الجديد

وثيقة تاريخية: موقف حركة الاتجاه الاسلامي من أحداث جانفي 1978

تونس- التونسيون
ننشر وثيقة مهمة تتصل بموقف الجماعة الإسلامية بتونس( حركة الاتجاه الإسلامي منذ 6 جوان 1981 ثم حركة النهضة)، من أحداث 26 جانفي 1978 (الذي اعتبرته يوم فاصل في تاريخ تونس) وكان ذلك أول بيان أصدرته في تاريخها ولأنه لم تكن لها صفة معروفة في الساحة فقد أصدرته باسم الحركة الطلابية (الطلبة المسلمون) ورفضت الصحف نشره عدا نشرية الأخبار الكويتية.
في ما يلي نص الموقف/ الوثيقة:
لقد كان يوم الخميس 26/ 01/1978 يوما فاصلا في التاريخ الحديث لتونس البلد الذي كثيرا ما تبجح مسيروه بما يسوده من هدوء واعتدال ورصانة وسط عالم مضطرب، فأظهر يوم الخميس أن هدوءه من قبيل هدوء العاصفة توشك أن تثور وغضبا شعبيا صاخبا، وحرائق بشعة ومعارك استعملت فيها الحجارة والعصي من طرف الجماهير الغاضبة للوقوف في وجه الشرطة المسلحة بالقنابل المسيلة للدموع والرشاشات، ولم يتورع النظام، الذي فقد كل رصيد شعبي عن الاستنجاد بالجيش فطفق يطلق الرصاص في كل مكان ويودي بحياة الكثير من الضحايا الذين بلغ عددهم ما لا يقل عن مائتين وخمسين قتيلا فضلا عن مئات الجرحى والمعتقلين ومنهم أبرياء لا صلة لهم بالحوادث فكان يوما رهيبا، لا تسمع فيه إلا صفارات الإنذار وأزيز الرصاص وفرقعة الدبابات ودوي الطائرات ،، يوما يذكر بالحرب الأهلية في لبنان ، لم ينته إلا بإعلان حالة الطوارئ في كل البلاد، وتقييد الحريات العامة، حرية التجمع والإضراب والتظاهر وحتى التجول بين السادسة مساء حتى الخامسة صباحا، وانتصب الجيش في الساحات العامة مدججا بالسلاح وقد أذن له في إطلاق النار على كل من يخالف الإجراءات المتخذة حتى تتاح للشرطة تصفية العناصر المعارضة كما صرح بذلك الوزير الأول.
وحري بالمواطن التونسي أن يقف طويلا أمام هذه الأحداث البالغة الخطورة، يحلل كيف حدث ;ما هي الدوافع أو النتائج. كيف حدث كل هذا (الأسباب)؟:
لقد كانت هذه الأحداث الخطوة الأخيرة في طريق طويل زجّ الحزب الأمة في منعرجاته، نكتفي هنا بالإشارة إلى الخطوات الأساسية في ذلك الطريق طريق الانتحار. إن الحزب الاشتراكي الدستوري كأغلب الأحزاب في العالم المتخلف لم يكن برنامجه يوم نشأ يتعدى التصدي للوجود الاستعماري في البلاد وتجنيد طاقات الأمة لطرده حتى إذا تحقق ذلك واستقلت البلاد واجه الحزب سياسة البلاد اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا بغير برامج وحلول مسبقة إذ لم يكن رجال الحزب لا من المسلمين الواعين ولا من الغربيين الأصيلين مما دفع الحزب في غياب الأيديولوجية الموجهة إلى سياسة التلفيق.
فلفق من هنا وهناك سلسلة من برامج التنمية انتهت بالفشل الذريع ومع كل فشل لمخطط تطيح قيادة الحزب بعدد من المسؤولين في الحزب والحكومة،، حتى أن هؤلاء المطرودين شكلوا اليوم أغلب قيادات المعارضة- جماعة بن صالح وجماعة الديموقراطيين الاشتراكيين (المستيري) وجماعة الاتحاد العام التونسي للشغل – فكل هؤلاء إفرازات لجسم الحزب الآخذ في التحلل.
ومع كل فشل يفقد الحزب رصيدا من شعبيته حتى غدا هيكلا فارغا أجوف كالطبل، ومع كل ما مني به من فشل في مخططاته الاجتماعية والاقتصادية لم تستطع قيادة الحزب أن تعيد النظر في العقلية المتحجرة والأساليب العتيقة التي واجهت بها المجتمع التونسي رافضة كل تطور ومراجعة، وصارت تونس الأمة وكأنها قطيع يسلّى بالترغيب والترهيب والدجل دون أن يقرأ أي حساب لفارق الزمن بين 1956 و1978 وما طرأ خلال كل هذه المدة على الشعب التونسي من تطور بفعل انتشار التعليم والثقافة وتعقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وانعكاس التيارات الفكرية والسياسية العالمية عليه، فلم تعد أساليب الكذب والمغالطات تؤثر فيه ولا تذكيره بوقائع من كفاح بورقيبة كافيا لتبرير كل الممارسات السيئة للدولة والحزب.
وظل الحزب –بتزمت شديد- يمارس مع خصومه نفس أساليبه العنيفة: كرميهم بقصر النظر وبأنهم شرذمة حاقدة- تهدد مكاسب الأمة وفي كل مرة تتهاطل البرقيات المستنكرة المنددة بأعمال الفئات الضالة، تطالب بالضرب بشدة على أيدي العابثين وظل الحزب مصرا كل الإصرار على أن يبقى وحده على ركح السياسة في البلاد وكأنه بهلوان في كوميديا عابثة مما ولد في النفوس حالة من الضيق شديدة وجوا مخنقا واستعدادا كبيرا للثورة.
اعتمد الحزب نموذجا اجتماعيا يكرس الفوارق الشاسعة بين الفقراء والأغنياء فنشأت في المجتمع التونسي طبقة تجمع بين سلطة الحكم وسلطة المال حتى غدت المسؤوليات في الحزب والحكومة أقصر طريقة للإثراء السريع فشاعت أخبار الاستهتار بالأموال العمومية واجتمع الشعور بالحرمان لدى الطبقات الشعبية مع الشعور بالحنق على القطط السمان بما جعل المطالب النقابية تتكاثر يوما بعد يوم –خاصة وموجة الغلاء تكتسح السوق، وأصوات العمال ترتفع عالية لتضغط بشدة على القيادة النقابية.
اعتمد الحزب نظاما تربويا يكرس التبعية الثقافية للغرب ويضع موضع شك المقومات الحضارية والإسلامية للأمة، مما جعل الشباب التونسي مسرحا للصراعات الأيديولوجية، وكان الجو الثقافي والاجتماعي أكثر ما يكون ملاءمة للأيديولوجية الماركسية التي مكن النظام لعناصرها مراكز هامة في الجهاز التربوي ،، أضاف إلى استفزاز الحزب للمشاعر الدينية استفزازا آخر.
في ميدان الترفيه والفنون شجع الحزب تيار اللهو والميوعة لصرف الشباب عن المشاكل الحقيقية فغدت الرياضة صنما يعبد، والثقافة فولكلورا صاخبا، والملابس معرضا للأجساد الفاتنة، والفنون دغدغة للشهوات.
اعتمد الحزب في ميدان أمنه الداخلي على أسلوب الميليشيا المسلحة الذي اعتمد عليه منذ نشأته في القضاء على الحزب القديم، واعتمده مرة أخرى غداة الاستقلال لاستئصال العناصر اليوسفية في –صباط الظلام – وغيره، واليوم يعود الحزب لنفس الأسلوب، فقد عمد مدير الحزب في السنوات الأخيرة أمام تفاقم المعارضة وفي خضم الصراع على خلافة بورقيبة، إلى تكوين ميليشيا جديدة من المجرمين المنحرفين والعاطلين عن العمل والطامعين في كسب سريع رخيص الثمن، دربهم على فنون العنف وهيأهم لإخماد كل صوت حر في البلاد وكان دورهم خلال الأحداث الأخيرة بارزا في الهجوم على مراكز الاتحاد ونهبهم لواجهات المتاجر والاعتداء على الأشخاص والمؤسسات العمومية ونسبة كل ذلك إلى الاتحاد العام التونسي للشغل كتبرير للإجهاز عليه إثر حملة إعلامية واسعة النطاق ضده من طرف القيادة المتزمتة للحزب من خلال التصعيد الإعلامي والإرهاب والطمع في شعب الحزب فأمطرت سيلا من برقيات النفاق والكذب كلها هجوم وتشهير بالاتحاد مطالبة بحل قيادته ومحاكمتها ونعتها بالعمالة.
كيف لا وقد أفلت الاتحاد من عبادة الصنم واختار حريته واستقلاله مما جعله الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الأحرار في هذه البلاد فخنقه كفيل بوأد صوت الحرية المنطلق جبارا عتيا حتى ولو كان ذلك بإعلان حالة الطوارئ والتمهيد لقيام حكم عسكري. فالجيش وقد شعر أن النظام مدين له هل سيقتنع بدور الحارس الأمين؟ وما درى هؤلاء أن انتصاب الجيش في الشوارع إعلان صريح بأن الحزب قد انتهى والصنم قد تحطم؟ ما هو الهدف من كل ذلك؟
إنه تثبيت الصنم المتداعي والقيام على حراسته للتمعش منه والتسلط على الشعب باسمه وذلك باجتثاث كل محاولة للانتقال بالأمة من مرحلة الصنم إلى مرحلة الفكرة ومن مرحلة الاستغلال والظلم إلى مرحلة العدالة الاجتماعية ومن حالة الضياع إلى حالة الوعي بالذات. ولأجل ذلك فالطلبة المسلمون من منطلق مصير الأمة وذاتها العميقة:
** يدينون أسلوب العنف بكل أشكاله وأيا كان القائم به وينددون بما حصل على يد الطغاة وميليشيا الحزب والعناصر اليسارية المتطرفة مما نسب إلى قيادة الاتحاد وهي منها براء ذلك أن هذا الأسلوب البدائي أثبت عقمه في علاج المشاكل فضلا عن كونه يتصادم مع نفسية الأمة وثقافتها الإسلامية.
**  يحملون قيادة الحزب المتطرفة التي تحركها الأطماع والأحقاد النصيب الأول مما حصل كنتيجة لتجاهل مطالب الأمة في الحرية والعدالة الاجتماعية واحترام الذاتية. · يرفضون بكل شدة الأسلوب العسكري في إدارة البلاد ويطالبون بوضع حد لتدخل الجيش في الحياة السياسية حتى يبرهن هذا الشعب أنه مؤلف من رجال يقادون بالحجة والإقناع لا بالبارود والعصا.
** ينددون بحملة التضليل التي يقدم عليها النظام ضد الاتحاد ويعتبرون النيل من استقلال هذه المنظمة والمس بقيادتها انتهاكا صارخا للحريات التي منحها الدستور ومبادئ حقوق الإنسان المتضمنة في الشريعة الإسلامية.
** يدعون كل الأطراف والاتجاهات الوطنية إثر عودة الجيش إلى ثكناته إلى إجراء حوار على منابر حرة وندوات متلفزة ليتمكن الشعب من الاطلاع على رأي كل الأطراف حول القضايا الأساسية في إطار الاحترام لتبادل وتمكين كل الفئات من حق التعبير والتجمع. ·
** يدعون كل الأطراف الاجتماعية والقوى السياسية الوطنية إلى تكوين جبهة واحدة للوقوف في وجه كل من يرفض الحوار ويستبد بالرأي ويرفض حق غيره في ما يتمتع به من حقوق: ذلك أن الاستبداد والتزمت يمثلان الخطر الحقيقي على مصير الأمة وكيانها وحريا بكل أبناء الوطن المخلصين أن يكونوا على قلب رجل واحد حتى يعلو صوت الحق والحرية والعدالة.
“وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”.
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP