الجديد

سنة سياسية جديدة…. ما الجديد؟

المهدي عبد الجواد

تدخلُ تونس السنة الثانية من العُهدة النيابية. سنة لم يلحظ فيها التونسيون تغيّرات كبيرة، وهم الذين حملتهم “حالة وعي” نشرت موجات ايجابية، من خلال بعض حملات التنظيف ودهن الجدران وتقليم الأشجار بُعيد انتخابات الرئيس قيس سعيد.

ازداد الوضع سوءا اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، وانحدر الخطاب السياسي إلى درجة من “الانحطاط السوقي” غير المسبوق، وعاد الاحتقان إلى درجاته العُليا، وتعطلت تقريبا كل قنوات التحاور بين الفاعلين السياسيين وخاصة في البرلمان الذي يُجسّد “جماع الرداءة” وهو المحمول عليه تجسيد “الإرادة الشعبية”.

و لعلها لعنة إرادات الشعوب عندما تنفلت ولا يتم تنظيمها وترتيب أولوياتها وحوكمتها، تماما مثل لعنة الفعل السياسي المُنفلت الذي يُهدّد التجربة الديمقراطية التونسية.

الرئيس… كلام في كلام

سنة مرّت على انتخاب قيس سعيد. الأستاذ المستقيم الذي يتكلّم برتابة منذ ستين عاما. ولم يتخلّ على إيقاعه الرتيب حتى في قصر قرطاج. علامة دالة على كونه لم يتحوّل إلى الرئيس الذي حلُم به من انتخبه في الدورين الانتخابين. بل إن الرئيس لم يُنجز عمليا شيئا يُذكر، عدا مزيد من العُزلة الديبلوماسية لتونس في مُحيطها الإقليمي والمتوسطي والدولي. فلا مبادرات تشريعية ولا اشعاع دولي ولا حضور “داخلي” باستثناء زيارات فلكلورية شعبوية.

بل ان قيس سعيد برهن من خلال تدخلاته الاعلامية على كونه “خارج السياق الحضاري والمعرفي التاريخي” لتطور الثقافة العربية الاسلامية، وما يعتمرُ فيها من صراع في التأويلات النصية بين مدارس فقهية وكلامية مختلفة. صراعات في التأويل توجتها حركة النهضة العربية من منتصف القرن التاسع عشر، من خلال تدعيم القراءات التقدمية للتراث، والتحرّر من سرديات الفقهاء الارثوذكسيين، لذلك فلا معنى في الحقيقة للحديث على “النصوص القطعية” و”آيات الحدود” و”القصاص” ورفض المساواة بداعي “احكام المواريث القطعية” في سياق التطور الفكري التأويلي الذي شقّ تاريخ الحضارة العربية، عدا الانتصار للقراءات السلفية المُنغلقة على حساب المقاربات العصرية.

سياسيا، بدا قيس سعيد عُنصر توتّر خطير، ومُسبّبا للاحتقان والانقسام، والحال أنه مُجبرٌ على كفل الدستور وضمان وحدة الأمة باعتباره مُمثّلا لها ولدولتها. فقيس سعيد كثير التحرّش بمؤسسات الدولة، مُتّهما القضاء بالتقصير مُنتصبا قاضيا بدلا له. غير مؤمن بتواصل القضاء ولا أحكامه “مُتناغما” مع وجدان العوام وعموم جماهير “الفايس بوك”. لا يتعامل قيس سعيد مع مجلس نواب الشعب رمز الإرادة الشعبية، يروم تدجين الحكومة والهيمنة على وزرائها ورئيسها، يحتقر الاحزاب والسياسيين ويُرذّل العملية السياسية برمتها.

وهو بدل أن يدعو إلى المُصالحة الوطنية والى الوحدة، لتعبئة الجهود الوطنية العامة لتجاوز هذه الوضعية الكارثية التي تعيشها تونس، “يبثّ” خطاب التفرقة والكراهية المشحون بمعجم “الفتنة”.

كما تخلّى الرئيس على دوره الأهم وهو ضمان “الأمن القومي” للبلاد بمعناه الشامل، فلم يتدخّل في اقتحام المناطق العسكرية وتعطيل الإنتاج في صحراء الكامور ولا في إيقاف إنتاج الفسفاط ولا في إغلاق المناطق الصناعية من مجموعات من المارقين على القانون ممن يبدو أنهم يُنفذون بأمانة مشروع الرئيس، أليس لنا ان “نفعل ما نُريد” في دولة “الشعب الذي يُريد”.

الحكومة… مازال التردّدُ

تولّى هشام المشيشي الحُكم، مدفوعا بموجة من الاستبشار الشعبي العام، فهو مُمثّل “الكفاءات الإدارية” للدولة التونسية الذي سيُعيد لها بريقها ويضمن نجاح السياسات العامة، التي تضرّرت بفعل تراكم أخطاء ممارسات حكومات الهواة، من السياسيين بعد الثورة. لكن تواصل الحال على ما هو عليه، واستفحال الأزمات المُختلفة الأبعاد، صحيا وامنيا وإرهابيا واقتصاديا واجتماعيا بدأ في إضعاف هذا الاستبشار، وشرع الناس سريعا في طرح الأسئلة حول مدى قدرة هذه الحكومة ووزراؤها على إدارة المرحلة.

أمران مُهمّان ينزلان بثقلهما على المشيشي وحكومته، العلاقة برئيس الجمهورية وخاصة المسألة الاتصالية. فأول الحواجز أمام نجاح عمل الحكومة من صُنع الرئيس بل ان الرئيس هو الذي تحوّل الى السبب الرئيس في فشل العمل الحكومي.

فرغم ان قيس سعيد هو الذي اختار هشام المشيشي وتخيّر الكثير من وزرائها فإن طبيعة الرئيس الشخصية، التي لا تتحدذث الا مع نفسها ولا تستمع الى غيرها ولا تعرف للمشاركة/التشارك سبيلا تحولت بسرعة الى حاجز مهم في العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية. ويكفي ان نستحضر “حصة التأديب” والتقريع التي تعرّض لها رئيس الحكومة الذي تم تصويره “صاغرا/صغيرا” أمام الأستاذ الذي يُكلّم العامة بطريقة فيها صلف وتعالي، بما في ذلك من ترذيل للدولة واحتقار للمؤسسات حتى نُدرك حجم الدور الذي يقوم به قيس سعيد في إفشال عمل الحكومة.

يعمل قيس سعيد على إفشال كل المنظومة ومنع اشتغالها، حتى يدفع نحو الفراغ ونحو الفشل، لأنه يعتقد – تماما مثل عبير موسي – أن ذلك سيجعله البديل. كما إن دعوات مباشرة لوزراء للقاء رئيس الجمهورية وإعطائهم أوامر رئاسية مباشرة، يخلق انشقاقا ولا توازنا في عمل الحكومة، وهو الأمر الذي دفع المشيشي الى دعوة الوزراء الى استشارته قبل لقاء الرئيس وقبل التعاطي مع ما يطلبه منهم، ضما لحُسن سير عمل الفريق الحكومي.

غرق المشيشي في “تصريف الأعمال” وفي إدارة العلاقة مع الرئيس، وعجز هو وفريقه على صياغة سياسة اتصالية ناجعة، إذ تبدو الحكومة منقطعة تماما على شعبها، فلا توضيحات ولا تطمينات ولا “فزع حكومي” أمام الكوارث التي تضرب البلاد صحيا واقتصاديا واجتماعيا. فبخجل كبير تتم إدارة أزمة الكامور والفسفاط. وبحذر يتم التفاعل مع اشتعال الكورونا. وبتجاهل تام يتم التعاطي مع أزمة التمور وصعوبات القطاع الفلاحي. قد تكون هذه استرتيجية تواصلية للحكومة الجديدة، لكنها استرتيجيا فاشلة في كل الحالات، وقد جربها قبلها يوسف الشاهد لكنها انتهت بفشل ذريع.

البرلمان… انقلابات وتحولات

كانت السنة الماضية في مجلس نواب الشعب سنة “التدافع الحاد” على كل المستويات. صراعات لفظية وبدنية واعتصام وإضرابات جوع، ولوائح داخلية وخارجية وقضايا دولية وعالمية ونسيان تام لقضايا الوطن والشعب. فرح بقانون الاقتصاد التضامني الاجتماعي الذي كان مُعتمدا منذ خمسين عاما. عرائض سحب ثقة وخصومات في اللجان ورفض لمشاريع قوانين.

سنة برلمانية كريهة ميزتها التشتت والانقسام والاحترابُ، بطلها ائتلاف الكرامة بما في خطابه من عُنف وكراهية، ورديفه حزب عبير موسي بما في سلوكه من تعطيل متعمد لعمل المؤسسة وما في خطابه من حثّ على الإقصاء والكراهية، وبينهما “نوائب” آخرين، لا يتمثلون شيئا من قيم الديمقراطية والاختلاف والمواطنة، جلاها بوضوح النائب فيصل التبيني بما صرح به تُجاه بشرى بلحاج حميدة.

لكن السنة الجديدة، تبدو مختلفة وصار الفرز فيها واضحا، فقد تشكّل ائتلاف برلماني كبير سيتحوّل بفعل عدده إلى “عُصُب” المجلس في سنته الجديدة. ائتلاف النهضة وقلب تونس والكرامة مضافا إليها بعض المستقلين وبعض نواب كتلة المستقبل التي “انحلت”، سيُهيمن على البرلمان القادم. ونعتقد أن هذا الائتلاف الجديد سيُحدّد أولويات القوانين ومشاريع اللوائح في المرحلة القادمة، وسيدفع بالنقاش نحو استكمال المحكمة الدستورية ومراجعة القانون الانتخابي ناهيك على بعض القوانين المُعطّلة مثل قانون الصرف وقانون الطوارئ الاقتصادية. والاهم في اعتقادنا سيكون توفير حزام سياسي لحكومة هشام المشيشي وسند سياسي برلماني له وقد تتحول إلى قوة إسناد حقيقية في “صراع القصرين” قرطاج والقصبة.

عدا ذلك تُغالبُ بقية الكُتل وتُجاهد للبقاء ولضمان تقاربات وتسويات تبدو الى اليوم صعبة. وسيبقى التشتت بل سيزداد وسط أنباء على تفتت كتلة تحيا تونس وكتلة الإصلاح، في حين تظل الكتلة الوطنية دون افق سياسي، أما الكتلة الديمقراطية فستعود الى المعارضة، وستُحافظ كتلة الدستوري الحرّ/عبير على طابعها الاحتجاجي غير المثمر. وأثناء ذلك يُخيّم السكون على عوالم الاحزاب الديمقراطية، وسط مبادرات خجولة لا تُبشّر بتحولات كبيرة، وهذا موضوع آخر لمقال آخر.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP