الجديد

قيس سعيد في “باريز” .. “اختبار الايليزيه” !

منذر بالضيافي

يمكن القول أن الزيارة التي سيؤديها رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى فرنسا، يومي الاثنين والثلاثاء (22 و 23 جوان الجاري)،  تمثل أول اختبار حقيقي للرجل في الحكم، خاصة  في علاقة “بقدراته”، على إدارة أحد أهم الملفات المنوطة بعهدته بمقتضى الدستور، و نعني هنا – طبعا – ملف  العلاقات الخارجية، بكل أبعادها المعقدة و المتشعبة، و التي تتسع من “فن التمكن” بالمجاملات و السلوكات النمطية البروتوكولية،  إلى قراءة واعية واستراتيجية لكل المتغيرات و الاكراهات السياسية و الاقتصادية، و اتخاذ موقف يضمن مصالح البلاد، هذا ما يجعل من “الزيارة الباريزية”، أول “اختبار” جدي للرئيس الوافد لعالم السياسة من خارج “السيستام”، والذي ما يزال يلفه “الغموض” حد “الريبة”،  في الداخل كما في الخارج.

انطلاقا، من هذه الزاوية يمكن اعتبار ” الرحلة الباريزية “، أول زيارة رسمية يقوم بها الرئيس قيس سعيد للخارج،  لأن زيارته للجزائر لم تكن ” امتحانا عسيرا “، بل وبرغم أهميتها فانها كانت “بروتوكولية”، إذ تحول إلى دولة  نتحدث معها بنفس “اللغة “، و نتقاسم معها منذ سنوات نفس المواقف تقريبا، علاوة على أن هناك “غطاء” حول ما يشبه الإجماع يحدد موقف الشعب التونسي من الجزائر.

الأمر يختلف اختلافا تاما مع فرنسا، و ذلك في عدة مستويات كشف بعضها مشروع لائحة “إعتذار فرنسا”،  الذي وقع تقديمه منذ أسبوع إلى مجلس نواب الشعب، والذي “يتزامن” مع زيارته لعاصمة الأنوار، وهو ما سيرمي بظلاله على الزيارة .

فإذا كانت العلاقة بين تونس و فرنسا ظلت ” مستقرة ” و لم تعرف هزات تذكر منذ الاستقلال،  فإن بعض الرواسب قد ظلت فاعلة بما في ذلك تصفية الإرث الاستعماري، و الدور الإقتصادي و السياسي لفرنسا في تونس، و الذي يمثل موضع تجاذبات سياسية تزداد حدة.

يدرك الرئيس قيس سعيد أكثر من غيره في هذا الصدد ، أن جانبا من قاعدته الانتخابية لا تحمل في قلوبها الكثير من الود للسياسات الفرنسية، بل أن بعضها يشكو من عداء مرضي يقترب من “الفوبيا” تجاه فرنسا، و هؤلاء لم ينظروا بارتياح لعدم إبداء رئيس الجمهورية لموقف داعم لمسألة الإعتذار، حتى و إن كان ” صمت ” الرئيس قد يكون مفهوما من الناحية الدستورية، و في سياق فهم خيوط اللعبة السياسية الداخلية،  و محاولة التموقع في الجهة المقابلة لمنافسي الداخل.

و هذا يعني أن القدرة على المزج الدقيق بين صرامة المبادئ و مقتضيات اللحظة سيكون أحد أهم الإمتحانات التي سيخوضها قيس سعيد في “الرحلة الباريزية”،  لأن ابتعاد قيس سعيد المترشح للانتخابات الرئاسية، عن قيس سعيد الرئيس ستؤثر على شعبيتهن و لأنه في المقابل لا يمكن أن “يعادي ” بشكل مجاني و طفولي فرنسان التي تبقى رقما مهما في المعادلات السياسية و الإقتصادية و الثقافية لا لبلادنا فقط بل للمنطقة ككل.

تتجلى هذه الأهمية بالنسبة لتونس،  في الحصول على مزيد من الدعم المالي، و في توظيف مكانة فرنسا لتحسين القدرة على النفاذ إلى أوروبا،  علاوة على أن التوترات التي تعيشها المنطقة، ترفع من أهمية التعاون الأمني و العسكري، و لكنها تضع رئيس الجمهورية أمام إمتحان صعب في ما يتعلق بالوضع في ليبيا.

فكما هو معلوم فان  الخلاف حول الملف الليبي،  قد تحول إلى “أزمة سياسية”  حادة  بين فرنسا و تركيا، و لا نخال قيس سعيد ينسى أن لتركيا حضورا مؤثرا ووازنا في المشهد السياسي التونسي، و هو ما يعني أنه مدعو لقراءة جيدة للموقف الذي سيعبر عنه في قصر الأليزيه، سواء بلغته العربية التي اعتاد التواصل بها، أو بلغة “فولتير” التي كان أسلافه في قرطاج، خاصة بورقيبة وقايد السبسي يتقنونها جيدا بل حتى أكثر من الكثير من الفرنسيين، كما يتقنون الفنون والثقافة الفرنسية، على خلافه هو القادم من “أفق ثقافي آخر”.

لا شك أن  زيارة قيس سعيد إلى باريس ستثير ” فضول ” الفرنسيين، و لكنها ستمثل خاصة مبعث إهتمام التونسيين و التونسيات سواء المقيمين بفرنسا أو في الداخل، كما أنها ستثير الكثير من “الفضول” الفرنسي و أيضا في العاوصم الغربية، قد يكون مرده شخصية الرئيس التونسي الجديد والغير متعارف عليها أوربيا والتي توصف ب “الغامضة”،  فهو رئيس “لا نمطي ” تسلل إلى عالم السياسة دون رصيد يذكر، شخصية ” غامضة” تصنف ضمن دائرة “الشعبوية” و “المحافظة” في أدائها و في علاقاتها.

هذا ” الغموض ” انعكس أيضا على الكيفية التي وقع بها إعداد هذه الزيارة على خلاف “التقاليد” و “النواميس” التي كانت معلومة في السابق،  زيارة ما تزال تفاصيلها غير معلومة، زيارة  قد يغيب عنها وزير الخارجية، و قد لا تشارك فيها “السيدة الأولى “، وهذا أمر يبعث على الحيرة،  رغم أن البروتوكول يفترض حضورها،  في مأدبة العشاء الرسمية،  التي سيكون قصر الاليزيه مسرحا لها، نقول هذا في غياب معلومات وبيانات رسمية من قرطاج قبل ساعات قليلة من التحول لباريس.

لا شك أن أهمية العلاقات الاقتصادية بين تونس و فرنسا،  لا تنسجم مع غياب يبدو أنه متوقع لرجال الاعمال في “الرحلة الباريزية”، لأنه لا يمكن تخيل تعاون بين البلدين ثنائيا أو في إطار متعدد الأطراف دون حضور للفاعلين الاقتصاديين، ونفس الشيء ينسحب أيضا على رجال الفكر والاعلام ، خاصة وأن هناك “تسريبتات” على أن الوفد الرئاسي التونسي سيكون “مضيقا” و “محدودا”، وقطعا سيكون مختلفا عن وفود زيارات الرؤساء السابقين، بورقيبة والسبسي الذين كانت تربطهم “صلات مودة” ثقافية وتاريخية بالثقافة الفرنسية، وهم الذين زاولوا تعليمهم في جامعات باريس.

لقاء قيس سعيد بممثلين عن الجالية التونسية بفرنسا، قد لا يكون مثمرا إذا اقتصر على الجانب الشكلي و ” الفلكلوري “، لأن التونسيين بالخارج يشعرون باحباط متزايد من السياسات المتبعة تجاههم،  و يريدون قرارات تبدد احباطهم و مخاوفهم.

أخيرا، ما يبعث على الانشغال هو اعداد “الزيارة الباريزية” وتونس دون سفير في فرنسا منذ 7 أشهر في سابقة تحدث لأول مرة في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، و لعل من بين القرارات التي تأخرت حد “عدم تفهمها”، تلك المتصلة بسد الشغور على مستوى سفارة تونس في باريس، و هو شغور طال أكثر مما ينبغي و قد يؤثر سلبيا على مجريات هذه الزيارة لأن للسفراء عادة دورا هاما في التمهيد لزيارات الرؤساء…

في كل الحالات ننتظر ونتابع نتائج زيارة هامة لا نبالغ بالقوال أنها ستكون “اختبار” لساكن قرطاج ومنها ستكون مناسبة لاكتشافه من الخارج خاصة الخارج الغربي الذي تربطه “عرى وثيقة” ببلادنا، كما سنكتشف أيضا “أسرار” زيارة،  تم أعدادها بعيدا عن الأنظار، و تمت تحت أنظار الثنائي  ” رئيس الجمهورية و مديرة ديوانه”، وكليهما يفتقدان للخبرة والمعرفة، بكواليس ونواميس هكذا زيارات.

أخيرا، كل التوفيق ل “الرحلة الباريزية”  …

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP