الجديد

المسألة الدستورية في مسار الانتقال الديمقراطي  

بقلم: خالد شوكات
دعيت يوم الثلاثاء 26 نوفمبر 2019 للمشاركة في ندوة علمية بمناسبة الذكرى 70 لإعلان الدستور الهندي، في كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة تونس المنار، للحديث عن الدستور التونسي الجديد باعتباره أبرز محطات مسار الانتقال الديمقراطي، الذي نراه نحن في الداخل صعبا وربما متعثّرًا، ويراه غيرنا في الخارج موفّقا وناجحا، ومن بين هؤلاء السفير الهندي الجديد في بلادنا السيد “بونيت روندال”، الذي قال ان “ديمقراطيتنا الناشئة هي ديمقراطية مكتملة ونموذجية في المنطقة والعالم”. .
عند تناولي الكلمة، حاولت أن أركز في مقدمة مداخلتي على بيان أهمية كلمة “دستور” في تاريخنا، قائلا بكل تواضع أنه ليس هناك شعب أو بلد ارتبط بهذه الكلمة، مثلما ارتبطت تونس والتونسيون، فنحن منذ جمهوريتنا الاولى قبل نحو ثلاثة آلاف عام، أي جمهورية قرطاج، كان لنا دستور ذاع صيته حينها في الافاق، فقد أشار اليه الفلاسفة الإغريق في كتبهم، ومن بينهم أرسطو، ووصفوه بأنه أفضل من دستور روما.
أما في التاريخ الحديث والمعاصر، فقد كانت تونس سبّاقة في مجالها العربي الاسلامي، حيث كتبت دستورا قبل غيرها، هو دستور 1861، بينما كتبت الهند دستورها سنة 1949. وبعد ثلاث سنوات من نيلها الاستقلال صادقت تونس على دستورها الثاني في 1 جوان 1959، وهو دستور الجمهورية الأولى، وقبل ذلك بثلاثة عقود، وتحديدا سنة 1920، أسس الوطنيون التونسيون المناضلون من اجل استقلال بلادهم بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي “الحزب الحر الدستوري” الذي طالما عرف بحزب “الدستور” كما أخذ أعضاؤه نعت “الدساترة”، ومن هنا كانت الصلة بين بلادنا والظاهرة الدستورية صلة بنيوية وعروة وثقى لا تنفصم عراها.
يعتبر الدستور التونسي الجديد المصادق عليه في 26 جانفي 2014 (149 فصلا/ 10 أبواب) من الدساتير الموجزة المختصرة قياسا بالدستور الهندي (395 مادة/ 22 جزء) الذي يعد من فئة الدساتير المسهبة والمفصلة، لكنهما يلتقيان في خصائص كثيرة مشتركة، ويختلفان في أخرى متعددة، وذلك مردّه الى اختلاف المعطيات الجغرافية والتاريخية والحضارية بين البلدين من جهة، والى نقاط التقاء أيضا لا تقل أهمية، لعل من بينها مقارعتهما للاستعمار الغربي واشتراكها في منظمة دول عدم الانحياز، وقد قلت ان من ابرز ما يمكن لنا كتونسيين الاستفادة منه في مسعانا لبناء دولة ديمقراطية وتنمية مستدامة، أمران، الاول اصرار الهند على الحفاظ على نظامها الديمقراطي رغم كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها قبل التقدم التنموي الكبير الذي أحرزته خلال العقدين الاخيرين، والثاني ادارتها الجيدة للتنوع في سياق حكم محلي متطور استوعب تنوعها الديني والاثني واللغوي وحول تعدديتها الى اكبر نعمة ومصدر للثراء القومي.
قلت كذلك، انني اعتبر أهم اضافة جاء بها الدستور التونسي الجديد قياسا الى سابقه، تنصيصه على “الدولة المدينة” التي تشكل في رأيي حلّا تونسيا عبقريا لقضية الصراع الاسلامي – العلماني المتفجرة في المجال العربي الاسلامي منذ القرن 19 الى اليوم، وكانت السبب في سقوط بلدان في نزاعات داخلية وحروب أهلية مدمرة، فالدولة المدنية كانت بمثابة توافق تاريخي بين معسكرين بدا التوافق بينهما لعقود غير ممكن، لكن تونس جعلته ممكنا بفضل عبقرية شخصيتها التاريخية ومقدماتها الديمقراطية التي حوّلت مسارها الثوري الى مشروع اصلاحي.
لقد جاء في الفقرة الثالثة من ديباجة الدستور التونسي الجديد ما بعد نجاح الثورة ما يلي:” وتأسيسا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب…”، كما ورد في الفصل 2 منه، وهو فصل لا يقبل التعديل إن:”تونس دولة مدنية، تقوم على مواطنة، وارادة الشعب، وعلوية القانون.”. بالعودة الى فصول أخرى ذات صلة بفحوى الفصل2 سنجد ما يلي: * الفصل1:”تونس دولة حرة … الاسلام دينها”، أما الفصل 6 فيشير الى أن “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والدين وممارسة الشعائر الدينية، وضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي .
تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح، وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف بالتصدي لها. * وفيّ الفصل 7 يؤكد على أن “الاسرة هي الخلية الاساسية للمجتمع، وعلى الدولة حمايتها”. * وفيّ الفصل 31 يشير إلى ان “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة”. وبناء على ما تقدم من فصول دستورية فإننا سنقف على اختلاف واضح بين “الدولة المدنية” التي اعتمدها دستورنا التونسي الجديد وبين “الدولة العلمانية” التي تبناها دستور الهند، الذي جاء في تمهيده ما يلي: “نحن شعب الهند، عزمنا ان نشكل الهند كجمهورية ديمقراطية اشتراكية علمانية ذات سيادة، تضمن لمواطنيها حرية الفكر والتعبير والاعتقاد والإيمان والعبادة”. وفيّ المادة 15 يشير الدستور الهندي الى “حظر التمييز على أساس الدين أو العرق أو الطائفة أو الجنس أو مكان الولادة”، أما في المادة 25 منه فيؤكد على حرية الضمير وحرية اعتناق وممارسة ونشر الدين.
وهكذا نلمس التقاء الدولة المدنية في نموذجها التونسي والدولة العلمانية في نموذجها الهندي في موضوع صِمَام الحريات العامة والفردية، بينما نلمس اختلافهما في موضوع رعاية الدولة للدين حيث تبدو الدولة التونسية متدخلة في الشأن الديني بينما تقف الدولة الدينية موقفاً محايداً.

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

^ TOP