الجديد

راشد الغنوشي .. الابن "غير الشرعي" لبورقيبة !

خديجة زروق
غالبا ما نردد ان التاريخ يقوم على مكر نادرا ما نتوقف عليه و ما ندرك كنهه و نتذوق طعمه الا ان الوقوف على مكر التاريخ لا يتاح إلا في بعض اللحظات و لا يصادف إلا بعض الاشخاص.
و يبدو اعتلاء راشد الغنوشي لكرسي رئاسة البرلمان التونسي تتويجا مؤكدا لمسيرة سياسية و أساسا لحظات من لحظات مكر التاريخ التي سمحت بتحقق حدث كان في مجال اللا مفكر فيه لو عادت عقارب الساعة الى عقدين من الزمن أو الى سبعينات القرن الماضي التي شهدت انطلاق راشد الغنوشي في نحت مسيرة سياسية “لا نمطية “حين ننزلها في سياق مواصلة مسيرة بناء الدولة الوطنية التي لم تترك للنخب الفكرية و السياسية الا طريقين للمشاركة السياسية و هما تعزيز صفوف حزب حاكم اخذ يزداد حرصا على إحكام قبضته على الدولة و المجتمع أو معارضة سرية ذات توجه يساري بالأساس.
اختار راشد الغنوشي طريقا آخر و هو طريق “الدعوة الإسلامية “الذي لم تكن “الحداثة البورقيبية” تنظر اليه بجدية، و الذي استبق عالم الاجتماع عبد الباقي الهرماسي ظهوره بسنوات ليؤكد بلهجة انتصارية أنه لا مستقبل للحركات التي تستلهم من تجربة الإخوان المسلمين في تونس ، لأن مسار التحديث القائم على تعميم التعليم و تطوير وضعية المرأة ، إلى جانب “دولنة المجتمع ” قد بنى حصنا يحول دون “الحنين للماضي” .
من “شقوق” هذه الحصون غير المرئية تسرب راشد الغنوشي و “اخوانه ليطرقوا أبواب الغاضبين  و ليستقطبوا من لم يقطعوا مع الحنين، و هو ما جعلهم  يسببون حالة “وجع” دماغ دائم للدولة الوطنية، و لرئيسيها الحبيب بورقيبة و زين العابدين بن علي، اللذان لم يجدا إلا المواجهة الأمنية أسلوبا لمواجهة حركة انتقلت من جماعة دعوية إلى “اتجاه إسلامي ” يؤمن بالقطيعة مع دولة ، ويعتبرها قد ابتعدت عن الإسلام،  الى حركة نهضة تتبنى الديمقراطية و لا تهمها هوية الدولة.
هذه “المراجعات” التي اقدم عليها راشد الغنوشي لم تقنع الماسكين بدواليب الدولة و لا النخب الفكرية التي اعتبر قطاع واسع منها أنها “تنازلات تكتيكية” و هو ما جعل حركة النهضة تخوض شبه معزولة حملة تجفيف المنابع التي فرضها عليها زين العابدين بن علي.
و دفع راشد الغنوشي لأن يختار المهجر وتحديدا من لندن مقرا ومنفى ، كان الجميع يتصور انه سيكون ابديا لكن مكر التاريخ اراد أن تعصف تفجيرات سبتمبر 2001 بالتوازنات القائمة و ان تعيد طرح القوى الدولية  التفكير في التعاطي مع  الأنظمة العربية، ليتسلل راشد الغنوشي من كوة جدار الدعم الأمريكي و الأوروبي لنظام بن علي، و ليتحول إلى احد المدافعين عن الحريات و إلى نموذج في تطوير الحركات الإسلامية، تنهل من افكاره حركات المغرب و تركيا التي تبنت “العدالة والتنمية ” و أصبحت من مكونات الحكم في البلدين.
و مع تشكل تحالف 18 اكتوبر 2005 لم تعد وضعية راشد الغنوشي و النهضويين مجرد ملف يطغى عليه البعدين الأمني و الإنساني بل استعادوا دورا سياسيا أعتقد كثيرون انهم فقدوه.
و بعد 14 جانفي 2011 وجد راشد الغنوشي نفسه في صدارة المشهد بوصفه رئيس الحركة التي تلعب الدور الأول في الساحة، و هو ما جعله عرضة لنقد جاوز احيانا الحدود دون أن يبدر منه ما يفيد التبرم، بل واصل طريق المراوحة بين خطاب ثوري يلوح بالقضاء المبرم على المنظومة القديمة، و فتح قنوات التواصل معها إلى حد بلغ “التوافق ” مع ممثليها و الذين اتهمهم بمحاولة قبل ذلك بمحاولة “رسكلتها”.
و هنا يتجلى طابع براغماتي طاغ على شخصية “الشيخ ” يجعله بشكل من الاشكال يستلهم عن وعي أو دون وعي الكثير من “براغماتية “بورقيبة و “مرحليته” في التعاطي مع الأحداث والفاعلين فيها، ليبدو بذلك وكما قال عالم الاجتماع عبد القادر الزغل “الابن غير الشرعي” للبورقيبية.
و يبدو أن راشد الغنوشي لم “يرث “هذا الجانب من بورقيبة فقط بل ورث حرصا على التمسك بمسك كل خيوط اللعبة داخل حركته و شغفا برئاستها بشكل دائم و قدرة لافتة على التخلص من معارضيه داخل الحركة و عشقا لأكل اطباق الانتقام السياسي باردة ، حتى لا تسبب له سوء هضم سياسي.
والان وهنا، وبعد مسار رحلة طويلة ومعقدة،  يبدو اعتلاء سدة البرلمان أفضل تتويج و انتقام من دولة وطنية بادلها العداء،  و لكنه رفض الاجهاز عليها حين سنحت الفرصة، و أعاد تشكيلها بطريقة سمحت له في الكلمة التي ألقاها بعد انتخابه رئيسا لمجلس نواب الشعب أن يتجاهل كل المرحلة التي سبقت 14 جانفي 2011 و أن لا يستحضر منها إلا السلبيات و جلولي فارس، الذي توجه له بتحية هي ايضا تحية لمدينة الحامة التي انجبتهما، و التي انطلق منها راشد الغنوشي في رحلة انتهت به رئيسا للبرلمان.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP