد من الإطارات النقابية المناضلة منهم على سبيل الذكر لا الحصر الأخوة علي بن صالح ومحسن الشاوش وعلى المحضي والمنصف قمر وحافظ قمعون ومنيرة جمال الدين ومحسن سهل،محمد بن عائشة ، والهادي عوف ، الذي تعرض لمحاولة قتل من طرف مليشيا الحزب الحاكم وغيرهم …
وقد تعرض مقر الاتحاد الجهوي في ذلك اليوم إلى هجوم عنيف من طرف عناصر الميليشيا المسلحة التابعة للحزب الحاكم آنذاك والتي أحدثت أضرارا بالمقر وبعديد المناضلين أذكر من بينهم النقابي بلقاسم بالحاج أحمد وسالم بوفريخة اللذين تعرضا لأضرار بدنية كبيرة وتتالت الهجومات المماثلة على مقرات الاتحاد بتوزر وتونس والقيروان وزغوان والقصرين… على مرأى ومسمع من أعوان الأمن بل بتشجيع وحماية منهم.
كما تم الاعتداء على مقر الاتحاد بالقيروان من طرف المليشيا بقيادة بعض المسؤولين من لجنةالتنسيق الحزبي حيث حطموا كل محتوياته كما تم الاعتداء على النقابيين المتواجدين داخل المقر فوجّه المكتب التنفيذي الوطني وفدا يتركّب من الأخوة الطيب البكوش ومصطفى الغربي إلى هناك. وتبعا لتقرير الوفد وبعد ان تم اعتقال عبد الرزاق غربال الكاتب العام للاتحاد الجهوي بصفاقس اجتمع المكتب التنفيذي الوطني واتخذ قرار الإضراب العام ليوم الخميس 26 جانفي 1978.
إنّ ما حصل من اعتداءات يوم 20 جانفي بسوسة في ذكرى التأسيس أدى بنا إلى المرابطة ليلا نهارا بدار الاتحاد الجهوي لحمايتها وحماية أنفسنا من عناصر الميليشيا لأننا أصبحنا مهددين في حياتنا وأذكر أن بعض هؤلاء قصدوا منازلنا للبحث عنا وهم مدججون بالسلاح. لقد بقينا مرابطين وعددنا يزيد عن المائتين في ظروف صعبة حتى الساعة منتصف الليل من يوم الخميس 26 جانفي في مقر الاتحاد الجهوي الذي كان محاصرا من طرف قوات الأمن والجيش بآلياتهم الثقيلة ثم تمت مخاطبتنا بواسطة مضخم الصوت ومطالبتنا بالاستسلام. وقد اقتيد النقابيون رافعين أيديهم تحت السلاح إلى مقرات البوليس التي لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن مقر الاتحاد الجهوي وكانوا يركلونهم ويضربونهم حتى وصولهم إلى تلك المخافر.
-
يوم الإضراب
وكما يعلم الجميع، فلقد جوبه الإضراب العام بالقمع والاعتقالات وسفك الدماء باستعمال كل الوسائل وتدخل الجيش وأعلنت حالة الطوارئ. وقد خلفت هذه الأحداث عشرات القتلى ومئات الجرحى وامتلأت السجون بآلاف من العمال والمناضلين النقابيين ومن الشباب العاطل عن العمل المنتمين إلى الأحياء الشعبية المهمشة هذا وقد لعبت عناصر الميليشيا التابعة للحزب الحاكم دورا أساسيا في التخريب والنهب بغية توريط الاتحاد وإطاراته النقابية وتحميلهم مسؤولية الخراب الحاصل.
في ذلك اليوم وقبل وقت قصير من إيقاف أعضاء المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل أصدر عدد من هؤلاء بيانا بإمضاء الأمين العام الحبيب عاشور جاء فيه توضيحات هامة عن الأحداث وعن الأعمال والتداعيات التي سبقتها وأعدت العدة لها، وقد جاء في هذا البيان بالخصوص: إنّ الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة الجماهيرية الحرة إذ تكبر تعاطف كافة الجماهير الشعبية معه يعلن أنه سيواصل النضال من أجل إقرار الحريات العامة والنقابية ومن أجل احترام دستور البلاد وقوانينها والمعاهدات الدولية من اجل احترام الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهي قيم إنسانية يمثل الاتحاد أول درع لها.
كما أنّ الاتحاد يعلن أمام الرأي العام التونسي والعالمي تمسكه بضرورة مواصلة الحوار الذي تتحمل الحكومة مسؤولية انقطاعه وضرورة إحلاله محل العنف والإرهاب حفاظا على مكاسب الشعب ووضعا لمصلحة البلاد فوق كل اعتبار. إن المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل يأسف شديد الأسف بكون رئيس الدولة لا يعرف واقع البلاد فيما يبدو إلا عن طريق وسائل الإعلام الرسمية التي لا تعطيه إلا صورة مزيفة عن واقع الشعب التونسي وحقيقة أوضاع البلاد إذ يأسف كذلك لعدم إبداء رئيس الدولة رغبته في سماع صوت الاتحاد والشغالين مقتصرا على نغمة واحدة غير مطابقة للواقع في حين أنه اتفق مع الأخ الأمين العام الحبيب عاشور على دعوته كلما عنت مشكلة هامة لمعالجتها في الإبان».ي الختام يشير البيان إلى المسؤولية الكبرى التي يتحملها رئيس الدولة أمام التاريخ ويدعوه أن يعمل على إعادة الحوار مكان العنف والإرهاب وأن يساهم في وضع الشعب التونسي على طريق التقدم والحرية والديمقراطية السياسية والاجتماعية.
علما أنه انعقد في 25 فيفري 1978 والبلاد في حالة طوارئ مؤتمر صوري وقع خلاله تنصيب قيادة موالية للسلطة السياسية وتحت إشراف الحزب الحاكم وعين التيجاني عبيد أمينا عاما للاتحاد. وتمت مقاطعة هذه الهياكل المنصبة من قبل النقابيين والعمال كما رفضتها المنظمات النقابية العالمية، والتف النقابيون في تونس حول هياكلهم وقيادتهم الشرعية بقيادة الزعيم الحبيب عاشور.
-
الايقاف والمحاكمات…شهادة حية
ذاق النقابيون شتى أنوع التعذيب في مقرات الشرطة واجبروا على توقيع محاضر بحث لم يدلوا بها وانتزعت اعترافاتهم تحت التعذيب وكلنا يعرف ما حصل للمناضل المرحوم حسين الكوكي الذي مات تحت التعذيب حسب شهادات الأطباء كشهادة الدكتور جغام . وتمّ اقتيادنا إلى السجن المدني بسوسة حيث بقينا عدّة أشهر في انتظار محاكمتنا وللعلم فقد كنت مع الأخوة المعتصمين لكن تمكنت من الإفلات من قبضة البوليس وبقيت في حالة فرار طيلة شهر وبعد إيقافي تم حبسي بزنزانة منفردة على ذمة منطقة الشرطة ثم تم نقلي إلى مستشفى فرحات حشاد حيث وجدت بعض النقابيين في حالة صحية متدهورة وذلك جراء التعذيب وظروف الإيقاف أذكر من بينهم المرحوم عمر بلعجوزة والمرحوم الصادق قديسة ثم تمت إعادتنا من جديد إلى مقر الحجز ومن ثم إلى السجن المدني بسوسة حيث تعرّضت للضرب إلى حد الإغماء من طرف المدعو عز الدين بالرابح مدير السجن أنذاك لا لشيء سوى لأن الحراس عثروا عندي على صحيفة الرأي وهو الأمر الذي حصل أيضا للأخ حافظ قمعون حيث تم التنكيل به.
وكردّ منّا على الادعاءات التي تعمّدت بعض وسائل الإعلام الرسمية نشرها والتي تفيد بأننا نتلقى معاملة عادية داخل السجن قمنا بتحرير مراسلة من داخل السجن بإمضاء 32 نقابيا من الموقوفين تفند ادعاءات وكالة الأنباء الرسمية بأننا نتلقى معاملة حسنة وتوضح للرأي العام حقيقة ما تعرضنا له من تعذيب وسوء معاملة داخل الزنزانات وقد قامت بنشرها جريدة الرأي أنذاك.ولم يقتصر الأمر على النقابيين الموقوفين، بل لاقت عائلاتنا شتى أنواع المضايقات والإهانات من طرف حراس السجن عند زيارتهم لنا في السجن ويتجسد ذلك في قطع الزيارات قبل نهاية وقتها وافتكاك «القفة» وقد عانوا كثيرا عندما تم نقلنا إلى السجن المدني 9 أفريل بتونس ولا ننسى الدور الكبير الذين لعبوه في الاتصال بوسائل الإعلام لإبلاغ أصواتنا وللتنسيق مع المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعديد الشخصيات الوطنية المتعاطفة مع الاتحاد العام التونسي للشغل مثل حسيب بن عمار وحمودة بن سلامة ورؤوف النجار والدالي الجازي وغيرهم
-
محاكمة سوسة…. الحقيقة لا تموت
لقد حوكمنا طيلة شهر أوت 1978 وكانت محاكمتنا علنية حضرها العشرات من المحامين المتطوعين والذين لعبوا دورا كبيرا ومشرفا أذكر منهم العميد منصور الشفي والأستاذة الناصر بن عامر والمرحوم فاضل الغدامسي والهاشمي بللونة وراضية النصراوي وعبادة الكافي وحامد بن رمضان ورؤوف بوكر والصحبي القروي ورؤوف النجار وعبد الوهاب الباهي والدالي الجازي وجمال الدين بيدة وعبد الستار بن موسى والهادي بوفارس والبشير خنتوش وتوفيق بودربالة والأزهر القروي الشابي وعبد الجليل بوراوي وخديجة المدني والدكتور جغام وغيرهم كما حضرها الصحافيون والمراقبون وقد لعبت الصحافة ومنها جريدة الصباح حيث كان يعمل الأخ محمد العروسي بن صالح والذي غطى وقائع المحكمة بأمانة كبيرة وتعرض هو وزميله عبد الحميد القصيبي إلى التهديد والملاحقة وكذلك جريدة الرأي وجريدة la démocratie دورا في إنارة الحقيقة للرأي العام أنذاك .
كما لا ننسى الدور الكبير الذي لعبته الصحافة العالمية والتضامن النقابي الدولي وخاصة النقابات الأوروبية والعربية والمغاربية والعالمية كالسيزل بقيادة أمينها العام أتو كريستن وقد ساهمت حملة التضامن الواسعة في الرفع من معنويات عائلاتنا كما غذت فينا روح الصمود حيث خضنا إضرابات عديدة عن الطعام لاقت تعاطف حتى المساجين العاديين بسجني سوسة وتونس العاصمة. وفي لحظات مؤثرة ويوم التصريح بالحكم في قضيتنا أعلنت فجأة هيئة المحكمة برئاسة القاضي الشيخ يوسف بن يوسف الجميع بأنها غير مؤهلة للحكم في هذه القضية وطالبت بإحالتها لمحكمة مختصة أي محكمة أمن الدولة حينها انطلقت الزغاريد والشعارات المنادية بحياة الاتحاد من طرف النقابيين الموقوفين وعائلاتهم.
كما أنشدنا نشيد الثورة الذي انطلق من أعماقنا وزاد من حماستنا. وإثر الجلسة مباشرة تم تطويق المحكمة بالكامل بفيالق عديدة من قوات البوليس بتشكيلات وأزياء مختلفة واقتادونا تحت حراسة مشددة إلى السجن المدني بسوسة حيث مكثنا بضعة أشهر وتم إخلاء سبيل عدد كبير منا ولم يبق إلاّ 12 نقابي من مجموع 101 تمت إحالتنا بعدها إلى سجن 9 أفريل بتونس العاصمة حيث تعرفت على الزعيم الحبيب عاشور مباشرة وأذكر أنه قال لي حرفيا: «الحمد لله لم نكن وحدنا في هذه المرة إن الشباب والرأي العام الوطني والدولي معنا خلافا لأزمة 1965 وستثبت الأيام براءتنا وسنعود قريبا إلى اتحادنا وسيحاكم المجرمون الحقيقيون يوما». كما تعرفت على الأخوين الصادق بسباس والحسين بن قدور في السجن المدني بتونس حيث كنا نتبادل الحديث حول آخر المستجدات عندما كنا نلتقي للحظات في الممر الذي يؤدي إلى مصحة السجن.
وبقينا في حالة إيقاف على ذمة دائرة الاتهام وكانت التهم الموجهة إلينا على درجة كبيرة من الخطورة أهمها : حمل المواطنين على مهاجمة بعضهم البعض بالسلاح وإثارة القتل والنهب والحرق بالتراب التونسي وتكوين عصابة مفسدين وغيرها من التهم التي لا أستحضرها وهي تهم تندرج ضمن الفصل 72 الذي تبلغ العقوبة فيه إلى حد الحكم بالإعدام والأشغال الشاقة مدى الحياة باعتبارها من الجنايات الخطيرة، لكن لم يتم إحالتنا إلى حدود الساعة على محكمة امن الدولة التي ألغيت فيما بعد وقد تم إطلاق سراحنا على مراحل دون محاكمة وذلك في سنة 1979.
إن محاكمة نقابيي سوسة سنة 1978 أبرزت المعنويات المرتفعة التي كنا نتمتع بها وبدل أن تكون المحاكمة ذات صبغة جنائية مثلما أرادات السلطة، حولنا تلك المحاكمة إلى محاكمة لأعداء الاتحاد الذين دبروا مؤامرة لإخضاعه وضرب استقلاليته. وقد شكلت محاكمة نقابيي سوسة منعرجا كبيرا في تعامل السلطة مع القيادات النقابية المعتقلة حيث لم تساير الأحكام الصادرة مطالب النيابة العامة التي طالبت بالإعدام كما كان لموقف النقابيين خلال المحاكمة أثره البالغ على الرأي العام الوطني وعلى معنويات بقية النقابيين الموقوفين.
لقد وقعت محاكمتنا كما هو الحال لنقابيي صفاقس وتونس العاصمة والقصرين والمهدية وبنزرت، وفي عديد الجهات ….بتهم خطيرة تصل فصولها إلى حد الحكم بالإعدام، وقد نال المرحوم الحبيب عاشور والمرحوم عبد الرزاق غربال عشر سنوات أشغال شاقة وأحكاما أخرى تراوحت بين الثماني سنوات والخمس سنوات على بقية أعضاء القيادة وكانت الأدلة المقدمة من قبل الإدعاء والتي لم تتجاوز بعض العصي ومسدس لعبة أطفال حججا إضافية لبراءتنا من التهم الموجة إلينا.
خاتمة
لقد انتصر الحق في هذه الأزمة وخرج الاتحاد أكثر قوة ووضوحا بعد أن تم إطلاق سراح كل النقابيين وعودة المطرودين واسترجاع القيادة الشرعية لمواقعها بالمنظمة الشغيلة عبر مؤتمر قفصة سنة 1981. غير أن الاتحاد عرف أزمة جديدة مع حلول سنة 1985 بعد أن تعرض للتدجين وضر استقلاليته ومحاولة تقسيم صفوفه، وقد تصدى النقابيون لهذه المؤامرة الجديدة وعرفنا مرة أخرى مرارة السجن والطرد والملاحقة وكان الزعيم الحبيب عاشور كعادته في مقدمة من دفع ثمن الصمود والدفاع عن الاتحاد وحريته حيث عاش ظروفا قاسية في سجنه سنة 1985 وللتاريخ أذكر أنني حوكمت مع جملة من رفاقي النقابيين منهم سليم مخلوف وبشير بوقديدة والناجي البكوش وعمار بكار لأننا احتفلنا كشرعيين بذكرى غرة ماي 1986 وقد سجنا أنذاك بسجن سوسة حيث التقينا بأخوة نقابيين من المهدية وصفاقس.
لكن وبعد التغيير الذي عرفته البلاد سنة 1987 غادر النقابيون السجون وأعيدوا إلى شغلهم لتفشل هذه المؤامرة كسابقتها على صخرة الحق والصمود النقابية. هذه خواطر أستحضرها وأتمنى أن لا أكون قد نسيت تفاصيل مهمة وأتمنى أن يستمر توثيق هذه التجارب لإثراء الذاكرة النقابية بمحطات مشرقة ومضيئة في تاريخ النضال النقابي في بلادنا. وإن كنت أنسى فإني لا أنسى دور المرأة النقابية كمنيرة جمال الدين المحضي وفوزية الترد وهذيلية القيسي ونورة بلخيرية وغيرهن اللاتي ساهمن في عديد النضالات وتعرضن للإيقاف والتنكيل. 7وأرجو أن يدلي الأحياء منا شهاداتهم كما اتمنى الترحم على كل الأخوة الذين فارقوا الحياة وخلفوا في قلوبنا جميعا اللوعة والحسرة لكن ذكراهم تبقى على مر السنين خالدة .
Comments