منذر بالضيافي يكتب: واقع دولي جديد .. مزاج عالمي جديد!
كتب: منذر بالضيافي
الحرب في غزة، ستسرع نسق التحولات الدولية، التي تغذيها حرب اوكرانيا و روسيا و الانتقال التكنولوجي – الذكاء الاصطناعي- واخيرا التحولات المناخية، فضلا عن المفاجآت وحالة اللايقين التي بدأ العالم يعيشها منذ وباء الكوفيد 19/الكورونا – كلها مجتمعة ستنتهي بفرض واقع دولي جديد، سيكون استجابة لمزاج عالمي جديد، آخذ في التشكل منذ سنوات، و لن تستقر الأوضاع لصالح نظام عالمي جديد، الا بعد سنوات قد تطول، في الاثناء سنعيش اهوال كبرى- ولعل ما يحدث في غزة مقدمة لها-. وكما سبق وأن قال المفكر الايطالي أنطونيو غرامشي – في معرض حديثه عن التحولات من عالم الى اخر – فان “العالم القديم إنتهى، والعالم الجديد تأخر في الظهور.. وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش”.
واقع دولي جديد طور التشكل، ولعل اكثر ما يجب أن يشغل الانسانية، ونحن في مطلع السنة الجديدة (2024 )، هو تسارع وتيرة نسق التحولات الاستراتيجية، التي – للأسف- تكرس حالة شرخ ثقافي كوني fracture mondiale ، و تباعد حضاري اكبر، بين سكان هذا العالم، تباعد بين شمال متقدم ويستعد لقفزة ابستيمية – الذكاء الاصطناعي – ، وبقية سكان العالم، وهم من سكان ما أصبح يعرف بالجنوب، ونحن العرب منهم.
تحولات انطلقت منذ سنوات بنسق حثيث، اطلقنا عليه في مقالات سابقة تسارع التاريخ l’accélération de l’histoire ، وهي تحولات من المتوقع ستزيد اكثر من نسق سرعتها، خاصة مع الذكاء الاصطناعي، الذي سيحدث قطيعة ابستيمولوجية واستراتيجية في ادارة العالم، ويكرس “طبقية عالمية” غير مسبوقة .
يتوقع، أن تكون 2024، سنة حاسمة في تسريع نسق التحولات، الذي ستضفي الى مزيد تواصل هيمنة الولايات المتحدة على العالم، برغم ما برز من بداية تراجع للامبراطورية الأمريكية، بسبب صعود تناقضات سياسية مجتمعية داخلية، تجسمت أساسا في “ظاهرة ترامب” ( صعود الشعبوية )، الذي لا يستبعد أن يعود من جديد للبيت الأبيض، بما سيمثل “تهديد” للديمقراطية الأمريكية، مثلما يروج لذلك أنصار الرئيس الحالي بايدن، أما في الخارج فان السياسات الأمريكية كانت وراء بروز مزاج عالمي كاره بل رافض لتفرد نيويورك بقيادة العالم، و رافض لأيديولوجيتها ( الديمقراطية الليبرالية ).
لكن مظاهر التراجع الأمريكي في الداخل والخارج، لا تعني أبدا اعلان بداية أفول هذه الامبراطورية، أو تراجع هيمنتها ونفوذها، وهي التي ما تزال تتحوز على عناصر قوة ونفوذ استراتيجي لا يخضع للمنافسة، خاصة التفوق التكنولوجي، و التمدد العسكري في كافة أنحاء العالم.
الذي يعني امتلاك ” قوة الردع” العسكري، وهذا ما كشفت عنه التعزيزات العسكرية اللافتة والحضور القوي في شرق المتوسط و البحر الأحمر، ساعات قليلة بعد واقعة السابع من اكتوبر – اندلاع حرب غزة واسرائيل-، في منطقة استراتيجية وحيوية بالنسبة لأمريكا، هذا الحضور العسكري الذي ترافق مع اعادة تفعيل عمر قاعدتها العسكرية الضخمة في إمارة قطر لمدة عشر سنوات إضافية، وهي قاعدة مهمة لأنها تؤمن منطقة الخليج الحيوية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، المنطقة الغنية بموارد الطاقة، والتي تحوز على كبريات خزائن العالم، ونعني هنا الصناديق السيادية الكبرى والضخمة.
كما ان هذا الحضور العسكري الاستعراضي، في أكثر بؤر التوتر في العالم ، مثل عودة قوية لمراقبة منطقة الشرق الأوسط التي تعد بؤرة توتر مفتوحة منذ اكثر من 75 سنة – تاريخ التمكين لدولة إسرائيل-، وبالتالي فان هذه القوات تقوم ايضا بحماية هذا الكيان الذي يعيش عزلة في محيطه برغم كل محاولات “التطبيع” الفاشلة، و الذي كشفت “غزوة 7 اكتوبر”، عن كونه يعيش هشاشة مركبة بما في ذلك جهوزيته العسكرية والاستخباراتية، التي كانت تفرض سطوته وهيبته، حولته الى شرطي المنطقة.
قبل ان تمرغها المقاومة في التراب، فارضة تدخل “العم سام” لوجيستيكيا وعسكريا واستخباراتيا، لتأمين وجود واستمرارية الكيان الاسرائيلي، الذي اصبح يعيش حالة تفكك حتى من الداخل، خاصة في ظل حكومة يمينية دينية متطرفة، وضعت إسرائيل في مأزق، كما وضعت مصالح امريكا في دائرة الخطر، وهي التي بدأت تظهر عليها علامات الضعف، نتيجة ارتكاب اخطاء استراتيجية – الموقف من حرب غزة مثالا- و نتيجة الشرخ الداخلي، حرب السلطة وتراجع “الايديولوجية الديمقراطية” بعد حادثة هجوم أنصار ترامب على الكونغرس وما صاحبة من تراجع لأنموذج “الديمقراطية الامريكية” في العالم.
من علامات بداية التراجع الأمريكي، ما برز من اختراق صيني لمجالات النفوذ والهيمنة الأمريكية، سواء في مجال التقني أو الجيوبوليتيكي، الأمر الذي يشير الى بداية تشكل “حرب باردة” جديدة، لكن هذه المرة بين بيكين و واشنطن، فقد بدأ العالم يشهد وجود صراع على اشده، وان كان “صامت”، على و حول ادارة العالم في المستقبل ، صراع طرفاه الرئيسيين امريكا والصين.
صراع سينتهي – كما جرت العادة – بالجلوس على طاولة التفاوض، وهذا ما بدأ فعلا من خلال تعدد المحادثات واللقاءات بين قادة البلدين، للتأسيس لخطوط اشتباك، و لتقسيم النفوذ و لإعادة النظر في النظام العالمي الجديد، صراع سينهي او على الاقل سيحد كثيرًا من الزعامة الامريكية الأحادية للعالم.
هذه الزعامة التي تمددت مع سقوط الاتحاد السوفياتي نهاية ثمانينات القرن الماضي ، وما تزال مستمرة برغم بروز بعض مظاهر الضعف وحتى الوهن، وذلك حال عمر الامبراطوريات.
ان ما يجري فرصة للعرب لإعادة التموقع ، وتحسين شروط التواجد في الهندسة الجيوسياسية الدولية القادمة. لا نريد ان تكون منطقتنا ( نحن العرب ) – مرة أخرى – ضحية لتسوية دولية، تتركها مثلما كان في السابق في وضع المهمش بل المهيمن عليه، خصوصًا واننا نملك عديد نقاط القوة لو نحسن التصرف فيها، والاهم لو نحسن نسج تحالفات استراتيجية، مع القوى الاقليمية في منطقتنا اساسا ايران و تركيا وكذلك مع الهند و روسيا.
كما علينا – نحن العرب – أن لا نهمل افريقيا، التي هي مجال تنافس كبير بين القوى الكبرى وخاصة واشنطن و بيكين.
فجوهر الصراع بين الامم و الامبراطوريات تاريخيا، هو حول النفوذ و الثروات والمقدرات، وليس حول نشر الديموقراطية وحقوق الانسان، التي جعل منها العالم الغربي بقيادة امريكا ” مسمار جحا” لدعم هيمنتها وحتى – لابتزاز الدول – .
للاشارة فان الديمقراطيات الليبرالية الكبرى، تمر اليوم بأزمة غير مسبوقة، على المستويين المحلي و الدولي، جعلت “النظام العالمي الليبرالي”، الذي استقر له المقام، مع سقوط الاتحاد السوفياتي، مع ظهور مقولة “نهاية التاريخ” ( فرانسيس فوكوياما )، موضع تساؤل واعادة تفكير من قبل عتاة الليبراليين أنفسهم .
Comments