الجديد

تونس ومتاهة الصناديق !

هشام الحاجي

لا تخفى على المحللين رمزية الدمية الروسية إذ تخفي الدمية الأكبر حجما داخلها عددا من الدمى الأخرى الأقل حجما. و غالبا ما يقع اللجوء للتشبيه بالدمية الروسية في حالات الحديث عن مشكلة تخفي أخرى أو ملف ينفتح على ملف آخر.

يبدو أن الوضع التونسي الذي يكاد يتحول إلى وضع لا مثيل يغري بالحديث عن حالة أخرى و هي ما يمكن اعتباره ” متاهة الصناديق “.

يمكن الانطلاق في الحديث عن هذه المتاهة من توقف العمل انطلاقا من اليوم بالاتفاقية المبرمة بين “الصندوق الوطني للتأمين على المرض ” و نقابة أطباء القطاع الخاص.

العلاقة الإشكالية بين هذا الصندوق و مسدي الخدمات من أطباء و صيادلة و توترها و تعطيل العمل بها في عدة مناسبات افقد ” الكنام ” دوره كملاذ يوفر للمواطن المريض الأمان و يسنده ماديا و بالتالي معنويا في رحلة مواجهة المرض التي غالبا ما تكون مكلفة و مؤلمة و جعله “متاهة ” يضيع المواطن في دروبها و عجزها المالي الذي يزداد تفاقما.

وليس وضع الصناديق الإجتماعية بأفضل حال ذلك أن ” الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ” و ” الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الإجتماعية ” قد دخلا في متاهة عجز يحتد يوما بعد يوم و يهدد بافلاسهما مع ما يعنيه ذلك من مواجهة ما لا يقل عن مليوني تونسي و تونسية لوضع غامض و لمخاطر التفقير و التهميش و مواجهة شيخوخة صعبة.

و هو ما لا ينسجم مع مساهماتهم المالية على امتداد عقود في ” الصندوقين” و ينسف مبادئ التضامن بين الأجيال و يخلق فجوة قيمية خطيرة.

لا يمكن الحديث عن متاهة الصناديق دون التوقف عند المتاهة الكبرى التي يتسبب فيها “الصندوق الإنتخابي ” .

فقد عاشت تونس قبل 14 جانفي 2011 وضعية ” الإنتخابات الموجهة ” و التي كانت النتائج معروفة فيها سلفا و هو ما افقد ” صندوق الاقتراع ” مكانته و أهميته و أفقد العملية الانتخابية بريقها و شعبيتها.

و إذا كانت الفترة التي أعقبت 14 جانفي 2011 قد شهدت إستعادة العملية الانتخابية بريقها و شعبيتها من خلال ما توفر لها من شفافية و آليات مراقبة فإن “نتائجها ” ابقتنا اسرى متاهة الصندوق الإنتخابي .

إذ ظل المال السياسي و توظيف النفوذ و توجيه الرأي العام من خلال الإعلام و عمليات سبر الآراء من العوامل التي تؤثر على الناخبين و تحدد اختياراتهم علاوة على أن محدودية الثقافة السياسية قد ساهمت في هيمنة النزعات الشعبوية.

و هو ما تجلى في الإنتخابات الأخيرة في إختيار مترشح في الإنتخابات الرئاسية لم يقدم برنامجا و اكتفى بشعار فضفاض قوامه ” الشعب يريد ” و هو ما جعل أداءه منذ أن دخل قصر قرطاج باهتا و اشكاليا إلى أبعد الحدود.

و تكفي متابعة أشغال مجلس نواب الشعب للتأكد أن الصندوق الإنتخابي اوقعنا في متاهة لا أفق للخروج منها إذ أفرز عددا كبيرا من النواب محدودي الثقافة و الوعي و لا هدف لهم إلا البحث عن الإثارة و العنف اللفظي و هو ما أفقد مجلس نواب الشعب الكثير من هالته المعنوية.

متاهة الصندوق الإنتخابي التونسي تتجلى في مفارقة لا مثيل لها تتمثل في أن الحزب الذي يحتل المرتبة الأولى في الإنتخابات التشريعية “يفر ” من مسؤولية الحكم و هو ما يجعل حزبا لم يتجاوز في الاستحقاقين الرئاسي و التشريعي عتبة الصفر بالمائة يتولى رئاسة الحكومة و يحصل على عدد من الحقائب فيها.

يحيلنا الحديث عن الصناديق إلى ما أدت إليه السياسات المتسرعة من إفلاس صندوق الأجيال القادمة و إلى ” متاهة صندوق التعويض “.ذلك أن هذا الصندوق هو من بين أسباب عجز الميزانية و هناك توجه لاصلاحه منذ عقود حتى يذهب الدعم لمن هم في حاجة فعلية له.

و لكن لم تقطع خطوة واحدة على درب إصلاحه و بقي ” ثقبا أسود ” يبتلع سنويا مبالغ مالية هامة من ميزانية الدولة يذهب أغلبها إلى أرصدة من ليسوا معنيين نظريا بتدخلاته تماما كما يبتلع ثقب المؤسسات العمومية الأسود مبالغ مالية ضخمة حتى يبقى الصندوق الاسود للفساد في القطاع العام مغلقا استجابة لإرادة خفية يلتقي فيها اخطبوط فساد إداري و نقابي معلوم من الجميع.

لا يمكن الحديث عن متاهة الصناديق دون الحديث عن ” صندوق النقد الدولي ” الذي دخلت بلادنا خاصة في السنوات الأخيرة في متاهة الاقتراض منه و الخضوع تبعا لذلك إلى شروطه و هذا الاقتراض الذي اتخذ منحى غير مسبوق و غير عقلاني قد تكون له نتائجه المدمرة و في المدى القصير اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا و قد يدفعنا هذا ” الإصرار المرضي ” على الاقتراض على التفكير في فتح موضوعي لاهم الصناديق و هو صندوق أسرار حقيقة ما وقع في تونس في مطلع جانفي 2011 ….

هل كان ثورة أم مجرد مخطط لمزيد تعميق المشاكل الاجتماعية و الإقتصادية للبلاد؟.

وأخيرا، من بين الصناديق التي تعمق الوقوع ضغط متاهة الصناديق صندوق الزكاة الذي أحدثه رئيس بلدية الكرم رغم غياب ما يمنح هذا الانجاز شرعيته القانونية على المستوى الوطني و هو ما يحوله إلى أداة من أدوات تحويل البلديات إلى ” جمهوريات أخرى” خاصة و أن مفهوم السلطة المحلية قد تحول إلى حصان طروادة توظفه بعض الأحزاب لضرب السلطة المركزية و مفهوم الدولة الوطنية و إقامة “دويلات ” داخل الدولة.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP