الجديد

تونس وأفريقيا.. استعصاء اللحاق

تطرق الاعلامي والكاتب أمين بن مسعود في مقال له بجريدة العرب الدولية الى تونس والفضاء الافريقي على هامش القمة الافريقية التي انعقدت نهاية الاسبوع في اثيوبيا . يقول بن مسعود: “تونس التي تأخرت في اللحاق بالفضاء الأفريقي تحت وطأة الزهايمر الجغرافي الذي ضربها مبكرا، تتأخر ثانية في مستوى مأسسة وجودها في العواصم الأفريقية، أو هي تتواجد بصفة لا تنسجم مع بيئة الاستثمار والنمو في العمق الأفريقي.
في ما يلي نص المقال:
واحدة من مزايا الدبلوماسية التونسية تحت قيادة الرئيس الباجي قائد السبسي، متمثلة في الاهتمام بالجغرافيا السياسية والاقتصادية المنسية من قبل الخارجية التونسية منذ أكثر من نصف قرن على الأقل.
فبعد الزيارة التي أداها قائد السبسي إلى مالطا التي تُعتبر الأقرب جغرافيّا وأنثروبولوجيّا إلى تونس، وعقب تمتين العلاقات الدبلوماسية مع تركمانستان، كانت أديس أبابا المحطة التالية للرئيس التونسيّ لحضور القمة الأفريقية والتي باتت تحشد لها اهتماما دبلوماسيا وسياسيا دوليا متزايدا لعدّة اعتبارات.
التفاتة تونس إلى عُمقها الأفريقي جاءت متأخرة للغاية ولن نجانب الصواب في القول إنّ تونس اليوم تدفع فاتورة عجزها عن استقراء مقوّمات النفوذ والقوّة وقصور تصوّر مسؤوليها السابقين لمكامن فرص العمل والتشغيل، سيما وأن متلازمة “الشركاء التقليديين لتونس” باتت مقولة تعطيل لمحركات التقاطع الإقليمي والدولي أكثر منها عبارة تشخيص للخيارات الاقتصادية والسياسية.
ولأنّ من طبيعة السياسة رفض الفراغ وأنصاف الخطوات، فإنّ أدوارا إقليمية تمكنت من العمق الأفريقي بل إن مكاسرات إقليمية بعناوين سياسية واقتصادية وأمنية تُخاض على الساحة الأفريقية.
فالنفوذ التركي والإيراني والإسرائيلي، ناهيك عن الفرنسي والإيطالي والأميركي، لا تخطئه عين مراقب، مرة باسم الأقليات والمذاهب، وأخرى تحت اسم القوة الناعمة للمستعمرات السابقة، وثالثة لقتال الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي.
هذه المقدمة لا تفضي إلى التسليم بنتيجة أن أفريقيا باتت ملعبا للأجانب دون أبناء الوطن، فما تحقّق على يد الأفارقة طيلة نصف قرن لا يُستهان به، انطلاقا من تأسيس بنك أفريقي موحدّ مرورا بالمحافظة على ديمومة واستمرار منظمة الاتحاد الأفريقي رغم العواصف السياسية التي ضربتها، وليس انتهاء بتقديم نماذج تنموية معتبرة انعتقت بسرعة من الاحتراب الأهلي المقيت على غرار إثيوبيا وغانا وكوت ديفوار ورواندا.
اليوم، تهبُ أفريقيا إلى تونس الأفريقية، ما لم يقدّمه لها أيّ من الشركاء الأوروبيين التقليديين ولا الأشقاء العرب للأسف، حيث تقدم لها أسواقا اقتصادية ضخمة ومبادلات تجارية على أساس المساواة والندية.
لم يجانب وزير الخارجية خميس الجهيناوي الصواب حين وصف الاستدارة التونسية نحو عمقها الأفريقي بالتوجه، بما يخفيه المصطلح من رغبة واستعداد لم يبلغا بعد مستوى الانخراط الحقيقي والاندماج الذي تفرضه الجغرافيا قبل السياسة.
على مدى السنوات القليلة الماضية، انضمت تونس إلى “كوميسا” (مجموعة دول شرق أفريقيا)، والتي تتوفر على فضاء تجاري يسمح بتصدير السلع التونسية دون أي أداء جمركي لسوق يحتوي على أكثر من 500 مليون مستهلك، كما حظيت بصفة “ملاحظ” في مجموعة “سيداو” (مجموعة غرب أفريقيا) بما مكّنّها من تصدير منتوجاتها بضريبة منخفضة. وعلى مدى السنة الماضية ارتفعت قيمة الصادرات لأفريقيا إلى 500 مليون دولار، أي بزيادة تُقدّر بـ148 مليون دولار مقارنة بسنة 2017.
اللافت هنا أن الفضاء الاقتصادي الوحيد الذي يسجل ميزانه التجاري ارتفاعا لصالح تونس، هو الفضاء الأفريقي، فيما تعرف كافة الموازين الأخرى سواء مع الشركاء التقليديين الأوروبيين أو الشركاء الجدد على غرار تركيا والصين، عجزا مُفزعا بين الصادرات والواردات يصيب الاقتصاد الوطني في مقتل ويفرض عليه مُعادلات اقتصادية ومالية ظالمة.
المفارقة أنّ الاستحثاث الدبلوماسي لا يُصاحب فرص التنمية الموجودة في أفريقيا، بمعنى أنّ تونس التي تأخرت في اللحاق بالفضاء الأفريقي تحت وطأة الزهايمر الجغرافي الذي ضربها مبكّرا، تتأخر ثانية في مستوى مأسسة وجودها في العواصم الأفريقية، أو هي تتواجد بصفة لا تنسجم مع بيئة الاستثمار والنموّ في العمق الأفريقي.
فالتمثيل الدبلوماسي في القارة لا يزال دون المأمول، والارتباط التجاري من حيث العلاقات البحرية والجوية لم يبلغ بعد المستوى الذي تفرضه الشراكات الاقتصادية والمالية، والتشبيك الثقافي والأكاديمي لم يصل بعد إلى مقام الترابط الحقيقي، ودون المقدمات الدبلوماسية والتقنية والرمزية اللازمة يكون الحديث عن التوجه التونسي إلى القارة الأفريقية مجرد عناوين سياسية فضفاضة أو هو تكتيك مؤقت فرضته إكراهات الواقع السياسي والاقتصادي لأوروبا وليست خيارات إستراتيجية كبرى مدروسة من حيث المنطلقات والأهداف والوسائل.
إصرار الرئيس قائد السبسي على تمثيل تونس في القمم الأفريقية، مع استثماره لهذه المواعيد الإقليمية الكبرى لعقد لقاءات مع ممثلي الدول الإقليمية الكبرى، قد يؤشر إلى جديّة من قبل الفاعل التنفيذي في الاستدارة الإستراتيجية نحو أفريقيا، في حال تمّت معاضدتها بإستراتيجيات لوجستية وفنية ودبلوماسية مترابطة مع بعضها البعض، وإلا فإنّ اللقاءات لن تخرج عن إطار العلاقات العامة والزيارات البروتوكولية التي لم تعُد تجدي نفعا في زمن المكاسرات الإقليمية والدولية على بيضة القبان الأفريقية.
رابط المقال:
https://alarab.co.uk/%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D9%88%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%AD%D8%A7%D9%82?fbclid=IwAR3yIn8QG2K2vWF-CNiXAhK-HnOl5ZB3mi0OadgMkyM495nZpfcWV6PEOxU

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP