الجديد

حركة “النهضة”: “من الجماعة الى الحكم”، مراجعات في طور الاختبار / 5 من 30/    

منذر بالضيافي
بدأت بعد الثورة، ومع الوصول للحكم، تبرز دينامية داخلية، يمكن أن تتحول الى لبنة يمكن البناء عليها، لإحداث مراجعات كبيرة، لا يمكن أن يكتب لها برأي التجذر الا عبر احداث قطيعة تربوية وابستيمية وعقدية مع “الارث الاخواني”، وهي عملية ما تزال بعيدة المنال، ربما تتحقق – لو استمرت حيوية التفكير – مع الجيل القادم للحركة، اذ أن الجيل المؤسس هو الذي ما تزل له سطوة القيادة بل مركزة القيادة، من ذلك أن الغنوشي، الذي أسس “الجماعة” في سبعينات القرن الماضي، ما زال هو الذي يقودها الى اليوم، ويتحكم في كل مفاصل القيادة والتسيير والخزينة وأيضا التنظيم، فضلا عن “الهيمنة الاعتبارية” التي يستمدها حتى من التسمية: “الشيخ راشد”.
بينا في المقالات السابقة، أن ما يسمى بالمراجعات المعلنة في المؤتمر العاشر للحركة ( ماي 2016)، التي وصلت حد التلويح بتصفية ارث المرجعية “الإخوانية”،  بل حصل ما يشبه التبرؤ منها، خاصة في صفوف القيادة، مقابل الإعلان – بشكل استعراضي أكثر منه أعمال فكرية وأدبيات جديدة – عن التصالح مع المدونة الإصلاحية التحديثية التونسية، بما في ذلك تجربة التحديث البورقيبية، التي ظلت الحركة تناصبها العداء، وتنظر إليها بعين الريبة، حد اتهامها – البورقيبية – بمعاداة الإسلام، والسعي إلى “غربنة” تونس وإلحاقها حضاريا بالتراث الاستعماري الأوروبي.
بالإضافة إلى الانفتاح على المفاهيم السّياسية اللّيبرالية الحديثة، و التفاعل مع مقولات كانت حكرا على “اليسار الماركسي”، مثل الصّراع الطبقي والمسألة الاجتماعية، وان كان بمفاهيم مستحدثة ومن المعجم الاسلامي مثل نصرة “المستضعفين”، الذي رفعته الثورة الإيرانية في نهاية سبعينات القرن الماضي.
كما برزت تجلّيات وملامح هذه التحوّلات، في الأداء السياسي للإسلاميين بعد ثورة 14 جانفي/يناير 2011، خصوصا في المرحلة التي تلت الخروج من الحكم. وبداية الإعداد للمؤتمر الوطني العاشر للحركة، الذي أعلنت الحركة  أنه مثل نقلة في العمل السياسي الإسلامي الحركي، قد ترتقي إلى القطيعة مع التصورات التقليدية السابقة، أي نحو ما بعد الاسلاموية التقليدية.
بداية مقدمات المرحلة الجديدة، بدأنا نلمس ملامحها وعناوينها الكبرى سواء من خلال الخطاب أو الممارسة السياسية، التي أظهر من خلالها الإسلاميون في تونس “مرونة” بل “براغماتية” و”واقعية” غير مسبوقة لدى هذا التيّار، براغماتية في حسن إدارة الصّراع مع خصومهم في الدّاخل، وأيضا في الحوار مع المحيط الإقليمي والدّولي، الذي مازال متمسّكا برفضه لحكم حزب إسلامي تقليدي.
لمسنا هذه التغيّرات – التي تبقى في طور الاختبار – من خلال خطاب وممارسة سياسية مستجدّة، خاصة لدي الحركات الإسلامية  المحسوب أكثرها على الفكر والانتماء الإخواني “التقليدي”، لكن ما يعاب علي هذه “المراجعات” ويجعلها محل تشكيك، كونه لم يصاحبها حراك ونقاش يكون مقدمة لانتاج أدبيات تؤسس لهذ التحولات أو المراجعات، فما تزال “النهضة” ترتكن إلى أدبياتها الاخوانية، من مثل وثيقة “الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي”، التي تعود لثمانينات القرن الماضي، وأصبحت تتناقض مع التزامات الحركة المجتمعية والسياسية، ومع الدستور الجديد الذي شاركت الحركة في كتابته.
من ذلك، أن حركة “النهضة” تبنت خطابا سياسيا بعيدا عن إطلاقية وشمولية شعارات البدايات، مثل “الإسلام هو الحل” و”الإسلام دين ودولة”، لصالح شعار جديد يقول بأن “الإسلاميين جزء من الحل”، ما استدعي بالضرورة خطابا سياسياّ مدنياّ، يتبنى الدّيمقراطية وآلية الانتخاب، باعتبارها طريقة وحيدة للوصول إلى الحكم، أي بمباركة واختيار الشعب، بمعنى أنّ الشّعب هو أصل السّلطة ومصدر شرعيتها، في قطيعة واضحة مع التصوّرات الشمولية التي ميزت مشروعهم الإسلامي.
إن الإجابة عن مدى جدية هذه المراجعات، تستدعي رصد التحوّلات الفكرية والسياسيّة، لتيار الإسلام السياسي في تونس، من خلال “الحفر” وفق عبارة ميشال فوكو، في مسارات الحركة الإسلامية في تونس (حركة النهضة). عبر العودة إلى تفكيك وإعادة تركيب الفكر والممارسة من فترة التأسيس إلي اليوم.
من فترة “الجماعة الإسلامية” في سبعينات القرن الماضي، التي مثلت أول نواة للعمل الإسلامي الحركي والمنظم في تونس، إلى فترة “الاتّجاه الإسلامي” خلال حقبة الثمانينات، ثم ميلاد حركة “النهضة” في تسعينات القرن المنقضي، حيث قبلت الحركة بالتنازل عن “الصّفة الإسلامية” في التسمية، من أجل عدم التّعارض مع قانون الأحزاب، الذي يمنع تأسيس الأحزاب على أساس ديني.
ولعل المتابع هنا، ومن خلال تغيير الاسم فقط يلاحظ أنه يعبّر عن وجود “حراك” أو “تدافع” داخلي، هو نتيجة للتّفاعل مع الواقع المجتمعي وكذلك السياسي والثقافي، الذي فرض على الإسلاميين البحث عن مفاهيم وبراديغمات جديدة لفهمه، كما فرض أيضا على “الجماعة” الخروج من “التقوقع” و”العزلة” في اتّجاه الدّفع بها نحو طلب الاندماج والمشاركة في “الشأن العام”.
هذا ما سنحاول الكشف عنه عند التطرّق إلى حصول “جدل” منذ السنوات الأولى داخل “الجماعة”، حول ضرورة تجديد الخطاب الديني صاحبه نقد “لاذع” للفكر الإخواني، نجم عنه حصول أول انشقاق، تمثل في خروج مجموعة ما سيعرف في ما بعد ب “الإسلاميين التقدميين”.
كما سيكون محلّ إشارة واهتمام عند التطرّق إلى ما أطلقنا عليه “اكتشاف السياسة”، إذ أنّ الجماعة اختارت بصفة تُعدَ مبكرة الدخول في عالم السياسة، بالمقارنة مع تجارب إسلامية أخري، ومنها تجربة “الإخوان” في مصر، وهي الجماعة الأمّ لما يعرف ب “الإسلام الإحيائي” أو”الصّحوة الإسلامية” في القرن العشرين (يعود تأسيس الإخوان إلى سنة 1928).
اختارت “الإسلامية التونسية” المشاركة في الشأن العام، عبر طلب رخصة تأسيس حزب سياسي، تحت مسمّى “الاتّجاه الإسلامي”، في 6جوان 1981، بعد عشرية واحدة من بداية العمل الإسلامي المنظم، الذي أخذ في البداية بعدا دعويا في المقام الأول.
ولعل هذه القناعة في اختيار منهج العمل السياسي العلني الحزبي، بدت متأكدة و راسخة لدي التيار الإسلامي في تونس. برز ذلك من خلال إقدام “الجماعة” في نهاية الثمانينات على تغيير الاسم مرة أخري ليصبح “حركة النهضة”(1989) وتقدّمت بمطلب للحصول على تأشيرة العمل القانوني.
لكن، في المناسبتين كان ردّ السّلطات التّونسية، متمثلا في القيام بحملات اعتقال وصلت ذروتها خلال زمن حكم بن علي (1990-2010)، بعد أن عمد النّظام إلى القيام بإجراءات استئصاليه للحركة، عبر الزّجّ بالألاف من منتسبيها في السّجون، زيادة على ألاف المهجّرين.
كما عمد أيضا إلى محاربة كلّ مظاهر التديّن، ولعل هذا ما يفسّر بعض أو جانب من المسؤولية عن تنامي التيارات السّلفية المتشدّدة وتحوّل تونس لاحقا – طبعا بتساهل طبعا من حكم الترويكا بقيادة النهضة – إلى بلد مصدر للإرهابيين، نتيجة “تصفية” كلّ منابع التديّن الوسطي.
وقد استغل نظام الرّئيس الأسبق زين العابدين بن علي صراعه مع الإسلاميين، في تدجين كل الحركات السّياسية، بما في ذلك التي تواطأت معه في القضاء على التيار الإسلامي. وحوّل بالتالي تونس إلى “مقبرة طيلة عشريتين”.
وكانت القبضة الأمنية سندا أساسيا في تجذير الاستبداد السّياسي والفساد المالي والإداري خلال 23 سنة من حكم بن علي، إلى أن قامت عليه ثورة 14 جانفي 2011، التي مهدت لها حركات احتجاجية  لعل أهمها في الحوض المنجمي (2008)، وفي الجنوب التّونسي(بن قردان 2010)، ولم يكن للإسلاميين مشاركة تذكر فيهما.
 
 
 

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP