الجديد

خالد شوكات يكتب عن : محمد مزالي .. الذي نفتقد*

إني أنظر للأستاذ محمد مزالي باعتباره عَلَماً من اعلام الحركة الديمقراطية العربية، ذلك أنه من أوائل من كتبوا تبشيرا بها، كما انه من أوائل حكام المنطقة العربية الذين سعوا جدّيا لتنزيل أفكارهم في التعددية والحريّة إلى ارض الواقع، رغم إكراهات هذا الواقع وتحدّياته الكثيرة وعقباته الجمّة.
لقد كان الاستاذ محمد مزالي – الذي اصبح رئيسا للوزراء بمحض الصدفة ذات يوم من سنة 1980 عندما ألم بسلفه المرض- هو من أقنع الزعيم بورقيبة بضرورة اضفاء جرعة من التعددية على المشهد السياسي المتأزّم، وبالتالي اتاحة الفرصة للمعارضة للمشاركة في الانتخابات وإدارة الشأن العام، وعلى الرغم من تعثّر التجربة الانتخابية لسنة 1981، إِلَّا أن بذرة التغيير بقيت عالقة في الارض التونسية، وعلى أساسها ستبنى تجارب التعدّديّة اللاحقة.
ان زمن الاستاذ محمد مزالي كرئيس للوزراء بين 1980 و1986، كان سنوات التحوّلات العميقة التي ستزعزع أركان المنطقة والعالم، حيث عاشت تونس انفتاحا سياسيا غير مسبوق، تأسست من خلاله عشرات العناوين الصحفية، وتحرر النشطاء الحقوقيون والنقابيون من كثير من القيود، وعبّر المجتمع المدني عن أشواقه في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لم يكن الاستاذ محمد مزالي مطلق اليدين في السلطة، ولا كان الرجل الاول في البلاد، في ظل وجود زعيم كبير واستثنائي في حجم الحبيب بورقيبة، ولكنّه حاول وهو يرأس الحكومة أن يكون حاكماً صاحب مشروع حضاري وطني يعمل على استكمال الاستقلال، ومن هنا طرحه لرؤية اصلاحية متعددة الأبعاد، فقد تحرّك الرجل في كل الاتجاهات، في الداخل عبر زياراته الميدانية لجميع ولايات الجمهورية، وفي الخارج من خلال تواصله مع محيطه العربي الاسلامي النوعي، وانفتاحه على البعد الأفرو-اسيوي خاصّة، ولعلّ كل ما يوصي به خبراء التنمية اليوم، نجد له أثرًا في مسيرة الاستاذ الحافلة بالمنجزات.
لم يخن الاستاذ محمد مزالي مرجعيته الفكرية المتشبّثة بهوية بلاده العربية الاسلامية، كما لم يخن الحاكم “المفكر” و”المثقف” الذي بداخله، وظلّ إلى إلى جانب رئاسته للحكومة، مديراً مسؤولا عن مجلّته “الفكر” التي صدرت بانتظام كما لم تصدر أي مجلّة شهرية تونسية أخرى طيلة واحد وثلاثين عاماً بشكل منتظم، وكانت خير سفير لتونس لدى شعوب الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. توجد مباحث كثيرة تحتاج جهود الباحثين في فكّرَ الاستاذ محمد مزالي وسيرته النضالية والوزارية المديدة، مشروعه الديمقراطي ورؤيته للهوية ومفهومه للتنمية ونظرته لاستكمال الاستقلال وصلاته بالعالم العربي الاسلامي وجولاته الافريقية والاسيوية، وإصداراته الأدبية والفكرية، وعلاقاته الانسانية، وأطروحاته التربوية.
لقد كان شخصية متعددة المواهب والاهتمامات، فقد كان سياسيا ومثقفا وأديبا ومفكرا ورياضيا..وهو نموذج لرجل الدولة الوطني ذو التكوين المعرفي المتين وصاحب اليد النظيفة المظلوم حيّاً وميّتاً.
لقد كان لي شرف صحبة الاستاذ محمد مزالي ومرافقته والسفر معه طيلة السنوات العشر الاخيرة من حياته المديدة، وإنّني لأفخر بأنّني من تلامذته وحملة أمانته الفكرية والسياسية، وعلى قناعة تامّة بأن توجهاته الكبرى كانت في مجملها صحيحة، دون عصمته من الخطأ أو تبرئته من اجتهادات قد لا تكون صائبة وقرارات قد لا تكون في محلّها، لكن الثابت عندي إلى اليوم ومنذ ثلاثين عاما، هو ما ثبّته الاستاذ في عبارته السديدة:” نحن مسلمون ولسنا إسلاميين، وعروبيون ولسنا قوميين عرب، واجتماعيون ولسنا شيوعيين، وديمقراطيون ولسنا مستبدين”.
لقد كان الاستاذ محمد مزالي مؤمنا بالوحدة المغاربية، عاملا على تجسيدها، ومؤمنة بالتكامل العربي ساعيا إلى التمكين له، ولعل السير في شوارع العاصمة من قبّة المنزه إلى كورنيش البحيرة، ومن يسافر من بنزرت حتى بنقردان، سيقف على إنجازات هذا الرجل وآثار محاولاته الدؤوبة في التأصيل والتجديد، وفي الديمقراطية والتنمية.
لقد تمكن الاستاذ محمد مزالي عبر العقود، من ربط شبكة من العلاقات الانسانية المتينة، خصوصا مع محيطه العربي الاسلامي، عمل بكل اخلاص على توظيفها لصالح بلاده، في مسعاها للتقدم والرفعة، لكن حقائق عصره لم تتجلى في كثير منها الا بعد وفاته، كما ان حقائق مشروعه الحضاري ما تزال محجوبة في اغلبها ولم يظهر بعضها الا بعد جهاد ومكابدة، ومن ذلك ان تنظيم هذا المؤتمر قد تعثر عدة مرّاتٍ لظروف مستجدة وبعض العقبات الآي صنعها بعض البشر وساعد على تذليلها أصدقاء اعزاء اوفياء، لو لاهم ما جلسنا اليوم لنواصل حمل مشعل الفكر الوطني وعقيدة المساهمة في بناء الوطن، مصداقا لقول الراحل رحمه الله، ” ماذا سيبقى منا بعد الموت الا هذا الاثر الطيب وتلك الكتب”.
لقد غادر الاستاذ محمد مزالي أشهرا قليلة قبل الثورة هذه الدنيا الفانية، وفي قلبه كما اعلم غصَّة وحسرة، لانه كان يطمح الى رؤية بلده مختلفا، اكثر حرية واكثر كرامة، واكثر أصالة واكثر معاصرة، ولكنّه ككل من يكتب سيبقى.. سيبقى في دعوته لهوية وطنية متجذرة في بعدها العربي الاسلامي، وسيبقى في دعوته لإقامة نظام ديمقراطي عصري ودولة مدنية محترمة، وسيبقى في مسعاه لتحقيق استقلال مكتمل بالتنمية العادلة والشاملة والمستدامة، وسيبقى حاضرا بيننا في ما ينتجه الكتاب والاُدباء والشعراء الذين وهاهم، كما سيبقى حاضرا في دعمه لقضية الامة العادلة، قضية فلسطين المغتصبة.
*في الأصل كلمة افتتاحية ألقيت في الجلسة الاولى لندوة نظمها المعهد العربي للديمقراطية بمدينة المنستير يومي السبت والأحد 23 و 24 نوفمبر 2019.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP