الجديد

حركة “النهضة”: “من الجماعة الى الحكم”، اختبار "مدنية" و"ديمقراطية" الإسلاميين / 10 من 30/

منذر بالضيافي
مثّل وصول حركة “النهضة” الإسلامية إلى الحكم بعد الثورة، أكبر “امتحان” لمعرفة مبدئية قبول الإسلاميين بالدّيمقراطية من عدمه. خاصّة فكرة التّداول السّلميّ على السّلطة، وهي مسألة ملحّة خاصة وسط شكوك ترجّح أنّ الدّيمقراطية بالنسبة إلى الإسلاميين لا تعدو أن تكون أداة للوصول إلى السّلطة وبالتالي “التّمكين” للمشروع الإسلامي.
هذا ما جعل وصولهم إلى الحكم يثير – ولا يزال حتى بعد خروجهم منه- ، تخوفات لدي النّخب العلمانية وقطاعات واسعة في المجتمع التّونسي. من إمكانية تنكّرهم للخيار الدّيمقراطي الذي أوصلهم للحكم. واستعادة الخطاب الذي كان سائدا في “فكر البدايات”، وخاصة في العديد من المقالات المنشورة في مجلة “المعرفة” – التابعة للجماعة – بين 1972 و 1975 ، والتي كانت تحصر فكرة التعدديّة الحزبية في حالة عدم وجود الدّولة الإسلامية فقط، وترى بأنه لا وجود لتعددية في الدّولة الإسلامية، التي لا مكان فيها لغير “حزب الله”. ما يكشف على أنّ الجماعة تعمل على التّأسيس لمشروع مجتمعي بديل، وليس مجرّد حركة إصلاحية تروم إعادة سؤال “الهويّة” إلى الحراك المجتمعي والثقافي العام في البلاد.
ارتبط ظهور الإسلام السّياسي في تونس، بعد الإعلان عن حزب سياسي يحمل مرجعية إسلامية، بعاملين اثنين:
تمثّل الأول في وقوع حوادث تاريخية كبري، في حين ارتبط العامل الثاني بفشل النّمط التنموي لدولة الاستقلال أو”الدولة-الوطنية” وفق المنظور الغربي. فقد سبق للإسلاميين أن استفادوا من هزّات اجتماعية وأزمات سياسية سابقة حدثت في العالم العربي. مثلما ساهمت الأحداث السّياسية التي عرفتها المنطقة في دعم حضور الحركة الإسلامية في المجتمعات العربية، ومنها نكسة 1967، والتي تحوّلت إلى انتكاسة كان من علاماتها تراجع التيّار “القومي”.
كما يمكننا التّنبيه إلى أن الصّعود القويّ للحركات الإسلامية في أواخر الثمانينات وبداية التّسعينات هو إفراز لانتشار فكرة مشروع “النهضة الإسلامية الكبرى”، أكثر منه إفرازاً لدور البطالة والأزمات الاقتصادية، وإلا كيف نفسّر تواجد هذه الحركات في بلدان الخليج العربي الغنية بنفطها وبدخلها الفردي الخام.
يفسّر البعض الظهور القوي للإسلاميين في تونس زمن بورقيبة، “بقدراتهم” السّياسية على التّفاعل أو “التدافع” (مفهوم قراني يستعمل بكثرة في أدبيات الإسلاميين) مع الوضع السّياسي والاجتماعي الذي كانت تعيشه البلاد في نهاية السّبعينات من القرن الماضي، والتي تميزّت بالصّدام القوي بين نظام الرئيس الحبيب بورقيبة والاتّحاد العام التّونسي للشّغل، الذي مثل مقدمة لأحداث انتفاضة- 26جانفي 1978 – التي هزّت المنوال الاقتصادي والاجتماعي وأيضا البنية السّياسية للنّظام، من ذلك أنّها سرّعت بالدّخول في إصلاحات طالت لأوّل مرّة الجانب السّياسي والحقوقي، من خلال السّماح بتكوين الأحزاب والقطع مع هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السّياسية.
وهو ما أشار إليه راشد الغنوشي في مقال مطول تحت عنوان : “أطوار من نشأة الحركة الإسلامية في تونس.. من القرية الى الزّيتونة) (، حينما بيّن قدرة الحركة على “التّدافع” مع محيطها المحلي والدّولي.
مشيرا إلى تفاعل التيّار الإسلامي الحديث، مع رياح الأحداث العاصفة داخل البلاد وخارجها، مثل أحداث المواجهة العاصفة بين الدّولة وبين الحركة النّقابية، كما تفاعل مع بدايات ظهور الحركة الدّيمقراطية وحركة حقوق الإنسان، وتفاعل خارجيا مع بعض التّجارب الإسلامية التّجديدية مثل التجربة السّودانية بصدد مشاركة المرأة ودورها الفاعل، والتجربة الإيرانية في أبعادها الثورية المنتصرة للمستضعفين… ومع الفكر الاجتماعي والتاريخي لمالك بن نبي وعلي شريعتي.
وقد كان لهذا الانفتاح على أوضاع الصّراع الاجتماعي في الدّاخل، والتي كانت حكرا على الجماعات اليسارية، وتجارب التّغيير الثوري في إيران، والفكر التاريخي والاجتماعي من خلال أعمال المفكر الجزائري مالك ابن نبي، الأثر الايجابي في الخروج من بوتقة الفكر الإسلامي “التّقليدي” ومن أدبيات الإخوان، التي كانت المصدرالأساسي، في تكوين الرّعيل الأول والمؤسّس للجماعة في تونس. كما أنّه مثّل مقدمة للشروع في مراجعات – ما تزال متعثرة – لفكر النّشأة الأولى، في اتّجاه استيعاب لمنجزات الحداثة على صعيد حقوق المرأة والإنسان والمواطن وتأصيل الفكر الدّيمقراطي والانحياز إلى قضايا العمّال والمستضعفين.
برغم تعثر البعد الفكري، حيث لا نكاد نجد بعد قرابة نصف قرن من عمر العمل الإسلامي في تونس، أعمال فكرية وأدبيات مرجعية تذكر، باستثناء محاولات لراشد الغنوشي. ومع ذلك فان الانفتاح على الأفكار من خارجها وعلى الأحداث الكبرى وطنيا ودوليا، كان له أثره المقدّر في “امتداد أسباب الحوار والتّواصل والتّعاون مع قطاع واسع من الحركة الدّيمقراطية التّونسية، ومع الحركة القومية ومع منظومة حقوق الإنسان العالمية ومع كثير من القوى التحرّرية. كما كان له أثره في قطاعات واسعة من التّيار الإسلامي في الإقليم وفي العالم في اتّجاه التّفاعل الإيجابي مع الفكرة الدّيمقراطية والتّيارات العلمانية الحاملة لها.
و سيكون لهذا التّفاعل ثمراته في تعاطي حركة “الاتّجاه الإسلامي” ثم “حركة النّهضة” لاحقا مع الشّأن السّياسي في البلاد، سواء في علاقة بالسّلطة أو ببقية القوي والأحزاب السّياسية. و هو “تفاعل” سيخضع ل “الاختبار” و”الامتحان” وهم في سدّة الحكم. لكن مع ذلك نستطيع القول أنها أعطت خصوصية ساعدت على “إدماج” الإسلاميين في المشهد السّياسي التّونسي، وترجم من خلال توفّق النهضة إلى إجراء صيغ عمل مشتركة مع المعارضات اليسارية والعلمانية، سواء خلال فترة حكم بورقيبة، أو خلال العشرية الأولى من حكم بن علي.
وبرزت خاصة أثناء فترة “الاستئصال” التي تعرّضت لها الحركة من 1991 إلى 2010، بعد أن نجح النّظام – إلى حين – في تأليب التّيارات الحديثة ضدّ النّهضة وتخويفها منها، ولكن سرعان ما تمّ التّغلّب علي ذلك وعادت مظاهر التّواصل مع بقية مكوّنات المعارضة بما فيها أقصي اليسار، وكانت هيئة 18أكتوبر- جبهة لقوى المعارضة بما فيها الإسلامية- ضدّ نظام بن علي – تعبيرا عن ذلك.
كما استفاد الإسلاميون، من “الحالة الثورية” التي تلت ثورة 14 جانفي 2011 ليعودوا إلى الساحة بعد غياب استمرّ طيلة عشريتين، ففي ظرف أشهر قليلة توصّلت الحركة إلى إعادة ترتيب صفوفها وبناء التّنظيم من جديد، لتتحوّل إلى أهمّ قوة سياسية منظّمة في البلاد بعد حلّ حزب”التّجمع” الحاكم.
وهنا نجح الإسلاميون أيضا في حسن توظيف “المظلومية”، التي كانوا قد تعرّضوا لها زمن حكم الرّئيس الأسبق –الذي قامت عليه الثورة- زين العابدين بن علي، كما استفادوا من حالة الفراغ السّياسي، المتمثّل في غياب قوى حزبية منظّمة، هذا ما جعلهم يفوزون بالأغلبية المطلقة، في أول استحقاق انتخابي يجري بعد الثورة، انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ما خوّل لهم حكم تونس خلال الفترة ما بين 2011 و2013، وهي فترة تميّزت ببروز استقطاب إيديولوجي حادّ، وانقسام مجتمعي كبير وغير مسبوق، في بلد مثل تونس عرف بانسجامه الاثني والثقافي وحتّى الطبيعي.
يتبع …

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP