الجديد

خطّة ضم الضفة.. إسرائيل تؤجّل ولن تتراجع

محمد بشير ساسي

منذُ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 28 يناير/كانون الثاني 2020، عن “صفقة القرن” التي طال انتظارها في الشرق الأوسط وسوّق لها غاريد كوشنير صهره وكبير مستشاريه في البيت الأبيض على أنها فرصة السّلام الأخيرة للفلسطينيين، لم يتأخّر الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الردّ برفض الخطّة المقترحة، مؤكّدا أنه لا يمكن قبول دولة دون القدس، وأن خطة ترامب لن تمرّ وستذهب إلى مزبلة التاريخ..
قيل أنذاك أن السلطة الفلسطينية كانت مُدركة أكثر من أي وقت مضى أنها في حاجة لوضع استراتيجيات بديلة، فواصلت البحث عن رعاة جدد لعملية السّلام عوضا عن واشنطن لدعم مواقفها وخلق أسس جديدة للعلاقة مع إسرائيل، في ظل عدم جدية الجانب الأمريكي في إحراز تقدّم في المفاوضات وتحيّزه المُفرط لتل أبيب بعد الاعتراف بمدينة القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.
وفي أول اختبار إزاء الإعلان عن مخططات ضم منطقة الأغوار والمستوطنات بالضفة الغربية، فتح الرئيس أبو مازن وحكومته جبهة ضغط على إسرائيل، حيث أعلن تخليه عن جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين، الأميركية والإسرائيلية، بما في ذلك التفاهمات والتنسيق الأمني إلى جانب تلميح رئيس الوزراء الفلسطيني محمد شتية إلى إمكانية “سحب” الاعتراف بإسرائيل.
فالقراءة السياسية الجديدة للتهديد الإسرائيلي بضمّ مناطق من الضفة الغربية الذي كان مقررا في الأول يوليو/تموز 2020، تجاوزت ذلك الاعتقاد بأن الخطوة ليس سوى تكتيك يدور في فلك تفاهمات الائتلاف الحكومي الجديد الموقَّع في مايو/أيار 2020 ما بين حزب الليكود، بزعامة بنيامين نتنياهو، ومنافسه في الانتخابات السابقة حزب أزرق-أبيض بزعامة بيني غانتس لإنهاء حالة الجمود التي خيمت على المشهد السياسي في إسرائيل لأكثر من عام ونصف.. المسألة برأي العديد من الباحثين انعكاس لحالة التعنّت الواضح والإصرار على اختراق “المساحة المفخّخة” رغم موجة الانتقادات الواسعة والتداعيات السلبية لمثل هذه الخطوة المتهوّرة والتحذيرات العربية والدولية من تفجّر الوضع الميداني، لأن خطة ترامب للسّلام رسخت لنموذج إسرائيلي جديد لحلّ لا يتضمن أي مشاريع لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، وتهيّأ لإسرائيل المناخ لفرض مجموعة من الشروط التعجيزية على الفلسطينيين للقبول برقعة ترابية ستكون عبارة عن جزر منفصلة عن بعضها البعض على حوالي 70% من مساحة الضفة وفاقدة لأيّة سيطرة أمنية.
والواقع أن السواد الأعظم من المجتمع الدولي يعلم علم اليقين أن صفقة ترامب أُعدّت منذ البداية للتنفيذ وليست للتفاوض، فضم أجزاء من الضفة الغربية والمستوطنات إجراء شكلي على الأغلب ولن يغير من الواقع القانوني للأراضي الفلسطينية التي تعتبر محتلة ويحظر ضمها بموجب القانون الدولي، كما أعلن نيكولاي ملادينوف مبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام بالشرق الأوسط. وبالتالي فإن الهدف الإسرائيلي الأساسي من تحرّكاتها الحالية هو العمل على الإنهاء الفعلي لأي فرص مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو عام 1967.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف تقوم الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية على مبدأ “عكس الاتجاهات” كما يفسر ذلك محمود جرابعة الباحث بمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية في ألمانيا. لكن رغم تخلّي إسرائيل من الناحية العملية عن الاتفاقيات مع الفلسطينيين والتعمّد على وضع مسار عملية السلام في طريق مسدود من أجل إجبار الطّرف الفلسطيني على التأقلم وقبول الطرح الأمريكي – الإسرائيلي بشكل نهائي، فإن ذلك سيتسبب في كارثة جديدة كما يعتقدُ المختصون في منطقة مرشحة للإنفجار لكون تحرّك تل أبيب ضمن إطار “صفقة القرن” في طريقه إلى حسم القضايا المصيرية (مدينة القدس، والحدود، والمستوطنات، واللاجئين، والسيادة الأمنية) بصورة أحادية وخارج إطار المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين لكونه يحقّق المصالح الجيوسياسية والأمنية الإسرائيلية على حساب المطالب السياسية والاحتياجات الأمنية الفلسطينية.
فعلى أرض الواقع استغلت إسرائيل اتفاقيات أوسلو عامي 1993 و1995 التي قسمت بموجبها الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق إدارية وأمنية (مناطق أ، ب، ج)، لزيادة عدد المستوطنين بأكثر من ثلاثة أضعاف من 116 ألفًا إلى أكثر من 413 ألفًا عام 2017، وكذلك تعزيز إسرائيل سيطرتها على المستوطنات، بقضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية وذلك عن طريق بناء الجدار الأمني الذي عزل القرى والبلدات عن محيطها الفلسطيني وشق الطرق الالتفافية للربط ما بين المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية. كما سمح الاتفاق كذلك لإسرائيل بالسيطرة الأمنية الخارجية على جميع المناطق، بما في ذلك مناطق نفوذ السلطة؛
حيث يحق لها الدّخول لهذه المناطق في أي وقت وذلك لتنفيذ عمليات أمنية سواء كانت بهدف اعتقال أو اغتيال نشطاء التنظيمات الفلسطينية. ويعتقد مايكل جيه كوبلو مدير السياسات في منتدى السياسة الإسرائيلية في إحدى مقالاته بمجلة نيوزويك الأمريكية أن ضم الضفة الغربية مثالاً كلاسيكياً على المناورة التي تنطوي على مخاطر هائلة مع القليل من المكافآت. والحجة المؤيدة لضم الضفة الغربية هي التماس تحقيق انتصار قوي وعاطفي – وإنما رمزي في نهاية المطاف.
ومع ذلك، فإن إسرائيل ستخلق لنفسها بتنفيذه مجموعة من المشاكل الواقعية الملموسة التي ستقوض الفوائد المفترضة التي يمكن أن ينطوي عليها ضم الضفة الغربية. ويبدو أن الأصوات المعارضة حتى من الداخل الإسرائيلي لخطة الضمّ وصل صداها سريعا إلى مسامع الشريكين في الائتلاف الحكومي في إسرائيل، المتناغم مع الخطة الأميركية للسلام التي تدور في فلك غرور ينتاب كلاّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي وداعمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو وزير الذي أكّد على أن الخطوة الإسرائيلية المرتقبة هي قرار يعود لتل أبيب وحدها، وهي مواقف تتماشى كما يُجمع مراقبون مع نهج الولايات المتحدة المقوض لقرارات الأمم المتحدة،

وهو نهج التعالي و”الأحادية المدمرة” التي تتبناها إدارة ترامب في إشارة واضحة على أنّ ستظل تدعم حليفتها تل أبيب مهما فعلت، حتى وإن طرأتْ بعض التأخيرات على البدء في المشروع الاستيطاني الجديد التي يبدو أن نتنياهو استوعبها لغاية في نفس يعقوب.

فرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي أوهمه التباهي بصفقة السلام المزعومة بالتحرّك حرّا طليقا، بات يدرك اليوم أن الوضع الراهن ليس فرصة سانحة للمضي قدما في خطة الضم، وأن التكلفة لتلك الخطوة ستكون باهضة الثمن لكونها تقرّب إسرائيل من خيار مشؤوم على مستقبلها..

فالأوّل من تموز/ يوليو 2020، لم يعد ذلك التاريخ المقدس قابلا للتحقّق بعد تراجع نتنياهو عن ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية ومنطقة غور الأردن الاستراتيجية إلى “سيادة” الاحتلال، حيث تشير التقديرات إلى أنّ ضمّ الأراضي الفلسطينية سيجعل إسرائيل محل ازدراء من قبل العالم لكونها تقف على وشك تغيير تعريف حدودها كما اعترف بها المجتمع الدولي.

كما أَغفل نتنياهو بحسب تقرير لمجلة إيكونوميست البريطانية، مخاطر عديدة ستجرها خطة ضم الأراضي الفلسطينية، من ضمنها موقف جو بايدن المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية والمنافس القوي لترامب الرافض لخطة الضم الإسرائيلية من طرف واحد، وكذلك زملاؤه من الساسة الديمقراطيين الذين قد لا يدعمون حكومة إسرائيل في هذا الشأن، كذلك مواقف القادة الأوروبيين كما عبر عنه منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، عندما صرح بأن ضم الأراضي الفلسطينية ستكون له عواقب وخيمة على علاقات الاتحاد مع إسرائيل، بالاضافة إلى ردود أفعال بعض القادة والساسة العرب وفي مقدمتهم العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الذي حذّر من المساس بثوابت إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ذات السيادة والقابلة للحياة، على خطوط الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

وتضيف مجلة إيكونوميست البريطانية أنه حتى لو سارت عملية ضم تلك الأراضي بسلاسة، فإن هناك تكلفة أخرى لا يمكن إغفالها، وهي التي ستضع إسرائيل أمام خيارين: إما منح الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية الكاملة وهو ما قد يمكّنهم من التفوق على اليهود من حيث العدد وفي التصويت الانتخابي يوما ما، أو خيار تركهم في مناطق مغلقة بأقل قدر من الحقوق مما يجعل من إسرائيل “كيان” فصل عنصري. وبالتالي فإن عليها أن تجد مخرجا يجنبها هذين المصيرين وتلك معادلة صعبة على مدلّلة أمريكا.

▪︎محمد بشير ساسي – إعلامي تونسي

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP