الجديد

إضاعة الوقت .. إضاعة لتونس !

شعبان العبيدي

قد لا يروق للبعض حينما نقول إنّنا تفننّا نحن التونسيون بفعل السياسية الحزبية الانفعالية، ودفـــع البعض بالخطاب السياسي نحو المزايدة السياسية وغياب الرؤية الوطنية الواقعية، وعدم الانجرار إلى المهاترات السياسية والمعارك الأيديولوجية، في إضاعة الوقت على الدولة حتّى تستردّ عافيتها. ويبدو لـــي أنّ تعدّد الحكومات واستباقها دائما بعنوانين الفشل والخيبة وعدم الثقة كان عاملا من عوامل تعمق الأزمــة إن لم يكن في واقع العملية السياسية النفعية هو السبب الرئيسي.

فنظرة خاطفة على الحكومات التي تتالت وازداد معها وضع البلاد سوء، والمُــــدد التي قضتها في إدراة شؤون البلاد يكشف حقيقة ذلك. تسع حكومات تعاقبت منذ الثورة إلى اليوم، لم يكن حظ بعضها إلا جولة خاطفة فإقالة فتعيين جديد.

ومّما زاد الوضع سوء بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة خروج الرئيس السابق يوسف الشاهد من قصر القصبة، بعد أن أوكل أمر اختيار رئيس الحكومة للأحزاب المنتخبة والحاصلة علـــى الأغلبية وفشلها في ذلك مع تكليف الحبيب الجملي، ليعود أمر التكليف إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد، الـرئيس الذي جاء محملا بخطاب ثوري وحزام شعبي دفعاه إلى رفع شعار “تحقيق شعار الشعب يـــــريد” ولكن ماذا يريد الشعب؟ وكيف يتحقق ما يريده الشعب؟ وهل كلّ ما يريده الشعب يمكن تحقيقه؟ أسئلة لـــم تدر بخلد رئيس الجمهورية. ولعلّه من الغباء تصوّر أنّ السيد قيس سعيد جاء إلى قصر قرطاج لا يحمـــــــل تصوّرا فكريا أو رؤية للحكم، بل كان نوادر تلك الرؤية قد ظهرت في المناظرة الانتخابية خلال حديثه عن تغيير النظام السياسي وطرح مسألة الحكم المحلي والموقف السلبي من الأحزاب والتمهيد لإقصائها أو منعها باعتبارها تمثل عائقا أمام ممارسة الأفراد للسلطة بطريقة مباشرة. وهو ما وصفه الكثيـر من المحللين بأنّه خطاب موغل في الشعبوية والطوباوية.

– قيس سعيد يطيل عمر الأزمة

كانت أولى خطوات رئيس الجمهورية الّتي ستضيع على البلاد مزيدا من الوقت عدم اتّفاقه مع الأحزاب وانحيازه إلى أحزاب رأت في حكومة الرئيس المخرج الوحيد لتكوين الحكـومة، وليس ذلك نتـــاج رؤية منطقية وموضوعية في قدرة الرئيس على اختيار رئيس حكومة أكفأ وأقدر و أكثــر اطلاعا علـى ملفات الدولة بل نكاية في الخصم السياسي. وهكذا دفعت بنا الأحـــــــزاب إلى معاناتنا المتعاظمة والتخوف من القادم. فكان اختيار سعيد مجانبا لكلّ مقترحات الأحزاب الذين طالب منهم أن يراسلوه على شاكلة رسائل عمال الجهات في العهود الغابرة. وقدّم لتشكيل الحكومة “إلياس الفخفاخ” شخصية فاجأت الجميع.

-الفخفاخ والخروج السّريع

بدأ الفخفاخ بعد تشكيل حكومته التي كانت حكومة محاصصة حزبية في وضع وبائي في بداياته، وأخذت إجراءات استباقيّة متقدّمة ما كان أن تكون على تلك الشاكلة، خاصّة في ظلّ فريق سياسيّ طبيّ متناغــم استطاع أن يواجه الموجة الأولى بالوسائل المتاحة واستجابة شعبية واسعة لدعم مجهـــــودات الدّولة في تدعيم قطاع الصّحة العمومي. بل إنّ من وزرائه من لم يمارس فعليا وظيفته حتّى لحظة خـــــروجه. إذ انفجر ملف تضارب المصالح الذي اتّهم فيه رئيس الحكومة، خاصّة بعد أن تأكّد ذلك بما نشر من تقارير عن الهيئات الرقابية و المجتمع المدني، ليجد قيس سعيد نفسه مضطـــــــرا لمطالبته بالاستقالة واستباق عرضة سحب الثقة من البرلمان.

وبالرغم من ظهوره الأخير على قناة تلفزية خاصّة في حوار يفتقر لمهنية صحفية، ومحاولة إظهار إقالته على أنّها مظلومية سُلطت عليه قادتها أطراف حزبيّة وأخرى مالية تتحكّـــــــــم في المشهد السياسي. فقد كشفت تصريحاته وما جاء فيها من اتّهامات لأطراف سياسية مدى ضيق الرؤية وسقوط في الانفعالية تؤكد ما قام به من إجراءات في عزل وزراء حركة النهضة وهو مكلف بتسييـــر الأعمال حجم الخطإ الذي ارتكبه قيس سعيد بتقديمه. ويبرز بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ استمرارنا في لعبة الهواية السياسية والتحويرات المتواصلة الاعتباطية هي سبب تفاقم أزمات البلاد.

فماذا فعل الفخفاخ في مرحلة قيادته غير أنّه فتح على التّونسيين أبواب الوباء الذي نعيش اليوم موجته الثانية بقوّة مخيفة؟ هل كانت إجراءات رفع الحجر الصحيّ صارمة وواضحة التطبيق أم كانت مجرّد حبر على ورق؟ هذا ما تبينّاه من خلال تصريحات التونسيين العائدين من الخارج الذين لم يجــدوا أيّ برتوكول صحيّ وأي رقابة. وها نحن اليوم في وضع أكثر سوء يهدّد بمزيد تعمّق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والصحيّة. فقد تتوقف حياتنا في غضون أسابيع وتنقلب رأسا على عقب. ونحن نــراقب العالم من حولنا مستشفيات عرضة للذروة، سماء خالية من حركة الطيران، أكثر مـــن مليون ضحية ويتزايد شبح أزمة اقتصادية عالمية مع كوفيد 19

-استمرارية الدّولة كان ممكنا مع يوسف الشاهد

حتّى ندرك حماقة خياراتنا الحزبية والسياسية، وهشاشة الرؤية الموضوعية التي تميّز الحكم الرشيد أن يواصل يوسف الشاهد رئاسة الحكومة. ليس ذلك تعبيرا عن نجاحه المطلق في إدارة شؤون البلاد، ولا موقفا سياسيا حزبيا بل لأنّ المدّة الكبرى التي قضاها في رئاسة الحكومة، وما أثبته من حنكة في إدارة الخلافات السياسية سواء مع حزبه الأوّل أو مع النّهضة وغيرها، وتمكنه من فتــــح جملــة من الملفات الهامّة منها ملف الهجرة غير الشرعية و حربه على الفساد والشروع في برنامج تنمـــوي جديد إضافة

إلى نجاحه في تنشيط الحياة الديبلوماسيّة وما كان للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي من دور في دفعه للتركيز على إعادة الاعتبار لصورة تونس في الخارج. كلّها عوامل كان مـــــن الممكن أن تجنّب البلاد العودة من جديد إلى نقطة الصفر. ومواصلة الادّعاء بأفضلية هذا وذاك أو حكومة التكنوقراط وحكومة السياسي.

ولكن هل كان قيس سعيد ليقترح اسم يوسف الشاهد الذي كان من بين الأسماء المعروضة عليه؟ هل كان يمتلك رؤية السياسي البراغماتي المدرك لأهمية الاستمرارية وربح الوقت وعدم المجازفة ببعث فـــريق جديد من المغامرين؟ هذا ما كان الكثير يتصوّره في ظلّ نظام خاضع للرقابة البرلمانية والدستــور. لكن قيس سعيد ما كان له أن يفكّر كما نفكّر، لم يكن يهمّه ربح الوقت وشعـــــــار “الشعب يريد” يتردّد على شفاهه. ما كان ليختار رئيس للحكومة خاض ضدّه الانتخابات الــــــــرئاسية ولعلّه يعتبره من المنظومة القديمة.

إنّ هذه الممارسات الحزبية التي عادت اليوم إلى سلوك النطاح والسباب تقودها زعيمة الدستوريّ الحــرّ ضدّ البرلمان وضدّ كلّ توجه إلى التهدئة وتقديم مصلحة البلاد، وإدراك حجــــم المعانـاة الاجتماعية التي تكتوي بنارها الطبقات الفقيرة والضعيفة والمتوسطة من غلاء المعيشة وتدنّي مستوى العيش، كـــــلّ ذلك تحت منطق “كلّ حزب لنفسه” إضافة إلى تفنّن الرئاسة في إضاعة الوقت وغياب الحكمة. زادت وضــع البلاد هشاشة. وتركتنا عراة أمام الهجمة الجديدة للوباء. حين لم ننجح في المحافظة على حكومة مركزية مستمرّة قادرة على وضع خطط مرحلية وعاجلة لإدارة الشأن العام.

كلمة المشيشي: يقول التونسيون ماذا أراد أن يقول؟

ألقى رئيس الحكومة الجديد البارحة كلمة توجّه بها إلى التونسيين عبر القناة الرسمية، وكان الكلّ ينتظـــر إجراءات نوعية خاصّة في مواجهة توسع العدوى المجتمعية، وليس معنى ذلك أنّنا من مناصري الحجــر الصحيّ الشامل وغلق البلاد كما حدث في الموجة الأولى وكـــــــان خطأ فادحا. ولكن المشيشي لم يبلــغ التونسيين إلاّ قناعته بعدم التفكير في غلق البلاد، وأمّا ما جاء من حلول وتوصيات فيمـــا يخصّ تـــدعيم البرتوكول الصحي بالمؤسسات التعليمية والجامعية الغائبة أصلا والمنعدمة، في الوقت الذي تشكـــو فيه كثير من المؤسسات التعليمية من سوء الإدارة والفساد وغياب الرقابة. كما أنّ الحديث عن تشديد الرقابة على الالتزام بإجراءات الوقاية هو من باب الكلام لأنّ التوعيّة وتكثيف عملياتها وتحميل مختـــلف فئات المجتمع مسؤوليتها في محاربة العدوى أجدر من خطاب التهديد. لهــــذا جاءت تعليقات التونسيين: ماذا أراد أن يقول رئيس الحكومة.

كان من الأجدر أن يتعلّم السياسيون والأحزاب ورؤوس الدولة دروسا من هذه الجولات مـــن تغييــر الحكومات عوض أن تنساق كلّها تحت وقع القصف الفيسبوكيّ والاتّهامات وحروب الملفّات المضلّلة التي جعلت البيئة السياسية التونسية مهيأة لتفشي نظريات المؤامرة وتشويه الجميـــــع، التي لا نعرف الصحيح منها والخاطئ شيئا من الانضباط وتعلّم تقديم مصلحة البلاد والتعبئة العامّة لخدمتــها كهدف أسمى، حين يستعيد هؤلاء الذّاكرة السياسية ويدركون سبب انعدام الثقة فيهم. بدلا من مزيد السير في اتّجاه الحماقة السياسية أو الحمائقية كإيديولولوجيا جديدة ترافق الشعبويّة.

 

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP